}

محمد أبْريغَش: المتخيّل الأدبي المغربي باللغة الإسبانية رصيد رمزي

محمد أحمد بنّيس محمد أحمد بنّيس 27 أكتوبر 2025
حوارات محمد أبْريغَش: المتخيّل الأدبي المغربي باللغة الإسبانية رصيد رمزي
محمد أبْريغش
 

ينتمي محمد أبْريغش إلى جيل جديد من الهِسبانيين المغاربة يرى أن استيعابَ الإشكالات المعرفية والمنهجية للهِسْبانية المغربية/El Hispanismo marroquí وفهمَها يقتضيان تجاوز أفقها الكلاسيكي، نحو أفق جديد أكثر استجابة للأسئلة والقضايا التي تواجهها الآن. قدّم أبْريغَش مساهمات نقدية لافتة في إعادة قراءة الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية، وفهم إشكالاته الثقافية والفنية والجمالية. يشتغل أستاذًا للغة الإسبانية وآدابها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة ابن زهر بأغادير، وسبق له أن كان رئيسًا لشعبة اللغة الإسبانية في الكلية ذاتها، فضلًا عن إشرافه على ماستر العلاقات الثقافية بين المغرب والعالم الناطق بالإسبانية. يترأس الجمعية المغربية للدراسات الإيبيرية والإيبيرو ـ أميركية. كما يمثل المغرب في المرصد الدائم للهِسبانية التابع لمؤسسة دوقية سورْيـا Duques de Soria الإسبانية. صدرت له أعمال عدة، معظمها بالإسبانية، منها:
El cantar del Monte Abarrán: Epopeya poética rifeña de 1921 " نشيد جبلِ أبَرَّان، ملحمة شعرية ريفية من 1921'' بالاشتراك مع محمد الوالي، Cartas marroquíes a Rosa ''رسائلُ مغربية إلى روسا'' (2220Edición y libro español en Marruecos ''النشر والكتاب الاسباني في المغرب'' (2023)، Moros con letras en la costa : Introduccion a la literatura marroquí en lengua española '' كُتّاب موروس يعبرون إلى الضفة الأخرى، مدخل الى الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية'' (2025).
هنا حوار معه:



(*) أصدرت أخيرًا كتابًا بالإسبانية عن الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية. ما يثير الانتباه في هذا الكتاب عنوانُه الذي لا يخلو من دلالة مركبة: ''كُتّاب موروس يعبرون إلى الضفة الأخرى، مدخل الى الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية''. ما الرسالة التي ينطوي عليها هذا العنوان؟
في الواقع، من الصعب ترجمة عنوان كتابي النقدي الأخير إلى العربية، لأنه يستدعي المثل الإسباني الشهير: "هناك مغاربة على الساحل!". العنوان غنيٌّ بالدلالات؛ أولًا، هنالك تناصّ مع كتاب آخر بعنوان "هناك مغاربة على الساحل!" لكريستيان ريتشي/ Cristian Ricci، الباحث الأرجنتيني في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة، والذي كان من الأكاديميين الرواد الذين درسوا الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية، من منظور نقدي ما بعد كولونيالي، سواء في المغرب، أو إسبانيا. لكن هذا التناصّ لم يمنع من أن أكون حريصًا على تقديم قراءة مغربية بحتة لهذا الأدب، لكنها في جوهرها تبقى قراءة فيلولوجية (لغوية)، حيث وقفتُ على الإشكاليات الجمالية والمفاهيمية في متخيّل هذا الأدب، وموضوعاته، فضلًا عن الصعوبات التي يواجهُها من حيث النشر والتوزيع والانتشار. ثانيًا، يحمل عنوان الكِتاب دلالة السخرية والرغبة في التفكيك. فمن جهة، يُسائل الدلالة السلبية التي تربط الموروس والمغاربة بالانحراف والجريمة وموروث الغزو الإسلامي والإرهاب وغيره. ومن جهة أخرى، يستدعي أهمية التعددية الثقافية وانفتاح الموروس/ Los moros (المغاربة) على الآخر، الذين صار منهم الآن كُتّاب يستعملون الإسبانية لغةً للتعبير الأدبي، جاعلين منها موطنًا لغويًا آخر.
قبل فترة، انتقد أحد الهِسبانيين المغاربة عنوانَ الكتاب، على اعتبار أنه يعكس المنظور الإسباني السلبي المتوطن حيال كل ما يمت بصلة للموروس، أو المغرب، أو الإسلام. وهذا ليس صحيحًا. العنوان كان من اختياري، بناء على المُسوغات الواردة أعلاه، وأيضًا لأنه، في تقديري، ينبغي العمل على تحرير كلمة ''موروس'' مما علق بها من دلالات سلبية، من دون استدعاء عقدة الضحية، لأن أصلها، حسب ما جاء في أطروحة دكتوراة حديثة في الموضوع، لا وجودَ لها في اللاتينية، ولا في اليونانية، وهو ما يؤكد عليه قاموسُ الأكاديمية المَلَكية الإسبانية. من المفترض أن أصل الكلمة يعود إلى المغرب، ومن دون شك، إلى اللغة الأمازيغية.

(*) تقول في مقدمة كتابك ''إن الأدب المغربي المكتوب باللغة الإسبانية ليس جيدًا، ولا سيئًا للغاية. ومع ذلك، فهو موجود كنص''. لماذا أخفق هذا الأدب، في نظرك، في شقِّ مسارات تخييلية لافتة تضعه بين أفضل ما يُكتب بالإسبانية من أدبٍ في العالم؟
من الصعب الحديث عن إخفاق، لكن هنالك صعوبات تحول دون أن يحظى هذا الأدب بمكانة مُقدَّرة بين ما يُنتَجُ بالإسبانية من أدب في المغرب وبلدان أخرى. ويعود ذلك، في الأساس، إلى موقع هذا الأدب، كنسق رمزي تخييلي، داخل المغرب وخارجه. هنالك عوامل تبدو حاسمة في هذا الصدد؛ يبقى هذا الأدب حديث العهد، فوجوده لا يتجاوز نصف قرن. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين يرون أن جذوره تعود إلى القرن التاسع عشر، إلا أن بدايته الحقيقية تعود إلى مطلع ثمانينيات القرن المنصرم. ففي الحقبة الاستعمارية، لم يُنشر إلا عدد قليل من النصوص، التي كانت محاولات مبكرة، لكُتّاب مثل عبد اللطيف الخطيب، ومحمد التّمْسَماني، وإدريس الدّْيوري. لا يزال هذا الأدب في بداياته، وآفاقُه غير واضحة، لا سيما في ظل التراجع الواضح في الاهتمام باللغة الإسبانية في منظومة التربية والتكوين المغربية. كما أنه يبقى هامشيًا، سواء إذا ما قورن بالأدب المغربي المكتوب بالعربية والفرنسية والأمازيغية، أو بالأدب الهِسباني الذي يتم إنتاجه في إسبانيا وأميركا اللاتينية. لم تكن لهذا الأدب يومًا قاعدةٌ اجتماعية من القُرّاء والمهتمين، ولا دورُ نشر، أو نظام توزيع فعّال. إن 80% تقريبًا مما يُنشر من أعمال أدبية بالإسبانية يتحمل تكاليفها أصحابها، هذا من دون الحديث عن افتقاد جزء غير يسير من هذه الأعمال القيمةَ الجماليةَ والفنيةَ المطلوبة.

(*) يحظى الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية بحضور لافت في المشهد الثقافي المغربي، وحتى الفرنسي. ألا ترى أن فرنسا كانت حريصة، بعد استقلال المغرب، على وجود نخبة فرنكوفونية في بعض القطاعات، خاصة الثقافة والإعلام، وهو ما منح الأدب المكتوب بالفرنسية بنياتٍ سمحت بتطوره، على العكس من إسبانيا التي كانت تفتقد سياسة ثقافية تسمح بتشكل نخبة ذات ثقافة إسبانية في المغرب، تكون نقطةَ توازنٍ في مواجهة النخبة الفرنكوفونية؟
إن مقارنة الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية بالأدب المكتوب بلغة ثِربانْتِس أمرٌ غير ذي صلة. فهما مختلفان في التطور والتلقي والتوزيع وغيره. في الواقع، يحظى الأول بمكانة مُميّزة، لأن الفرنسية تكاد تكون لغة رسمية في بلدنا، وتحظى بحماية ودعم اللوبي الفرنكوفوني الموجود في مواقع السلطة والتعليم والاقتصاد، ناهيك عن الدعم والترويج الذي تحظى به من قبل فرنسا.





كانت فرنسا براغماتية للغاية بعد 1956؛ فقدت هيمنتها السياسية، لكنها احتفظت بهيمنتها الاقتصادية، ما سمح لها بالترويج للغتها وثقافتها وخلقِ نخبة فرنكوفونية. هذا عكس الحالة الإسبانية؛ كان الاستعمار الإسباني تابعًا للاستعمار الفرنسي، كان ضعيفًا، من دون قوة اقتصادية، أو قبول شعبي. لم يكن استعمار إسبانيا المغربَ (1912) سهلًا، فقد واجهت مقاومة كبيرة. في الشمال، لم تفرض سلطتها على المنطقة إلا في أواخر الثلاثينيات تقريبًا. كما جابهت أيضًا صعوباتٍ مماثلة في الجنوب مع جيش التحرير المغربي. لم تضع سياستها الثقافية إلا في فترة ما بعد الحرب الأهلية، أي ابتداءً من أربعينيات القرن الماضي، من خلال إنشاء معاهد بحثٍ، ومكتبات، وتنظيم معارض كتب، وجوائز، وإصدار صحف ومجلات أدبية، وغيرها. كانت إسبانيا شديدة المحافظة في استعمارها شمال المغرب وجنوبه. فبدلًا من القيام بتدابير إصلاحية وتحديثية، على اعتبار أن ذلك كان مبررها الرئيسَ في فرضها الحماية على المغرب، اكتفت بالحفاظ على الوضع القائم؛ فحافظت على البنيات الاجتماعية والثقافية التقليدية القائمة، وشجعت على إنشاء الأحزاب السياسية، وفضّلت التعليم التقليدي واستعمال اللغة العربية في الصحافة والنشر. كما لم تُبدِ اهتمامًا يُذكر بتكوين نخبة حديثة ناطقة بالإسبانية تحلُّ محل الأعيان، الذين شكلّوا أقليةً استفادت من ولائها لها. وهذا يُبرر حقيقة ثقافية بالغة الأهمية: لم تسعَ السلطات الاستعمارية الإسبانية، ولو ضمن الحدود الدنيا، إلى خلق أدب مغربي باللغة الإسبانية وتيسير سبل انتشاره، مما كان يتناقض مع دعايتها الرسمية بشأن الأخوة الإسبانية المغربية. عندما أُقيمت جائزة أفريقيا للأدب في تطوان (1953)، صدر إعلانُها في صيغتين: إحداهما وُجِّهت بالعربية للمغاربة الناطقين بالعربية، بينما وُجّهت الأخرى بالإسبانية إلى الإسبان المقيمين في المنطقة. كان السبب واضحًا؛ تبرير وجودها الاستعماري وتفوقها الغربي. كان عليها أن تُبقي المستعمِر والمستعمَر، الحامي والمحمي، منفصلين، وتحول دون التواصل الثقافي بينهما. وبسبب نزعتها الأبوية الاستعمارية، شجعت هذه السلطات على دراسة الأدب الشعبي المغربي وجمع نصوصه، لأنه كان الأدب الأكثر أصالة وتمثيلًا للنسيج المجتمعي المغربي. كان المغاربة الذين كتبوا بالإسبانية أقلية، كان عددهم على رؤوس الأصابع: أحمد المكناسي، إدريس الديوري، محمد بن عَزُّوز حكيم، عبد الرحيم جبّور العُدّي، عبد اللطيف الخطيب، محمد التَّمْسَماني. في سيدي إفني والصحراء، كان الوضع أسوأ. فبسبب هيمنة العسكر، لم تكن هناك حياة ثقافية. كان محمد فاضل العربي، الكاتب المغربي الوحيد الذي كتب في (A.O.E) ''أفريقيا الغربية الإسبانية''، الصحيفة الرئيسة في الأقاليم الجنوبية آنذاك، والذي لا تتوفر أي معلومات عن سيرته الذاتية حتى الآن. ربما كان اسمًا مستعارًا لكاتب إسباني. كذلك، كانت صحيفةُ "La Realidad/ الحقيقة''، التي بدأت في الصدور، بالإسبانية والعربية، في مدينة العيون (1975)، قد نشرت لعدد من الكُتّاب الصحراويين في القسم العربي، والذين كانوا يدافعون عن السياسة الاستعمارية آنذاك، وأساؤوا لصورة المغرب.
باستثناء الديوري، والتمسماني، ومحمد بن عزوز، توقف عدد من الكتاب الذين ذكرناهم عن الكتابة بالإسبانية بعد الاستقلال، وغيّروا لغة كتابتهم، إذ اضطروا إلى تبني السياسة الثقافية واللغوية الجديدة للمغرب المستقل، والتي فرضت التعريب والفرنكوفونية الشامليْن، مما كان له الأثر في تدمير النخبة (الأقلية) المحلية الناطقة بالإسبانية، والتي واجهت، في دراساتها العليا، صعوبات جمة في التكيف مع الظروف الجديدة.
حقيقة أخرى بالغة الأهمية: لم تتوقع إسبانيا نهاية هيمنتها الاستعمارية، فقد كان خروجها من المغرب (1956) على مضض. رفضتْ النظر خلفها، وتخلت تمامًا عن هذه النخبة، وعن إرثها في البلد. ولولا الجهود التي بذلتها جهات فرنسية ومغربية، لكانت اللغة الإسبانية قد أُزيحت من التعليمين الثانوي والعالي في سبعينيات القرن الماضي. ولعل الوضع الحالي للممتلكات الإسبانية في سيدي إفني خير مثال على هذه اللامبالاة. صحيح أن توقيع معاهدة الصداقة والتعاون بين البلدين (1991)، وإنشاء معاهد ثربانتس، قد أسهما في تحسين الصورة إلى حد ما، إلا أن اللغة الإسبانية لا تزال مُهمشة. ويُعزى ذلك، إلى حد ما، إلى السياسة الحالية للمغرب، الذي لا يزال غير مستوعب أهمية هذه اللغة وتجَذُّرها فيه. باختصار، لا يُسهم الوضع الراهن للإسبانية في المغرب في صالح الهِسبانية المغربية، على الرغم من الجهود الفردية المبذولة منذ عقود. ولذلك، عجزت، للأسف، عن خلق نقطة توازن حيال هيمنة الفرنكوفونية.

الحضور التاريخي للأدباء والعلماء المغاربة في إسبانيا كما كرسه الفن التشكيلي 


(*) كيف يمكن تخليص الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية من طبيعته الإشكالية؟
من الصعب التنبؤ بمستقبل الأدب المغربي باللغة الإسبانية وإمكانية انتشاره خارج المغرب، ما لم يتم تخطّي الدينامية السلبية الواردة أعلاه على المدييْن القريب والبعيد. وإذا أردنا أن نتناول الأمر بشكل عام، فيمكن الوقوف على العناصر التالية:
ينبغي على الكُتّاب أنفسهم الالتزام بجودة ما يكتبونه من أعمال، وهو ما لا يتحقق إلا بارتفاع معدل القراءة، وامتلاك قدرة على التخييل الذي يستوعب جدلية المحلي والكوني، إضافة إلى امتلاك لغةٍ لا تتوقف عن تجديد ممكناتها. بالطبع، تتوفر هذه الشروط في عدد من نصوص كُتّابنا، لكن عليهم الاجتهاد أكثر وأكثر. وتُعدُّ روايات محمد المرابط خير مثال على ذلك: أدب طليعي، يجمع بين الجمالية والكونية في الآن ذاته.




العامل الثاني يتعلق بالوضع الراهن للغة الإسبانية، حيث تتراجع أهميتها بشكل متزايد في السوق اللغوية الوطنية، مع تراجع ملحوظ في التعليمين الثانوي والعالي. لا بد من معالجة هذا الوضع من خلال السياسة الرسمية الحالية، لسبب بسيط هو أن لغة ثربانتس متجذرة في بلدنا. الإسبانية ليست لغة استعمارية كالفرنسيّة، وتأثيرها حاضر في لغتيْنا الوطنيتين. إنها ضرورية لفهم تاريخنا، الذي ركّزت توجهاتُه الأوروبية والمتوسطية، بشكل أساسي، على إسبانيا وشبه الجزيرة الإيبيرية. وينطبق الأمر نفسه على إسبانيا، التي يجب أن تُروّج لهذا الأدب داخلها، وفي أميركا اللاتينية، لأنه يُشكّل متخيّلًا جديدًا يُضفي تنوعًا أكبر على المشهد الأدبي في إسبانيا وأميركا اللاتينية، تمامًا كما هي الحال مع الآداب الهِسبانية في أفريقيا وآسيا وأميركا الشمالية. بهذا المعنى، فإن هذا المتخيّل المغربي يُمثّل رصيدًا رمزيًا يجب على المغرب استثماره كي يحافظ على بُعده الهِسباني، وليكونَ جسرًا بين أفريقيا والعالم العربي والعالمين الإيبيري والأميركُو ـ لاتيني. لقد كانت مشاركةُ المغرب الأخيرة في معرض بنما للكتاب، كضيف شرف، مثالًا يجب أن يُحتذى به في جميع بلدان أميركا اللاتينية، في أفق تشجيع الكُتّاب والمبدعين المغاربة الذين يكتبون بالإسبانية. أما العامل الثالث والأخير، فيتعلق بالنقد، الذي يجب أن يواصل قراءة الأعمال الأدبية المكتوبة بالإسبانية وتحليلها، والترويج لها أكاديميًا، ووضع مرجعيتها الثقافية الرسمية.

(*) في هذا الصدد، هل هنالك قصور نقدي من قبل الباحثين والنقاد، المغاربة والإسبان على حد سواء، في توسيع دائرة الاهتمام بهذا الأدب؟
هنالك جدل نقدي منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بشأن الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية، بين من يرفضه لأنه يفتقد القيمة الجمالية والفنية، والامتدادَ الثقافي، وربما مؤيِدٌ لإسرائيل، بالنظر إلى أن بعض المحسوبين عليه ممن زاروا إسرائيل، وظهرت أسماؤهم ضمن مختارات شعرية ضمت شعراء إسرائيليين يكتبون بالإسبانية. وهناك من يدافع عن هذا الأدب بشدة، من دون أساس موضوعي مُقْنع، باستثناء قلة من الباحثين الذي قدموا دراسات رصينة.
علاوة على هذا الجدل المزدوج، كان هنالك، بالتوازي، اهتمام أكاديمي متنامٍ، بدأ في منتصف التسعينيات، ولا يزال مستمرًا حتى الآن. ويتجلى، بشكل خاص، من جهة، في ما يقرب من 12 مؤتمرًا، خُصّصت حصريًا لهذا الموضوع، نظّمتها جامعات فاس، وأغادير، والناظور. ومن جهة أخرى، في عدد من الأطروحات الجامعية التي ركزت على تحليل أعمال الكُتاب، والتي نوقشت أيضًا في جامعات مغربية وأوروبية. هذا علاوةً على أن بعض برامج الماستر الهسبانية أصبحت موضوعًا للدراسة والتكوين في الأدب الإسباني. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى آخر مسابقة دولية للندوات حول الهسبانية، التي تنظمها سنويًا مؤسسة دوقية سورْيا/ Duques de Soria في إسبانيا. ومن بين الندوات الثلاث الفائزة هذا العام، ندوة: ''الأدب المغربي باللغة الإسبانية: قراءات جديدة''، التي عقدت في سورْيا أيام 2 و3 و4 يوليو/ تموز الفائت، بمشاركة نخبة من الباحثين والمختصين في الموضوع، من المغرب، وأوروبا، وأميركا الشمالية. كما ستخصص الجمعية المغربية للدراسات الإيبيرية والإيبيرو ـ أميركية مؤتمرها الدولي الرابع لهذا الأدب، والذي سيعقد في مايو/ أيار المقبل (2026) في مراكش والدار البيضاء. ذلك كله يظل مهمًا. ومع ذلك، فهنالك حاجة إلى مقاربة منهجية نقدية وأكاديمية متكاملة، تأخذ بعين الاعتبار الخصائص النصية المختلفة لهذا الأدب، إضافة إلى إشكالاته المفاهيمية.



خارج المغرب، لا بد من التنويه بالإسهامات الأكاديمية الكبرى للدراسات ما بعد الكولونيالية في أميركا الشمالية بشكل خاص. لا بد من ذكر اسم كريستيان ريتشي، الذي يعد رائدًا في وضع أسس هذه الدراسات، قبل أن يظهر باحثون آخرون في جامعات مختلفة في أميركا الشمالية، مثل ماهان إليسون/ Mahan Ellison، ورودولفو كامبويْ كوبيُّو/Rodolfo Campoy Cubillo، وآنا رويدا/ Ana Rueda، وروسيليا إكاوس/ Roselia Ekhhaus، وآخرين. كما لا ينبغي السهو عن الجهد النقدي المبذول من قبل غونثالو فرنانديث بارِيّا/Gonzalo Fernández Parilla وتلميذته لاوْرا كاسِيِّيس/ Laura Casielles، من جامعة مدريد المستقلة، وإنريكي لوماس لوبيث/ Enrique Lomas López، من جامعة أليكانْتي، هذه الجامعة التي خصّصت بوابة كاملة على الموقع الإلكتروني لمكتبة ميغيل دي ثِربانتس، تحمل اسم '' المكتبة الأفريقية''، تضم نصوصًا مختارة للكتاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإسبانية، بمن فيهم الكُتاب المغاربة. لا ينبغي أن ننسى العمل الجاد والدؤوب الذي يقوم به الشاعر الإسباني خوسي سارْيا/José Sarria  وأعضاء آخرون في رابطة كتّاب إقليم الأندلس. وأخيرًا، أود أن أذكر أن الهِسْبانوفونية/ La Hispanofonía العالمية تشمل الأدب المغربي باللغة الإسبانية ضمن نطاق بحثها. وقد كانت موضوع ندوتين نُظِّمتا في جامعة أنْتْويربن (بلجيكا)، وجامعة لوزان (سويسرا) في 2023 و2024. كما كانت أخيرًا موضوعَ دراسات في مجلتين علميتين مرموقتين: مجلة Periphérica، التي تُصدرها جامعة Obregón/ أوبريغون، وتُشرف عليها بينيتا سامبيدرو/ Benita Sampedro/ ورودولْفو كامبوي كوبيلو، ومجلة Investigaçoes، التي يديرها من البرازيل روجيريو مينْديش/ Rogerio Mendes من الجامعة الفيدرالية في ريو غراندي دو نورتي. ويُرتقب أن تنشر المجلتان هذه الدراسات في نهاية هذه السنة (2025) وبداية 2026.





باختصار، ثمة اهتمام نقدي وأكاديمي متزايد بالأدب المغربي باللغة الإسبانية، سواء داخل المغرب، أو خارجه، في أفق إبراز مكانته وتعزيزها دوليًا. نأمل أن يستمر ذلك، لأنه يُمثّل تقديرًا لهذا الأدب وخطوةً أخرى على درب إدراجه ضمن الأدب الهِسباني.

(*) هل
يمكن القول إن انحصار الهِسْبانية المغربية لسنوات طويلة في منطقة الحماية الإسبانية، كان له تأثيرٌ سلبيّ على فعاليتها في فهم إسبانيا بشكل أفضل وأنضجَ، لا سيما مع ظهور جيل جديد من الهِسْبانيين المغاربة في مناطق أخرى من المغرب؟
قبل الإجابة على سؤالك، لا بد من توضيحٍ هنا. غالبًا ما يُخلط في المغرب، من دون سَندٍ فكري، بين ثلاثة أنواع من الهسبانية، وهي: البحث، والترجمة، والإبداع. ومع ذلك، فالهسبانيةُ الوحيدة التي تستحق هذا التصنيف موضوعيًا هي المرتبطة بالبحث. ووفقًا لقاموس الأكاديمية المَلكية الإسبانية/ DRAE، وخبراء متخصصين، فإن الهِسبانية مذهب فكري/ Un ismo. ولذلك فهي خطاب علمي ومنهجي يهدف إلى دراسة العالم الناطق بالإسبانية، وخلق معرفة أصيلة ومبتكرة عنه. ولا يمكن اكتساب هذه المعرفة إلا عبْر الأكاديميا، ليس فقط باللغة الإسبانية، ولكن أيضًا بلغات أخرى. إن الذين يمتهنون الصحافة، أو الترجمة، أو العمل الإبداعي، ليسوا هِسبانيين بالمعنى الضيق، بل هم كُتّاب يستخدمون الإسبانية كلغة تعبير.
بهذا المعنى، لم تخطُ الهسبانية المغربية خطواتها الأولى إلا في ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأت تظهر أولى الكتب التي نشرها الهسبانيون والجامعات التي تضم أقسامًا للدراسات الإسبانية في المغرب. أشير هنا إلى عملين أساسيين: "ديوان الحداثة" (1986) لعبد الله جبيلو، و''آثارٌ مشتركة ووجهاتُ نظرٍ متقاطعة: العوالم العربية والإيبيرية والإيبيرو -أميركية'' (1995)، الذي أشرف عليه محمد الصالحي. تشمل هذه الهسبانية، بالطبع، بعض المؤرخين المهتمين بتاريخ المغرب إبان الحقبة الاستعمارية والعلاقات الإسبانية المغربية في فترة ما بعد الاستعمار. أجرؤ على القول إن الهِسبانية لم تكن موجودة إبّان الحقبة الاستعمارية. لم تتناول الأعمال التي نشرها المغاربة في تلك الفترة العالم الهِسباني، بل اقتصرت على دراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للمغرب في مجالات مختلفة، مثل علوم الأعراق، والدين، والآثار، واللغة، وغيرها. وكثير من تلك الأعمال كان غير علمي، ومفتقرًا الدقةَ في التحليل، لأن مؤلفيها لم يكونوا منتمين إلى الجامعات؛ كانوا عِصاميين في المجالات التي درسوها، وكان كثير منهم أيضًا موظفين في الإدارة الاستعمارية الإسبانية، فأعادوا إنتاج أيديولوجيتهم الأفريقانية/ EL africanismo على غرار منشورات معهد الدراسات الأفريقية في مدريد. كان محمد بن عزوز حكيم غزير الإنتاج خلال فترة الحماية، ويُعَدُّ أبَ الهسبانية المغربية، لكنه لم ينشر إلا أعمالًا عن شمال المغرب في ذلك الوقت. بعد الاستقلال، استمر على المنوال نفسه، ونادرًا ما تصدى بالدراسة لما له صلةٌ مباشرة بإسبانيا، عدا ما قدمه من دراسات بشأن العلاقات الإسبانية المغربية. لم يكن مؤرخًا محترفًا بقدر ما كان، في الأساس، باحثًا في الوثائق الإسبانية. وإذا أردنا أن نكون منصفين، فقد كان هِسبانيا متوسطًا. وينطبق الأمر نفسه على وجوه بارزة في ذلك الوقت، مثل أحمد المكناسي، وعبد الرحيم جبّور العُدّي، ومحمد الصباغ، وإدريس الديوري، ومحمد التمسماني، وغيرهم. كانوا صفوةً من المثقفين الذين استخدموا الإسبانية في الترجمات والمقالات والكتابات السردية.

(*) كيف تنظر لواقع الهِسْبانية المغربية/ El Hispanismo Marroquí  مقارنةً ببلدانٍ أخرى، لا سيما في أفريقيا؟
أعتقد أن أفضل طريقة لتقييم الهِسبانية المغربية بإنصاف وموضوعية مقارنتُها بالهسبانيات الأخرى الناشئة دوليًا وقاريًا وإقليميًا. في ما يتعلق بالهسبانية الفرنسية والأميركية الشمالية، مثالًا لا حصرًا، أستطيع التأكيد على أن الهسبانية المغربية تبقى ضعيفة، ولا تحظى بدعم من خارج المغرب. نفتقر إلى مرجعيات معترف بها في العالم الهسباني، مثل الفرنسي مارسيل باتايّون/ Marcel Bataillon، والأميركي ستانلي جورج باين/ Stanley George Payne. لا يمكننا بلوغُ هذا المستوى ليس بسبب نقص الكفاءة الثقافية والبحثية، بل بسبب نقائص بنيوية تجعل ذلك مستحيلًا من دون جهودٍ. هنالك نقص حاد في الموارد المادية، غياب مجموعات بحثية كبيرة ومعهد أبحاث مستقل له ميزانية خاصة، ضعف ​​روح البحث العلمي والعمل الجماعي، وغير ذلك. على مستوى القارة الأفريقية، لدينا مزايا أكثر؛ فنحن قريبون جدًا من إسبانيا، التي يجمعنا بها تاريخ مشترك طويل؛ كذلك لدينا هسبانيون مؤهلون أكثر، وما فتئ إشعاعهُم يتزايد خارج المغرب. لدينا أيضًا سبعة معاهد ثربانتس، وحضورٌ ثقافي إسباني بارز للغاية. لا تتمتع الهسبانية الأفريقية بهذه المزايا، كما أن ما تواجهه من صعوبات يفوق حدةً ما تواجهه الهسبانية المغربية. وتنطبق الملاحظة نفسها على الهسبانية المغاربية والعربية.
ومع ذلك، ينبغي التحلي بالصراحة والقول إنه لا توجد لدينا مدرسة مغربية حقيقية للهسبانية. ولا توجد أي مؤشرات على تبلورها في نهاية المطاف على المدى القريب أو البعيد. عدد من الهسبانيين المغاربة هم أساتذة اللغة الإسبانية أكثر منهم باحثين منتجين للمعرفة العلمية. هنالك فقط حالات فردية قليلة تمتلك مشاريع فكرية واضحة للبحث الأكاديمي. كما أنه ليس لدينا تأثير يُذكر على الحياة الثقافية والاجتماعية في البلاد، لأننا، في نهاية المطاف، مثل المستعربين في إسبانيا، "مجموعة صغيرة ومعزولة".

(*) تعرف العلاقات الثقافية بين المغرب وإسبانيا حيوية لافتة في السنوات الأخيرة؛ هنالك جمعيات ومنتديات ومؤسسات ثقافية في البلدين تساهم في بناء جسور للتواصل الثقافي بين الضفتين. هل تعتقد أن ذلك من شأنه أن يسهم من جهة، في فهم أكثر تحرُّرًا للتاريخ المشترك بين البلدين، ومن جهة أخرى في تجاوز واقع الجوار المُركَّب بينهما؟
علاقة المغرب بإسبانيا معقدة للغاية. فرغم صلة الجغرافيا والتاريخ المشترك بينهما، لا يزال هنالك انعدامُ ثقة، وأحكامٌ مسبقةٌ، وجهلٌ ونزاعات حدودية عالقة بينهما. وقد يُفضي ذلك إلى توتّر أكثر في المستقبل. هذا واقع يجب على بلدنا أخذه بعين الاعتبار سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. الجانب الثقافي بالغ الأهمية، ويجب أن يُرافق بالضرورة العملَ الدبلوماسي، لأنه الوحيد الأقدرُ على إنتاج المعرفة بإسبانيا، ومكافحة الأحكام المسبقة، من أجل مزيد من التواصل مع العالم الهسباني. في هذا السياق، لا بد من الإشادة بالعمل التطوعي الكبير الذي يقوم به المجتمع المدني، من دون دعم مؤسسي كافٍ بطبيعة الحال. ومنذ سنوات، نجحت جمعيات مهتمة بالهسبانية في تنظيم ملتقيات وأيام دراسية ومؤتمرات وعروض كتب ومحاضرات داخل المغرب وخارجه، بغاية تعزيز اللغة والثقافة الإسبانيتين، عبر التعريف بهما، ورفع مستوى الوعي بأهميتهما على الصعيدين الوطني والدولي. بالتوازي مع ذلك، هنالك أعمال أدبية مكتوبة باللغة الإسبانية، ويتزايد عدد الكتاب الذين يختارون هذه اللغة للكتابة. والمُحصِّلة: مُتخيَّل أدبي مغربيّ، لكنه جسر ثقافيّ متين مع إسبانيا وأميركا اللاتينية. كذلك، يقوم المترجمون، بجهودهم الفردية، بنقل التراث الثقافي المغربي إلى الإسبانية والعكس، من الإسبانية إلى العربية.
هذه الجهود المحمودة كلُّها تؤثر، شئنا أم أبينا، على العلاقات الإسبانية المغربية. لا أعرف كيف، ولكنها تؤثر أولًا، من خلال إنتاج معرفةٍ عن إسبانيا، وهي معرفة ضرورية لفهمها كأمة. وثانيًا، بدراسةِ التوجه الثقافي الهِسباني لبلدنا في مجالات أساسية، مثل اللغة والثقافة والتاريخ، لا سيما أن الدستور المغربي الأخير اعترف بالرافد الأندلسي كأحد روافد هويتنا الوطنية. وثالثًا، بالإقرار بأهمية اللغة الإسبانية من أجل فهم جزء من تاريخنا، فهي ليست لغة استعمارية، إنها متجذرة، وتأثيرُها بادٍ على جميع اللغات المغربية، سواءً العربية، أو الدارجة، أو الأمازيغية، أو الحسانية. لذا، فهذه الجهود جديرة بالثناء، لأنها، من جهة، تُعزّز جذورنا الهِسبانية، ومن جهة أخرى، تقيمُ جسورًا من التواصل مع العالم الناطق بالإسبانية. المشكلةُ تكمن في اللامبالاة الرسمية إزاء هذه الجهود، إذ لا يُروّج لها كما ينبغي، ولا تُوظّف كرأسمال رمزي من قِبَل دبلوماسيتنا في البلدان الناطقة بالإسبانية. يُضاف إلى ذلك أن المغرب أهمل الإسبانية، حين همّشها بعد الاستقلال لصالح التعريب والفرنسة. لم تكن يومًا جزءًا من سياسته اللغوية، رغم تجذّرها التاريخي في المنطقة. وهنا، أودّ التأكيد على أنه، للأسباب المذكورة آنفًا، يجب على المغرب إعادة النظر في وضعها، والقيام أيضًا بمبادرات ثقافية حقيقية في إسبانيا، وأميركا اللاتينية، التي بالمناسبة، يبقى التأثير المغربي ضعيفًا فيها، رغم المبادرات المبذولة في السنوات الأخيرة، والتي تبقى غير كافية.
باختصار، يحتاج المغرب إلى عمل ثقافي منظم ومُمَأسس في العالم الناطق بالإسبانية؛ عمل ينبغي أن يسهم في نشر ثقافتنا الوطنية، ويأخذ في الاعتبار الرأسمال الرمزي الذي راكمه الهِسبانيون، والكُتاب، والصحافيون، والمترجمون إلى اللغة الإسبانية، في بلدنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.