وفي كتابها "الميتاشعرية في التراث العربي: من الحداثيين إلى المحدثين" تقول هدى فخر الدين: "أتاح التخلّي عن أوزان الخليل لشعراء الشعر الحرّ مجالًا وحرية أكبر لاستكشاف القضايا الحاسمة الأساسية التي أثارها مشروعهم... ولأن كتابة الشعر تتعذّر بدون وعي ذاتي، فإن مشروع الحداثة في الشعر العربي كان ولا يزال تساؤلًا ميتاشعريًا"، هكذا يمكن أن نفهم هدى فخر الدين، كاتبة صاحبة مشروع، وهذا المشروع يعمل باتجاهات عديدة، فهي صاحبة مشروع شعري، ومشروع إنساني فلسطيني، ونحن نقرأ إهداءها لمجموعتها الشعرية "ومن ثمَّ... العالم" (التي ستصدر قريبًا) إلى "فلسطين التي أعرفها وأعيش موتها المتجدّد كل يوم"، والتي تتجاوز فيها فلسطين أكثر من نصف الكتاب.
وفخر الدين كاتبة ومترجمة وأستاذة مشاركة في الأدب العربي في جامعة بنسلفانيا. وسبق لها أن كانت أستاذة للغة العربية وآدابها في جامعة ميدلبري الأميركية من عام 2009 حتى عام 2014. حصلت على شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي من الجامعة الأميركية في بيروت عام 2002. كما نالت الدكتوراه من جامعة إنديانا الأميركية عام 2011. وهي مؤلفة كتاب Metapoesis in the Arabic Tradition (2015) الذي نقلته المترجمة آية علي للعربية وصدر عام 2021 عن "دار أدب" في الرياض بعنوان "الميتاشعرية في التراث العربي: من الحداثيين إلى المحدثين". وهو في أساسه مشروع أطروحة الدكتوراه من قسم لغات الشرق الأدنى بـ"جامعة إنديانا"، بإشراف الباحثة في الشعر العربي الكلاسيكي سوزان ستيتكيفيتش. كما أصدرت كتاب The Arabic Prose Poem: Poetic Theory and Practice (2021) وهي محرّرة مشاركة لكتاب The Routledge Handbook of Arabic Poetry (روتليدج، 2023). وقد صدر كتابها الإبداعي بعنوان "زمن صغير تحت شمس ثانية" عن دار النهضة في بيروت عام 2019. ويصدر لها قريبًا كتاب "ومن ثمَّ العالم" عن منشورات مرفأ للثقافة والنشر في بيروت.
ترجمت هدى فخر الدين من الإنكليزية وللإنكليزية العديد من المجموعات الشعرية، منها "منارة الغرق" و"لم تدعني السماء وشأني"، لجودت فخر الدين، ومختارات شعرية لسليم بركات، و"لغة ليست واحدة" للشاعر الفلسطيني أحمد الملاح. وظهرت ترجماتها للقصائد العربية في مجلات ومواقع أدبية أميركية وأوروبية وعربية، منها World Literature Today -Michigan Quarterly Review- ArabLit Quarterly- Asymptote- Protean، وغيرها. وتعمل حاليًا على ترجمة كتاب "البديع" لابن المعتز إلى الإنكليزية، وإنجاز دراسة للقصيدة الكلاسيكية في النصف الأول من القرن العشرين من خلال عدسة أم كلثوم.
عن مشاريعها الأدبية والإنسانية، كان لنا هذا الحوار معها:
(*) نبدأ من حملة التهديدات التي تعرّضتِ لها من مجهولين كما واتهامات من لجنة الكونغرس الأميركي للتعليم، وقد كتبت مقالًا في Literary Hub ذكرت فيه "أنها نفس اللجنة التي كانت تُرهب الجامعات لقمع حرية التعبير، وهي نفس اللجنة التي كانت تستغل معاداة السامية بأبشع الطرق من أجل إسكات خطاب مناهضة الإبادة الجماعية، والذي يروّج للأكاذيب ويصر على الخلط الزائف بين اليهودية والصهيونية"... كيف تواجهين هذه التهديدات ومحاولات الإسكات، ألا يعدّ التعبير عن الرأي في الموضوع الفلسطيني جرأة ومجازفة كبيرة في جامعات مستشرسة بصهيونيتها، وقد يصل الأمر للإقالة حيث شهدنا الكثير من حالات الإقالة؟
نعم، الوقوف مع القضية الفلسطينية والتعبير العلني عن دعمها مجازفة كبيرة. ولكن لا خيار آخر لدينا، خاصة نحن دارسي الأدب العربي في أميركا، هذا إذا كان لدينا أدنى احترام لأنفسنا وللغتنا وثقافتنا وتراثنا. قلت هذا من قبل وسأكرره هنا: نذل كل من يتوهّم أن عملنا كأكاديميين، مهما كانت تخصصاتنا، مفصول عمّا يحدث في غزة ونحن نعمل في جامعات متواطئة داعمة للإبادة بشكل مباشر، بل نكون منافقين ووصوليين إذا توهمنا أن ما يحدث في غزة ليس بالضرورة مرتبطًا بصلب اهتماماتنا الفكرية والأكاديمية. الصمت تواطؤ وذلّ.
(*) يقول فريديريك جيمسون إن "كل سردية كبرى هي محاولة للسيطرة على السرديات المتعددة، لتكوين سردية وحيدة تسود؛ 'نحن' هي دائمًا نتيجة لصراع على هذه السيطرة"... أين فلسطين داخل السردية الكولونيالية الأميركية الكبرى وارتفاع حدّة التمييز العنصري، وكما تقولين عن وجودكم داخل هذا القفر الأميركي "نحن الآخرون، المشتبه بهم دائمًا".
شاعت في الفترة الأخيرة ولا سيما منذ بداية الإبادة الجماعية في غزة عبارة عن "الاستثناء الفلسطيني" وهي تشير إلى إقصاء فلسطين وإبعادها عن كل إطار حقوقي وإنساني.
فالليبراليون في أميركا مثلًا يهنّئون أنفسهم كل الوقت على إنسانيتهم التي تملي عليهم الوقوف مع كل مستضعف وكل مسلوب حق، وهذا نفاق طبعًا. ولكن حتى في الخطاب المنافق فئة المستضعفين ومسلوبي الحقوق تستثني الفلسطينيين. فلسطين مغيّبة عن السردية الكبرى ولكنها ليست غائبة بالفعل، بل هي الغائب الحاضر وستظل تكشف نفاق السرديات كلها وازدواجية معاييرها.
وهنا في أميركا – وهي البلد العنصري بالامتياز مهما ادّعت محاربة العنصرية وهي رائدة الكولونيالية الجديدة والهيمنة بأبشع أشكالهما- فلسطين باتت وجهة كل حرّ وكل صاحب ضمير، وليس هناك دليل على هذا أبلغ من الحركة الطلابية التي اجتاحت الجامعات الأميركية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 والتي أطلق عليها اسم انتفاضة الطلاب.
بفضل غزة، اكتشف هذا الجيل من الشباب الأميركي المتعدّد الأصول والخلفيات، فساد الأنظمة التعليمية الأميركية وتواطؤها مع كل الأنظمة الفاسدة الأخرى السياسية والاجتماعية.
يصرّ هؤلاء الشباب والشابات على أن المساواة لا بد أن تشمل كل البشر، وخاصة الفلسطينيين، وأن الحرية لا تكون حقيقية إلا إذا تمتّع بها كل الناس، وخاصة الفلسطينيين. وطالما فلسطين مستعمرة ومحتلة وتتعرّض لأبشع أشكال التوحش البشري، فإن ما ندّعيه من ثقافة وتحضّر ليس إلا نفاقًا. هؤلاء الشباب هم مبعث الأمل الوحيد في أميركا. تعرّضوا وما زالوا يتعرّضون للتنكيل والقمع والتسكيت، وما زادهم هذا إلا ثباتًا، لأنه كشف لهم مدى فساد المؤسسات التعليمية والجامعات ودعمها المباشر للرعب الذي تتعرض له غزة.
(*) تصدر لك قريبًا عن منشورات مرفأ مجموعة شعرية بعنوان "ومن ثم العالم"، وتقولين في فيديو تعريفي عن الديوان على منصة أبجد: "هذه النصوص تطمح لأن تكون شعرًا". تعيدني هذه الجملة للشاعر باسترناك حيث يقول "أجمل ما في القصيدة ذلك السطر الذي يبدو نثريًا"، لماذا الطموح، هل الناقدة التي فيك هي التي تتكلم، فيما تحمل نصوصك كل الثقل الشعري؟
سبق أبو حيان التوحيدي باسترناك إلى هذا المعنى حين ذكر في الإمتاع والمؤانسة هذا الرأي في سياق المفاضلة بين النظم والنثر: "أحسنُ الكلام ما رقّ لفظه، ولطف معناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نظم كأنّه نثر، ونثر كأنّه نظم...". ولاحظي أن التوحيدي يفاضل بين النظم والنثر، ولا يقول الشعر. المفاضلة هي بين هذين السبيلين إلى الكلام الحسن. والشعر هو الكلام الحسن الذي تتعدّد السبل إليه، ومقومّاته اللفظ والمعنى وصورته تقوم على النظم أو النثر أو ما بينهما.
وكما قلت سابقًا، النصوص التي تطمح لأن تكون شعرًا فيها سعي وحركة وانشغال بالشعر، حتى لو كانت لا تحققه دائمًا.
القصيدة لا تردّ القذيفة ولا تحبس الدم
لكن لعلها تشهد عليهما
(*) تقولين أيضًا، إنك كتبتها فيما كنت شاهدة على الإبادة الجماعية، وتهدينها إلى فلسطين التي لا تعرفينها لكنها تسكنك كل الوقت والتي تعيشين موتها المتجدّد كل يوم. ماذا يعني لك أن تكتبي عن فلسطين اليوم؟ وهل برأيك يصل صوت أطفالها عبر القصائد؟
في الكتاب الجديد نص بعنوان "نوال" يتناول جانبًا شخصيًا يربطني بفلسطين. فلسطين بالنسبة إلي على الصعيد الشخصي هي أحمد الملاح، شريكي في الحياة وفي الشعر. كتبت هذا النص منذ أكثر من سنتين، بعد وفاة نوال، والدة أحمد. فقدُه لها كان مهولًا، فهي بالنسبة إليه الوطن والأهل والبيت والعائلة. أما بقية النصوص في الكتاب فقد كُتبتْ، كما ذكرت، في هذه الفترة العصيبة، وأنا هنا في أميركا وفلسطين في البال، والشعور بالوحشة والغربة والتشرّد يزداد وقعًا.
أتردّد في الكتابة عن فلسطين في وقت كهذا. ما عاد هناك كلام يسع المأساة والرعب المتجددين كل يوم. ومع هذا، كل ما يأتينا من غزة من كلام وصور ومشاهد صمود وعزّ يظل يدهش ويعزّي وإن كان العزاء قليلًا وضئيلًا جدًا مقارنة بالظلام والتوحش. خلال الأشهر الطويلة الماضية من الرعب الذي نشهده في غزة، انشغلت بترجمة أعمال بعض الشعراء الفلسطينيين. في هذه اللحظة المفصلية من التاريخ، لا بد أن ننظر إلى غزة وفنانيها وكتابها بحثًا عن لغة وعن سبل للوجود والمقاومة والحياة. لا جدوى من الكتابة والترجمة في لحظة المذبحة، فالقصيدة لا تردّ القذيفة ولا تحبس الدم المهدور، ولكن لعلها تشهد عليهما، لعلها تسجل تاريخًا بديلًا يناقض ذلك الذي يكتبه الظالمون.
(*) في كتابك "الميتاشعرية في التراث العربي" قدّمت عددًا من التعريفات للميتاشعرية، كيف يمكن أن نفهمها ونحيلها إلى واقعنا الشعري المعاصر؟
الميتاشعرية هي وعي الشعراء بماضيهم الشعري، أي بتراثهم وذاكرة لغتهم الإبداعية، وتفاعلهم الخلّاق مع هذا الماضي. لا يتّخذ هذا الوعي شكلًا محدّدًا ولا يفرض علاقةً ثابتةً مع التراث بل هو ثقافة ضرورية ينطلق منها الشعر وإن كان سيثور عليها، لا بل وخاصة إذا كان سيثور عليها، فالثائر على الشيء أو رافضه هو الأكثر حاجة إلى معرفة حقيقية حميمة بالشيء الذي يرفضه، إذا كان لثورته أن تكون حقيقية وذات رؤية.
دراسة الميتاشعرية أو كلام الشعراء على الشعر وتنظيرهم له، لها أثر في واقعنا الشعري المعاصر في ناحيتين. فهي أولًا تتصدى للافتراض السائد بأن تراثنا يفتقد للنظرية الشعرية أو أن ما لدينا من نظرية قاصر، لذا نحن دائمًا بحاجة لاستيراد أطُر نظرية غربية لتعيننا على دراسة شعرنا وتراثه، وفي هذا ظلم وتضليل كبيران. ففي تراثنا الأدبي العربي إرث نقدي مهمٌّ تعلّمنا تجاهله والاستخفاف به، لأننا واقعون تحت هيمنة الآخر الغربي. وقد عبّر شعراء العربية منذ الجاهلية عن وعي بمهمة الشعر ومعرفة بأغراضه وأهدافه، فالقصيدة العربية الجاهلية شكل شعري ناضج ومكتمل، فلا بدّ من أنها خلاصة تجارب سابقة لا انطلاقة بدائية فطرية كما يحبّ أن يصوّرها بعض الدارسين. ونجد الكثير من التأملات في الشعر ومعناه في الشعر نفسه، عند عنترة وامرئ القيس والحطيئة وابن مقبل وكعب وغيرهم قبل أن نصل إلى ثورة الحداثة العباسية حيث بلغ هذا الوعي ذروة.
ثانيًا، الوعي بالتراث يوجه التجارب الشعرية الجديدة ويؤصلها، وينقذها من الاستلاب للآخر والتمثّل به من دون أساس أو قاعدة في اللغة العربية وذاكرتها الإبداعية وأساليبها الخاصة في التفكير.
عن شعر التجديد العباسيّ
(*) يسمّي النقاد الشعر العباسي بشعر التجديد، فكيف تقرأين الشعر العباسي على أنه انطلاقة الميتا/ التحول في الشعر العربي؟
ترافق التجديد العباسي مع وعي نقدي. لم يتخلّ الشعراء العباسيّون عن الشكل الشعري الموروث وإن كان بعضهم ضاق به أو تذمّر منه، بل اشتبكوا معه اشتباكًا إبداعيًا ونقديًا مثمرًا. هكذا جدّدوا القصيدة ولم يهدموها. وما كان لهذا التجديد أن يكون لولا التزام الشعراء المجددين بالتراث الذي ثاروا عليه ومعرفتهم العميقة به. هذا الحوار المبدع مع الماضي الشعري هو الذي ينتج مشاريع شعرية قادرة على التدخل في التراث والبناء عليه ومساءلته، وتحويله في اتجاهات جديدة.
عبّر الشعراء العباسيون عن مواقفهم النقدية من تراثهم الشعري في قصائدهم وبذلك أجبروا القصيدة العربية على التفكّر في نفسها أكثر من أي وقت سبق. هكذا صارت القصيدة العربية على أيدي شعراءَ كبشار بن برد وأبي نواس وأبي تمّام مشروعًا مفتوحًا على الاحتمالات. وقد نجح هؤلاء في فتح أفق اللغة الشعرية العربية على المستوى البلاغي إلى حدّ لم يفعله أحد من قبلهم.
ولذلك أحدثت ثورة الشعراء المحدثين في العصر العباسي صدمة نقدية أجبرت معاصريها من النقاد المعارضين أو المناصرين لها، على مواجهة أسئلة نقدية عميقة تتعلق بجوهر الشعر واللغة الشعرية ومعايير القراءة والتلقّي.
(*) تقولين إنه "لا يمكن للشاعر الحديث أن يكون شاعرًا بدون أن يكون ناقدًا في الوقت نفسه"، هل هو اشتغال الشاعر على إصلاح القصيدة بنفسه مرارًا بمعنى هدمها وبنائها مرارًا، ألسنا نذهب هنا في جعل الشعر صناعة غير روحية؟
ومن قال إن الروحي لا يتطلب سعيًا وجهدًا واشتغالًا. الشعر كالفلسفة نهج خاص في التفكير، له سبله الخاصة في تأمل الوجود وتصويره وتفسيره. وهو كذلك موهبة وطبع، أي قدرة على الملاحظة وطريقة في رؤية الأشياء وعلاقاتها بعضها ببعض، لا يمكن اكتسابها أو تعلّمها. إلا أن الموهبة الشعرية لا تبدع في فراغ، بل هي بحاجة إلى معرفة عميقة باللغة وامتلاك لأسرارها ومفاتيحها. ومعرفة اللغة لا تكتمل بلا قراءة متمعنة في تراثها وذاكرتها الشعرية.
أن يكون الشاعر ناقدًا يعني أن يكون صاحب لغة ومشروع. وهذا ما يطمح إليه كل الشعراء.
(*) يرى أدونيس في كتابه "الثابت والمتحول" أن تيار الحداثة "عربيًا" بدأ في العصر الأموي والعصر العباسي، فيما يرى شوقي بزيع في كتابه "مسارات الحداثة" أن المجتمعات العربية لم تدخل بعد في حقبة الحداثة نفسها وأنها تستخدم التقنيات التي ينتجها الغرب بروح تقليدية متخلفة، ماذا تقولين في قولهما؟
سعيت في كتابي الأول إلى فهم الحداثة الشعرية أو التجديد بمعزل عن التاريخ. الحداثة الشعرية لا تقتصر على زمن معين. فقصيدة من العصر الجاهلي قد تكون أكثر جدّة في المستوى اللغوي أو الموسيقى أو البلاغي من قصيدة كتبت اليوم. التاريخ لا يسير دومًا نحو ما هو أكثر جدّة أو جودة في المستوى الفني. فصل المعايير الشعرية الفنية عن المراحل التاريخية محاولة للابتعاد عن ثنائية القديم والجديد التي سيطرت، مع غيرها من الثنائيات، على فهمنا لتراثنا الأدبي وتطوره عبر العصور.
ومن هذه الثنائيات الطبع والصنعة، اللفظ والمعنى، والقديم والحديث، الشعر والنثر. تعوّدنا أن نفكر في تراثنا وثقافتنا ولغتنا من خلال تلك الثنائيات التي تفترض تناقضًا بين طرفيها، تناقضًا قد لا يكون بالضرورة حقيقيًا أو مفيدًا. وأكثر طروحات النقد العربي نضجًا وتوازنًا ووفاءً لجوانب القصيدة أو النص هي تلك التي تمكنت من تجاوز حدود الثنائية والتناقض الذي تفترضه، وتحضرني في هذا السياق نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني مثلًا.
أما في زمننا هذا ومنذ منتصف القرن الماضي، نرى أن الثنائيات ولا سيما ثنائية الشرق والغرب ترسخت في النقد الحديث وفي مقاربته لسؤال الحداثة وهذا يضعنا دائمًا في مأزق أو في ورطة بين نقيضين. وأساس هذه الورطة علاقة غير متوازنة مع الغرب الذي نصّب لنا قيمًا وأمثلة على ما يسمى "بالحضارة" أو بالحداثة وتركنا نتخبّط ونسعى لنتمثّلَ بها ونحققَها في مجتمعاتنا وثقافتنا ولذا يسود علينا غالبًا شعور بالتقصير.
أقول في ما ذكرتِ إن الحداثة الشعرية العربية وإن تأثرت بتجارب غير عربية (غربية في أغلبها طبعًا ولكن من المفيد أن نتذكّر تجارب في اتجاهات أخرى جنوبًا وشرقًا) كانت في أفضل نماذجها مهتمّة بالتراث وعلى علاقة خلّاقة به.
(*) في كتابك الذي صدر مؤخرًا بالإنكليزية The Arabic Prose Poem Poetic Theory and Practice تقولين: "عندما انطلقت الحركة الحداثية في الشعر العربي في أربعينيات القرن العشرين، هدّدت بطمس الفوارق بين الشعر وكل شيء آخر. وربما تكون قصيدة النثر العربية هي المظهر الأكثر تخريبًا وتطرفًا لهذا التشويش. غالبًا ما يتم وصفه بأنه تناقض لفظي، أو غير نوع، أو مضاد للنوع، أو معجزة، أو حتى مؤامرة". كيف تقرأين قصيدة النثر مع الذين كانوا موضوع دراستك هذه: أدونيس، الماغوط، درويش، سليم بركات، ووديع سعادة، وبين شعراء الجيل الحالي... خصوصًا في وقتنا حيث تنطلق هجمة على قصيدة النثر وثمة مطالبة بالعودة إلى التراث والقصيدة العامودية والتوقف عن "تخريب الشعر".
أعود وأقول إن العلاقة مع التراث لا تتناقض مع التجريب والتخريب. الشعر بطبيعته يرفض القانون والقاعدة وينزع إلى تجاوز كل حدّ نظري يوُضع له.
وأذكر هنا قولًا ينسب إلى الأصمعي "الشعر نكد، بابه الشرّ إذا دخل في الخير فَسُدَ ولانَ"، ويُقال إن الأصمعي قال هذا حين سئل عن رأيه في شعر حسان بن ثابت الذي كان شاعرًا فذًّا في الجاهلية ولكنه وهب نفسه وشعره بعد الإسلام لمدح النبي ورسالته. وكأن الأصمعي يقول إن الشعر لا يخدم شيئًا سواه ولا يلتزم بحدود تُسقط عليه. الشعر الحقيقي بطبيعته تجاوز وخرق لما هو مألوف ومتعارف عليه.
فالشعر إذًا بطبيعته تخريب ولكن هناك فرق شاسع بين تخريب الشاعر وتخريب المتطفّل على الشعر. الشاعر كما ذكرت سابقًا ينطلق في تخريبه من معرفة راسخة وهكذا يكون تخريبه شعرًا، لا ادعاءً فارغًا أو تطفلًا وهكذا يضيف الشاعر المخرّب إلى ما يخرّبه، فيظل التراث حيًا متحركًا لا يموت.
كتابي يتناول قصيدة النثر العربية كممارسة شعرية ذات منطلقات نظرية محرِّكة تهدف إلى مساءلة تخريبية وتوسيعية لحدود الشعر في اللغة العربية. ليس مسحًا شاملًا ولا تاريخًا أدبيًا لقصيدة النثر، بل هو قراءة متأنية لأعمال مجموعة مختارة من شعراء النثر الذين يعكسون تنوّع مشروع قصيدة النثر في اللغة العربية وتوتراته وإمكاناته. وكان بإمكاني أن أختار مجموعة أخرى من الشعراء والمشاريع لا تقل أهمية وتمثيلًا عن تلك التي تضمّنها الكتاب لأعبر عن الفكرة الأساسية نفسها وهي أن قصيدة النثر العربية ليست مدرسة واحدة ولا تيارًا متجانسًا.
إن قصيدة النثر العربية لها الفضل في إبقاء تجربة الحداثة في الشعر العربي، منذ مطلع القرن العشرين وحتى هذه اللحظة، في حال تجريب أو تخريب مليئة بالأسئلة النقدية الجوهرية. فكل قصيدة نثر هي محاولة للبحث عن الشعر وتعريفه والإمساك به، بشكلٍ مباشر أو غيرِ مباشر. ولكن بما أنها تخلت عن كل الحدود، قثد فتحت بابًا واسعًا للاستسهال والتطفّل، فكانت وما زالت فضاءً للتجريب الشعري، فيه الإخفاقات والإصابات.
(*) تعتمدين قصيدة النثر لكتابة الشعر، على الرغم من تمجيدك لشعر التراث العربي وتحديدًا الشعر العباسي، كيف نفهم اقترابك الروحي من الشكل الشعري ومن ثم كتابته؟
لا أعتمد شيئًا بشكل مسبق. الشعر لا يقبل المسلّمات ولا يمكن أن ينطلق منها. حتى الشعر الذي يتبنّى شكلًا جاهزًا كما هي حال القصيدة الكلاسيكية أو الشعر العمودي، لا يكون شعرًا حقًا إلا إذا وَظّف الشكل الجاهز توظيفًا جديدًا ووجد له مسوّغًا شعريًا مقنعًا.
أعترض هنا على مفردة "تمجيد" لأنها تحمل معنى المبالغة في التقدير أو تشير إلى شكل جامد من الاحتفال بالشيء. الممجّد ميت أو مقدّس، وفي الحالتين لا مجال للتفاعل الخلّاق معه. ما يستهويني في الشعر العباسي أو بعضه هو اتّخاذه كل شيء موضوعًا للشعر واعتباره اللغة والمعنى وحتى الشكل مشاريع قابلة للتعديل والإضافة والنقد. ويظهر هذا جليًّا في شعر بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام وغيرهم من شعراء البديع كما يُطلق عليهم أحيانًا.
أميل لعبارة "نصوص تطمح لأن تكون شعرًا" التي أستخدمها أحيانًا لوصف ما أكتبه. أنا دائمًا في توق إلى الشعر وأحاول تحقيقه من خلال استخدام متعمّد للّغة.
يهمّني الإيقاع، وإن كان الوزن غائبًا عما أكتبه. الإيقاع أوسع من الوزن وقد يتحقق بعناصر أخرى. أتوخّى الإيقاع في صياغة العبارة أو الجملة وفي التكرار والتوازي. أحب هنا أن أستحضر عبارة الجرجاني "توخي معاني النحو" التي ترد في تعريفه للنظم أو في إشارته إلى العنصر الخفيّ الذي يحوّل الكلام العادي إلى ما هو معجز أو شعري. أجد أن عبارة الجرجاني تؤكد على قدرة اللغة نفسها على المشاركة في خلق المعاني وتسديد الأفكار وصقلها وتوجيهها.
لذا لا أسمّي ما أكتبه قصيدة ولا قصيدة نثر. وإن كان قصيدة نثر فلا بأس، المصطلح لا يعني شيئًا بحدّ ذاته. الامتحان الحقيقي هو قدرة النص على الإقناع وعلى تقديم شيء جديد أو مختلف في مستوى المعنى أو البلاغة أو الإيقاع، شيء ما كان ممكنًا بشكل آخر أو بصيغة أخرى. سواء كان النص قصيدة عامودية أو قصيدة تفعيلة أو نثرًا. أملي أن يكون فيه بعض من الشعر. والشعر يمكن أن يتحقق في كل هذه الأشكال، كما أن كل هذه الأشكال يمكن أن تكون خالية من الشعر.
(*) ترجمت مؤخرًا كتاب "لغة ليست واحدة" للشاعر الفلسطيني أحمد الملاّح، هل أنت مع مقولة أن على مترجم الشعر أن يكون شاعرًا كي يتماهى بشكل كامل مع النص الشعري ويتقن فعل الترجمة وإلا فقد الكثير من معناه؟
نعم بالتأكيد. ترجمة الشعر تتطلب مترجمة شاعرة أو مترجمة تحبّ أو تطمح لأن تكون شاعرة، كما هي حالي. أجد في الترجمة سطوًا جميلًا. أترجم في أغلب الأحيان ما يستهويني وما أتمنى لو كنتُ كتبته أنا، فأعيد كتابته في لغة الأخرى. والترجمة في أصلها قراءة نقدية ومبدعة تسعى إلى خلق نص شعري في اللغة الثانية، نص مقنع بشعريّته وقادر على الوقوف وحدَه بدون الحاجة إلى التعكّز على الأصل. هذا هو أمل الترجمة على الأقل وقد لا يتحقق دومًا ولكن على الترجمة أن تسعى إلى تحقيقه كل مرة.
(*) ما الذي تطمحين إليه الآن على صعيد الشعر، النقد، والترجمة؟
أعمل الآن على مشروعين معًا، الأول ترجمة كتاب "البديع" لابن المعتز إلى الإنكليزية وهذه ستكون الترجمة الكاملة الأولى لهذا الكتاب الذي حُقّق مرات عديدة. ويعتبر أول كتاب نقدي في اللغة العربية، يسعى فيه ابن المعتز، وهو الشاعر العباسي المجدّد والخليفة ليوم واحد، إلى الدفاع بطريقته الخاصة عن الحركة الشعرية التجديدية التي عرفت بشعر البديع.
والمشروع الثاني دراسة للقصيدة الكلاسيكية في النصف الأول من القرن العشرين من خلال عدسة أم كلثوم كقارئة ومؤدّية للقصيدة وهذا من خلال ما اختارته من قصائد ومقطوعات من التراث العربي ومن شعر معاصريها من شعراء النهضة أو الكلاسيكية الجديدة كما يسميهم الدارسون.