أن يكون الفن منذورًا بالكامل للحرية غير المشروطة، ومتنافذًا مع الحياة المجردة من الإكراهات والوصاية بأشكالها كافة، يعني أن تكون على مقربةٍ من "الدرجة الصفر" التي تذوب معها المسافة بين الفن والحياة. ويعني في الوقت نفسه، أن تكون على مقربةٍ من نزعة "التمرّد" التي لازمت سيرة الفنان ضياء العزّاوي (1939- بغداد) وحفرت علاماتها عميقًا في مسيرته الحافلة بالمغامرة والثراء، والمشرعة على آفاق التنوّع والجمال.
بخطى الرائي المستكشف لأحوال المرئي وتحولاته، واصل العزّاوي على مدار ستة عقود، ترسيخ واحدةً من العلامات الفارقة في التشكيل العربي المعاصر، جاعلًا من تقصّياته واشتباكاته الفنيّة، ظاهرةً عابرةً للجغرافيا وأنماط التعبير التي أفضت تراكماتها الإبداعية إلى استحقاقه أخيرًا جائزة "نوابغ العرب" الأبرز من نوعها عربيًا والتي أطلقها نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عام 2022، بهدف تقدير النوابغ في العالم العربي، وتمكينهم وتعظيم أثرهم الأبداعي في ست فئات حيوية تشمل الأدب والفنون، والعمارة والتصميم، والطب، والاقتصاد، والعلوم الطبيعية، والهندسة والتكنولوجيا.
بدأ العزّواي مسيرته الفنيّة في عام 1964 مباشرةً بعد دراسته الآثار والفنون الجميلة في جامعة بغداد. وانطلاقًا من معرضه الأول في عام 1965 في غاليري الواسطي ببغداد، وما تلاه من معارضٍ ومشاركاتٍ وحضورٍ دائبٍ في الفعاليات الفنيّة العربيّة والعالميّة، ظلّ العزّاوي الذي اختار منفاه "اللندني" في عام 1976، بسبب عدم توافقه مع النظام العراقي آنذاك، مسكونًا بإعادة إنتاج إرثه الحضاري بروافع جماليّة ٍمعاصرةٍ، تعبيرًا وإنشاءً وتكوينًا. وبعد أن تصدّر مع ستة فنانين من مجاييليه في عام 1969، تأسيس جماعة "الرؤية الجديدة" بخطابٍ غير مسبوقٍ لجهة علاقة الفن بموروثه وواقعه السياسي والاجتماعي، وبعد مروره بمراحل متعاقبة ومتداخلة، وجد العزّاوي نفسه في معتركٍ جديدٍ أفضى به إلى انفتاح مشروعه الفني بخزينه الحضاري والثقافي، على أفقٍ إنسانيٍ عابرٍ للهويات والثقافات.
توظيفه للرموز والإشارات والحروفيات والموروث الشعبي ومفردات البئية العراقية، والمستوحاة من عمقها الحضاري والثقافي، لم يكن في بداياته الأولى أواسط ستينيات القرن الماضي، سوى واحدة ًمن نتائج تأكيده المبكّر على أهمية معالم هويته، وتعزيز ارتباطه بجذوره وموروثه، وذلك بتأثيرٍ من إنجازات "جماعة بغداد للفن الحديث" التي أسسها في عام 1951 فنانون من رواد التشكيل العراقي المعاصر، من أبرزهم جواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، ومحمد الحسني. تلك "الجماعة" التي راحت تصبّ جلّ اهتمامها وعنايتها بالموروث الحضاري والتراثي في نطاقه المحلي، على غير ما ذهبت إليه جماعة "الرؤية الجديدة" التي أخذت موقفًا مغايرًا بدعوتها إلى إعمال النظر في ذلك الموروث بهدف إعادة إكتشافه، والانفتاح معه على أفق الحضارة الإنسانيّة.
انطلاقًا من هذه المرحلة، وعبر سلسلة من الاستنباطات التدريجيّة في مجال الرؤية والتعبير، سيكون على الفنان إطالة النظر إلى مخبوءات الظاهرة المرئية في موروثه وبيئته، ومعاينة التماعاتها وارتساماتها والوقوف معها على عتبات أفقٍ جديدٍ منفتحٍ على ثقافاتٍ مغايرةٍ ومتنوّعة. أفقٌ أكثر انتسابًا لروح العصر، وأكثر اتساعًا من نطاق الخصوصيات المغلقة والمنكفئة على نفسها. إنه الأفق الذي أتاح للفنان تحقيق انتشاره العالمي بعد منفاه الاختياري المتواصل منذ نحو خمسة عقود.
الوقوف أمام السياق التراكمي لمنجزه الفني، بتنوّع وسائطه وتقنياته في الرسم والنحت والخط والحفر والملصق، يضعنا مباشرةً أمام خصوصيّة نسيجٍه البصري الذي ما فتئ يحيكه بروافع التأصيل والانفتاح على أفقٍ معاصرٍ بامتياز. نسيجٌ متماوجِ الإيقاع في مقارباته وتداعياته الواقعيّة والتخيّلية. نسيجٌ ليّنٌ ومرنٌ، نافذٌ ومتنوّعٌ في تصاديه مع مرجعيّاته ومؤثّراته البصرية التي نتعرّف على بعض ارتساماتها وتقمّصاتها في واحدةٍ من أهم مقارباته الرياديّة، وهي توظيفه مفردة الحرف العربي التي شكّلت إحدى العلامات الضّافية في مسيرته الفنية منذ منتصف ستينيات القرن الفائت. وهي المفردة التي بدأت ملامحها المبكرة بالتشكّل مع أعماله في "دفاتر الرسم" التي ابتدأها مع "مقتل الحسين" عام 1968، وتوالى حضورها بعد ذلك مع مختاراته من الموروث الحضاري والشعر العربي القديم والحديث، ومن ضمنها مجموعة رسوم كرّسها لملحمة "جلجامش"، وتبعها بمجموعة مختارة من نصوص الحلّاج، ومن ثم دفترًا لقصيدة "انتظريني عند تخوم البحر" للشاعر العراقي يوسف الصائغ عام 1971، ومجموعة "المعلّقات السبع" عام 1978، و"مقامات الحريري" و"طوق الحمامة" وغيرها العديد من أعماله التي تتابعت في الاشتباك مع الحرف والكلمة ومقتطفات ونصوص لشعراء عديدين، منهم: بدر السيّاب وأدونيس ومحمود درويش وسركون بولص. وكان في كلّ مرة يُراكم تنويعاتٍ وصياغات اكتسب معها الحرف حضوره المتماهي مع نسيج العمل، ومع سياقه التعبيريّ والتكوينيّ.
رفضه الوصاية بأشكالها المختلفة، وتتدرّجه في الوصول إلى أفقه الجديد في المعاينة والتجريب والتجديد، تجلّيا بوصفهما استجابةً عفويةً لنزعة التمرّد التي تمرّس في إذكاء شعلتها في الفن والحياة على السواء. ولم يكن التصاقه الوثيق مع الواقع وقضاياه، سوى تعبير عن موقفه الأخلاقيّ والجماليّ في مواجهة الظلم والاستبداد. إنه الموقف الذي شكّل لاحقًا، منطلقًا تعبيريًا للعديد من أعماله ومشروعاته الفنيّة التي واكبت المآسي العربية الناجمة عن الاضطرابات السياسية، وطغيان النخب الحاكمة وفسادها، وقلما تصدّى لها فنانٌ عربي بمثل ما تصدّى لها العزّاوي، مجترحًا في كلّ مرةٍ، طرائق وصياغات ملتحمةً مع ضراوةِ الحدث وفظاعته، ما جعل من أعماله بتنوّعاتها، وبما راكمته وتعالقت معه في محيطها الناغل بالحروب والويلات، بمثابة شهادة حيّة على إمكانات الفن في مواجهة الظلام والخراب.
واجه العزّاوي في مسيرته المديدة من دون انقطاعٍ أو اجترار، مرئيات العالم بأدوات المغامرة والتجريب والتجديد، فكان له ما كان؛ تقليص المسافة إلى حدودها القصوى بين الفن والحياة. ستة عقود مرّت على إطلاقه أعنّة التخييل والخيال التي نسجت خيوطها الأولى مع السومري الذي ترك مُلكه طلبًا لعشبة الخلود. وبعد سلسلة اشتباكاته المتصادية مع ممكنات الواقع والمجاز، ما يزال العزّاوي يطوف بنا على محطات الذاكرة السحيقة والمترامية منذ "جلجامش" وإله الإبداع "إنكي" و"جماعة بغداد" و"الرؤية الجديدة" وما تلاها من محطاتٍ ومعتركاتٍ، حتى آخر محطةٍ من محطات الراهن بتحوّلاته وتقلّباته الواعدة بـ"العصف الجميل".
في هذا الحوار نتوقف مع ضياء العزّاوي عند أبرز تلك المحطات، مُعرجين معه على بعض دروبها ومنعرجاتها التي شكّلت علامةً فارقةً في المشهد التشكيليّ العربي المعاصر.
(*) أفضت مسيرتك الفنيّة بثرائها وتنوّعها على مدار نحو ستة عقود، إلى فوزك مؤخرًا بجائزة "النوابغ العرب" التي تُعدّ أرفع جائزة من نوعها عربيًّا. ما الذي يعنية لك الفوز بجائزةٍ فنيةٍ مرموقةٍ في مشهدها العربي، خاصةً، في ظل خفوت الصوت الفاعل والمؤثر في الثقافة والفنون، وانحساره أمام سطوة "ثقافة الاستهلاك" وتراكم مخلّفاتها في حياتنا المعاصرة؟ وهل يعود خفوت ذلك الصوت إلى التعطيل الممنهج لفاعليّة الثقافة والفنون، وإقصاء دورها المنشود في التنمية والتغيير والتحديث؟
لا أخفيك أنني تفاجأت بخبر فوزي بهذه الجائزة. فما هو شائع عربيًا، الميل العام نحو تكريم المبدعين في الحقول الأدبية، خاصةً في مجالي الشعر والرواية وغيرهما من الإبداعات النصيّة. فنحن أمة يغريها الكلام، وتطرب للخطاب النصّي، ولا يعنيها للأسف الخطاب البصري وثقافته في مجالاته المتنوّعة. هذا ما قلته للمعنيين حين أخبروني بفوزي بالجائزة. لا يمكنني تفسير هذا الانعطاف تجاه الفن التشكلي، سوى أن هناك "شيءٌ ما" ولّد قناعةً لدى الجهة المعنيّة بالتزكية والترشيح لهذه الجائزة، بأهمية الفنون التشكيلية في راهننا المعاصر.
هذا الانعطاف غير العادي يحسب للقائمين على الجائزة. وبالتأكيد، هم قادرون على تبرير اهتمامهم بالفنون البصريّة بشكلٍ إيجابي، وهو ما سوف يحتّم وضع المؤسسات الثقافيّة المختلفة في محيطها العربي، أمام التحدي الذي يُبرز القدرة على الاختلاف، والذهاب بعيدًا في طرح قيم الابتكار، ومغادرة السائد والمستهلك عند تقييم الفاعليّة الابداعيّة للفنون التشكيليّة على وجه الخصوص. اختلاف هذا المسار سوف يتطلب شجاعة في الدفاع عن قدرة الفن التشكيلي بتنوّع تقنياته وتوجّهاته، لأن يكون طرفًا فاعلًا في مسيرة التنمية والتحديث في مجتمعٍ لا يزال أسيرًا للثقافة النصّية السائدة، وميّالًا لتقديس إنجازات الماضي، ولا يجد ضرورة في طرح أسئلة الراهن من أجل إغنائه وتقريبه من متطلبات الحياة المعاصرة.
(*) الإحاطة بتجربتك الفنيّة ومعاينة محطّاتها وتحوّلاتها على غير صعيد، تستدعي الوقوف على سياقها التراكمي بمقارباته البصرية والثقافية. ما هو القاسم المشترك بين تلك المقاربات التي جعلت منجزك الفني على اشتباك دائم مع الراهن وقضاياه المعاصرة، من دون أن ينسلخ عن موروثه وماضيه القريب والبعيد؟
شكّلت الهويّة في البداية رابطًا مشتركًا لتعزيز ضرورات الاختلاف في التقنيات، على الرغم من وحدة المرجعيات الجماليّة ذات العلاقة بالموروث التاريخي. مع مرور السنوات وتقادمها، تعرّضت تلك المرجعيات إلى سؤال الجدوى أمام مختبر المعاصرة، وما يطرحه من أسئلةٍ متفرّعةٍ وثيقة الصلة بالحياة، وبالقدرة على تفكيك الجانب الجمالي بما ينطوي عليه من مطبّات ترتبط بالزخرفيّة بوصفها أسلوبًا. وبعد سنواتٍ من مكوثي وانخراطي الحياتي في بلدٍ زاخرٍ بالحراك الثقافي والفني، أصبحتُ أكثر ميلًا للاختلاف من دون أن أتخلّى عن مرجعيّتي الفنية، تمامًا مثلما حصل مع فنانين عالميين في الاستعارة من ثقافات وحضارات أخرى، مثل ماتيس وبيكاسو والمعاصرين من الفنانين الصينيين والعديد غيرهم. لهذا السبب وغيره من الأسباب والمسوغات، لم أجد إشكاليّة في توسيع دائرة اهتمامي والانتباه إلى عناصرٍ بصريّةٍ جديدةٍ تحوزها فنون أقوام أخرى قد تغني تجربتي في جانبها المعاصر، خاصةً تلك الفنون ذات النزعة البدائية، والتي وجدت تقاربًا مع تعبيراتها وتمثيلاتها البصريّة، وفي مقدمتها الفنون السومرية.
(*) ساهمت أعمالك الفنية بما حازته من معاينات وتعبيرات وثيقة الصلة بجذورها الحضارية والإنسانية، في ترسيخ خصوصية الفن العراقي والعربي على مستوى عالمي. إلى جانب ذلك، هل ساهم منفاك الاختياري الطويل خارج العراق، في التعريف بتلك الخصوصية، وإشاعتها على نطاق واسع؟
لست الوحيد في ذلك، هناك مساهمات أخرى مثيرة للفنانة الفلسطينية منى حاطوم، والفنان الجزائري قادر عطيّة، اللذين رفدا التجربة العالميّة بمنجزات لها حضورها الفاعل والمؤثر في الفن العالمي المعاصر، ومن دون أن يتخليا عن مكونات مرجعيّتهم العربيّة جماليًّا وحياتيًّا. بالنسبة لي، تداخلت تجربتي الفنيّة مع موضوعات سياسيّة ذات بعد إنساني، وبمنحى جماليّ غنيّ بألوانه المتقاربة والمتصاديّة مع ثقافتنا الشعبيّة. هذا التداخل خلق بالنسبة لي تميّزًا مكّنني من محاورة الثقافات الأخرى. لم يكن بالإمكان تحقيق ذلك من دون وجودي في بلدٍ يُعلي من شأن التنوّع، ويحتضن أطيافا واسعة من الفعاليات الثقافيّة والفنيّة. من هنا، أرى أن أهمية المواجهة مع الإبداعات الأخرى، تكمن في إتاحتها الفرصة لخلق حوافزٍ وحواراتٍ إبداعيّةٍ متنوعةٍ ومثيرة لجهة التنوّع الأسلوبي والرؤيويّ. كما تثير في حالاتٍ أخرى، الانتباه إلى جدوى موضوع العمل الفني وعلاقته بشروطه الجماليّة والتعبيريّة.
(*) انطلاقًا من معرضك الأول في عام 1965 في غاليري الواسطي ببغداد، وما تلاه من معارض وأعمال شهيرة تحتضنها المتاحف وصالات العرض الكبرى في العالم؛ بقيت مسكونًا بإعادة إنتاج الموروث الحضاري لبلاد الرافدين بروافع جماليّةٍ معاصرةٍ، سعيت معها إلى تجاوز نطاق الجغرافيا وتنميطات التعبير. هل كان هاجسك في التعامل مع ذلك الموروث، ومحاولة الخروج به من نطاقه الضيق، بمثابة ردة فعل على ما ذهب إليه روّاد التشكيل العراقي مطالع خمسينيات القرن الماضي، وعلى وجه التحديد، مع "جماعة بغداد للفن الحديث" التي صبّت جلّ اهتمامها على الموروث الحضاري والتراثي في إطاره المحلي؟
أنا الفنان المتأخر لـ "جماعة بغداد للفن الحديث" كما وصفني الناقد شربل داغر. لكنني وبسبب دراستي للآثار أكاديميًا، وجدت نفسي أكثر انفتاحًا على البلدان الراسخة حضاريًا في منطقتنا، مثل سورية ومصر. ومع تطور الظروف الحياتيّة، أصبحت مقتنعًا بجدوى الذهاب إلى تجربة عربيّة ضاربة بجذورها جماليًّا وحضاريًّا، ويمكن عَبرها أن نأخذ حيزًا بين منجزات الثقافات الأخرى. الموروث الحضاري لبلاد الرافدين نجده ضمن اهتمامات العديد من الفنانين العالميين، مثل الإسباني ميرو والفنان السويسري جاكومتي، وهي، بشكلٍ ما، تماثل اهتماماتي الفنيّة الأولى، إلى جانب التداخلات التي خبرتها مع الموروث الشعبي والفن الإسلامي. لعل هذا الحاصل والتداخل الجمالي، هو ما وفّر لي فرصة امتحان موروثي الحضاري أمام الطيف الواسع للمعاصرة في أشكالها وتعبيراتها المتنوعة.
(*) كنت على مشارف الثلاثين من عمرك حين تصدّرت في عام 1969 مع مجموعة من مجايليك الفنانين، تأسيس جماعة "الرؤية الجديدة" بخطابٍ فنّي غير مسبوقٍ، لجهة علاقة الفن بموروثه وواقعه السياسي والاجتماعي. الآن، وبعد مرور أكثر من خمسة عقود على تأسيس "الرؤية الجديدة" بخطابها الذي لم يخلُ من نبرةٍ ثوريةٍّ حالمةٍ تجاه الفن والإنسان؛ ما الذي تبقى من تلك الرؤية بعد أن عصفت الأحداث التراجيدية في عالمنا العربي بالفن والإنسان معًا؟
أتفق معك حول بيان الرؤية الجديدة. لكن علينا أن نذهب إلى تلك الظروف التي أنتجت هذا الموقف. في حينها كان هناك هدوء سياسي نتيجة اتفاق "الجبهة الوطنية" والني على إثرها عاد إلى العراق العديد من الفنانين من بلدان مختلفة، وبالتالي صارت لدينا نتاجات متنوعة ومختلفة عما هو شائع وسائد آنذاك. مع عودة إسماعيل فتّاح وغازي السعودي من إيطاليا، وشمس الدين فارس من موسكو، ورافع الناصري من الصين، وكاظم حيدر ونهى الراضي من بريطانيا، وبعد أن أقام كل واحد منهم معرضًا شخصيًّا؛ احتدم النقاش آنذاك حول أهمية تلك التجارب وقدرتها على إغناء المشهد في وضعه السائد حينذاك.
أثناء تلك الأجواء، ظهرت على العلن مجلة "شعر" العراقية التي أخذت مسار مجلة "شعر" البيروتية، مصحوبةً ببيانٍ شعريٍّ لافتٍ بصوته العالي تجاه ممكنات الفن وقدرته على تحدي الراهن ومواكبة متغيراته. نشرتُ في المجلة آنذاك رسومًا من شعر المقاومة الفلسطينية، وهو ما جعلني أكثر ميلًا لخطاب التحدي عند كتابتي بيان "الرؤية الجديدة".
بعد مغادرتي العراق حاولتُ جمع الشمل مع رافع الناصري وصالح الجميع في إقامة معرض في لندن، وبعدها عملت على إقامة معرض في الدار البيضاء تشاركت فيه مع رافع الناصري، وعلي طالب، ومحمد مهر الدين. ما تبقى عمليًا وفق سؤالك، هو مسعاي في تقديم الفن العربي، ومن ضمنه العراقي، في فعاليات عربية ودولية، وهو ما طرحته وأكدت عليه في بيان "الرؤية الجديدة" قبل نحو نصف قرن.
(*) في سياق "الرؤية الجديدة" ذاتها، بمقارباتها بين الفن والثورة، وخلاصاتها التي اعتبرت الفن "موقفًا إزاء العالم"، وأن الثورة تعني "تجاوزًا للقيم السلبية وبلورةً لروح المستقبل" وصناعة الإنسان الجديد "إنسان الماضي والحاضر معًا"، من أين كنتم تستمدون تلك "الثقة المفرطة" المشحونة بالأمل، وبحتمية التغيير والتحديث في "الفن والواقع" في ظل قتامة الواقع نفسه، التي كانت تخيّم على العراق ومحيطه العربي آنذاك؟
هذا الأمل هو وليد تلك الحقبة من العناد والثقة بالنفس، وهو أيضًا، نتيجة الانفتاح على ما كان شائعًا في بيروت التي كانت نافذتنا حينذاك على المعاصرة وحراك المبدعين العرب وفاعليتهم الثقافيّة والسياسيّة. كانت بغداد في تلك السنوات بمثابة قرية ثقافية معزولة على صعيد الفن التشكيلي، على غير ما كانت عليه التجارب الأدبية في حقولها المتنوعة. كان هناك تواصل مذهل في الشعر بشكل خاص والقصة القصيرة عبر مجلة "الآداب" البيروتية التي لعبت دورًا باهرًا في تقريب وجهات النظر، وكانت تنشر أيضًا ما يُكتب من متابعات للمعارض الفنية، التي نشر فيها الفنان والناقد محمود صبري (1927- بغداد) أحد أهم مقالاته عن الفن العراقي.
(*) استطرادًا لسياق "الرؤية الجديدة" وما تلاها، ظلّ الفن بالنسبة لك، شكلًا من أشكال الحياة المجرّدة من الإكراهات والاشتراطات. وهو ما عزّز رفضك الوصاية بأشكالها كافة. هل كان موقفك الرافض للوصاية والهيمنة، بمثابة استجابةٍ عفويةٍ لنزعة "التمرّد" التي حفرت علاماتها في مسيرتك الحياتية والفنية؟ أم كان ذلك الرفض نابعًا من موقفٍ أخلاقيّ في مواجهة الظلم والاستبداد؟
نزعة التمرد هي جزءٌ لا يتجزأ من تاريخ العراق الغنيّ بمنجزاته الحضارية. وليس بعيدًا عن الموقف الأخلاقي لجيلي من المثقفين العراقيين الذين يحتفظون بموقف سياسي لمعاينة الواقع على مسافة من قفص التحزّب السياسي، خاصةً وأن فترة ظهوري فنيًّا جاءت بين فترتين حرجتين، فترة التحاقي بالخدمة العسكرية ووجودي في مناطق المواجهة مع الفصائل الكردية شمال العراق، وفترة محتدمة سياسيًّا على الجبهات كافةً، التي دفعت بالعديد من الأصدقاء إلى مغادرة العراق تفاديًا لظروف القمع، والالتحاق بالمقاومة الفلسطينية في لبنان. وهو ما أتاح لأصدقائي في بيروت حينها، توفير نافذة بدأت معها بنشر بعض التخطيطات في مجلة "الهدف" التي كان يترأس تحريرها غسّان كنفاني.
منذّاك، لم أتردّد في الحلم بمغادرة العراق وإيجاد الظروف التي تسمح لي بتعزيز موقفي المستقل. وبعد أن أصبح واضحًا منذ بداية سبعينيات القرن الفائت، أن النظام، أو الحياة السياسية بشكل عام، أحذت تتجه نحو فكرة الحزب الواحد.
(*) منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي، رحت في العديد من أعمالك ومشاريعك الفنيّة، تتصدى لمظاهر الظلم والاستبداد في مشهدها العربي، خاصة ما تعلّق منها بالفلسطينيين في غير مكان، والتي تصادى وقعها في سلسلة أعمالك "شاهد من هذا العصر" و"تل الزعتر" و"صبرا وشاتيلا"، إضافة إلى محطاتك وأعمالك اللاحقة إثر الاحتلال الأميركي للعراق، مثل "بلاد السواد" و"مرثية لمدينتي المحاصرة" و"الوجه القبيح للاحتلال، و"المهمة التدمير". جلّ تلك الأعمال بتقنياتها وخاماتها المتنوّعة، كانت تتقاطع مع بعضها لجهة ألوانها الداكنة والمتقشفةٍ، إضافة إلى جزالة تعبيراتها الحادة التي تحيل مباشرةً إلى المناخ الفجائعي للمآسي والويلات. هل مردّ ذلك يعود إلى كون تلك الأعمال وليدة أحداث بعينها، بمعنى، أنها نابعةٌ من جنس الحدث، وملتحمةٌ مع ضراوته، وفق ما يتيحه ويقتضيه أفق التعبير؟ وهل يمكن اعتبار تلك الأعمال بمثابة "شهادةً" من نوعٍ خاصٍ على مرحلتها. وهل تعتقد، أيضًا، بإمكانية مواجهة الفن للظلم والخراب، على الرغم من قتامة الراهن وسجلّه الحافل بالسواد؟
شغلني الموضوع الفلسطيني منذ بداية السبعينيات عبر فن الملصق ورسومات المقاومة الفلسطينية، وتعزّزت علاقتي مع القضية بعد زيارتي لبيروت والتعرف على ظروف العمل السياسي والثقافي ولقائي مع غسّان كنفاني. كانت بيروت في حراكها آنذاك، بمثابة خلية نحل دائبة وباهرة، وكانت تجمع فنانين وكتابا عربا دائبي الفاعليّة والحماس لتطوير الأفق الثقافي والفني الذي يخصّ فلسطين. وفي بيروت أتيحت لي فرصة التعرف على نتاجات فنانين عرب مثل إبراهيم الصلحي، وآدم حنين، مصطفى الحلاج، ورفيق شرف، وعارف الريس وغيرهم.
كانت السبعينيات في بغداد، ومع الانفتاح السياسي، غنية بالفعاليّات الفنيّة والثقافيّة، التي وفّرت لي مساحةً مفتوحةً للعمل، حيث نشرتُ ملصقًا شعريًا لقصيدة يوسف الصائغ التي تتحدث بشكل غير مباشر عن فترة "أيلول الأسود" في الأردن. كما نشرتُ كتابًا لمذكرات أحد الفدائيين باسم "شاهد من هذا العصر". هذا المخزون الفني ذهب معي عند مغادرتي العراق، حيث اشتغلتُ على كتاب "النشيد الجسدي: رسوم على مخيم تل الزعتر" مع نصوص شعرية للعراقي يوسف الصائغ وللفلسطيني محمود درويش وللمغربي طاهر بنجلون، وما تبع ذلك من أعمال يتضمن بعضها نوعًا من توثيق الإدانة للظلم والوحشية، وبعضها شهادة شخصية، خاصة الرسومات التي تتعلّق بمجزرة مخيم "صبرا وشاتيلا" الذي كنت أعرف ناسه وطرقاته. تلك الرسومات جاءت بعد يومين من المجزرة، رسمتها بانفعال ومن دون تخطيط مسبق، ولم أفكر في نوعيّة الألوان المستخدمة على الورق. كان هناك نوع من الألم الذي تخطى التريّث، رسمتها على الأرض ولم أشاهدها بأجزائها الأربعة إلا عند عرضها لاحقًا في معرضي الشخصي في الكويت، واعتبرها من أهم الوثائق الفنية في تاريخ الشعب الفلسطيني.
وفيما يتعلق بالعراق الذي تعرض للدمار الممنهج ولاغتيال خيرة شبابه من المختصين والعلماء، فقد حاولت الربط بين ما كان يسمى به العراق "أرض السواد" وبين مجموعة أعمال متنوّعة تحت عنوان "بلاد السواد" ومعها فضّلت التقشّف لونيًّا ضمن أعمال بانورامية تعكس حجم الكارثة، ولأجل أن تكون مقاربة للحدث كواقع حياتي. وبمناسبة معرضي الاستعادي الكبير في الدوحة عام 2016 أنتجت منحوتتيْن كبيرتيْن محاطتيْن بخمسمائةِ وردة بيضاء تمثل العلماء والمتخصصين الذين قتلوا عام 2003. أعرف أن هذه الأعمال غير قادرة على تغيير واقع الوحشية والعنف وما ولّده من خرابٍ ودمار روحي. لكنني أيضًا، أجد في هذه الأعمال تعزيزًا للمسؤولية الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلّى بها المثقف... إنها صرخة يتردّد صداها في فضاء عالم لا أخلاقي.
(*) كنت من منفاك الطويل وما تزال على مقربةٍ وتواصلٍ مؤثّرين في نبض الشارع العراقي، فكانت ملصقاتك هي الأبرز خلال الاحتجاجات الشعبيّة التي شهدها العراق قبل نحو خمس سنوات، والتي رفعها شبانٌ لم يولد جلّهم حين غادرت العراق إلى منفاك أواسط سبعينيات القرن الماضي. كانت الملصقات محطّ اجماع بتأكيدها على عراق واحد للجميع، وانحيازها للشباب في مواجهة الظلم والرصاص، ورفض الانتقام. كيف استطعت، وأنت الفنان والمثقف النخبوي، أن تكون حاضرًا في حراك الشارع، وفي خضمّ حشد الشباب الرافض للظلم والاستبداد، من دون أن تدخل العراق طوال عقود؟ّ وهل يتعلق الأمر بالموقف الأخلاقي الذي لا ينفصل في تأصيلة عن الموقف الجمالي؟
لم انقطع حياتيًا عن المنطقة العربية، وحافظت على شكلٍ من أشكال الوجود والحضور فنيًّا عبر المعارض الشخصية أو الجماعية، كما كنت متابعًا للصحافة الورقية، وما وفّرته التكنولوجيا بتنوّعها من فرص المتابعة المذهلة. ولا أخفيك صدمني ما حصل عام 2003 بعد الاحتلال من نهب وتدمير لنواح مختلفة من الحياة الفنية والثقافية، وما جاء من تعزيز للطائفية والقتل على الأسماء. الاحتجاجات الشعبيّة في العراق مسحت من ذاكرتي كل شيء، ووجدت في نفسي حماسًا للمشاركة اليومية والانحياز لهؤلاء الشباب الشجعان الذين توافدوا من حزام الفقر المحيط ببغداد، وبمشاركة لم يسبق لها أن حدثت من شباب المحافظات المختلفة. وجدت في مجموعة الشباب تلك، الواثقة والمتسامحة مع نفسها، عراقًا آخر. إنهم فتيةٌ تسلّحوا بالعزيمة والإصرار على تعريةِ طبقة الفساد المأجورة للخارج.