ترجمة وتقديم: دارين حوماني
يعدّ الروائي راسل بانكس (1940- 2023) أحد أبرز كُتّاب الأدب الأميركي المعاصر، وأبرز المدافعين عن فلسطين في المحافل الثقافية الأميركية والعالمية. صدر له أكثر من 27 عملًا بين الرواية والقصة القصيرة والشعر. من أعماله: "المحنة" (Affliction) (التي حُوِّلت إلى فيلم مع نيك نولتي، وقدّم فيه جيمس كوبورن أداءً حائزًا على جائزة الأوسكار)، و"الانجراف القاري" (Continental Drift)، و"ذاكرة الجلد المفقودة" (Lost Memory of Skin)، و"شريعة بون" (Rule of the Bone).
بدأ راسل بانكس حياته شاعرًا إذ صدر له كتاب "في انتظار الصقيع" (Waiting to Freeze) (1969)، وكتاب "ثلج" (Snow) (1974)، قبل أن ينطلق في كتابة القصص القصيرة والروايات. بعد وفاته بعام صدرت له مجموعة قصصية بعنوان "أرواح أميركية" (American Spirits) (2024)، وصدرت آخر رواياته قبل أقل من عام من وفاته في 2022 بعنوان "مملكة السحر" (The Magic Kingdom). تشمل شخصيات رواياته وقصصه القصيرة عمالًا ذوي ياقات زرقاء في مدن صناعية مُحتضرة، ومراهقين مُتسكعين، وغيرهم الكثير. ومع ذلك يقول: "لا داعي للبحث بعيدًا لرؤية أشخاص يشبهون بعض شخصياتي في جميع أنحاء أميركا".
هنا حوار معه أجراه الكاتب مايكل كوزي:
***
(*) قلتَ إنك كنت تريد أن تكون شاعرًا في الأصل، لكنك لم تشعر أن موهبتك تميل في ذلك الاتجاه. وبدلًا من ذلك، اتّبعت طريق السرد في الروايات والقصص القصيرة. كيف ترى الفرق بين الاثنين من منظور إبداعي؟
هذا سؤال صعب. لا أظن أن أحدًا سألني هذا من قبل. أعتقد أن هناك نوعًا من الوعي الذاتي الذي كان وما زال يرافق كتابة الشعر.
عندما بدأت الكتابة في أوائل الستينيات، تتذكرون أن تلك الفترة كان يُهيمن عليها من أسميهم "شعراء الاعتراف"- روبرت لويل، جون بيريمن، آن سيكستون، وغيرهم. وأظن أنني لم أكن مرتاحًا لذلك النمط. لم يكن يناسبني أن أكتب عن نفسي. نادرًا ما أفعل ذلك. قلّما أستند إلى تجاربي الشخصية في حياتي بدون أن أغيّرها جذريًا في كتابتي. لذا، أعتقد أن هذا كان أحد الأسباب.
والأمر الآخر أن العديد من أصدقائي الأدبيين المقربين في الستينيات كانوا شعراء- مثل ويليام ماثيوز وآخرين من جيلي- وكانوا شعراء بارعين بحق. وأظن أنني شعرت ببعض الارتباك أمام موهبتهم. كانوا يتمتعون بقدرة لغوية استثنائية، ولم أشعر أن لديّ الموهبة نفسها. وكان من الواضح بالنسبة لي أن قصائدي كانت تميل لأن تصبح أطول فأطول، وتنتهي بسرد قصص فيها أحداث وشخصيات، وأصبحت أقل اعتمادًا على الصور الشعرية. لذا، كان ذلك تطورًا طبيعيًا أيضًا، مزيجًا من أسباب سلبية وأخرى إيجابية وراء هذا الانتقال.
لكنني عثرت مؤخرًا على بعض قصائدي القديمة في مجلات أحضرها لي أحدهم أثناء توقيعي للكتب، قرأتها بسرعة وفكرت: "ليست سيئة جدًا". ربما أعود يومًا ما إلى كتابة الشعر.
(*) عندما تقول إن كتاباتك ليست سير ذاتية، يمكنني أن أرى ذلك بالنظر إلى تنوع الشخصيات والمواقف والأماكن التي تكتب عنها، لكن القصة القصيرة "الحطب" (Firewood) بدت لي تقريبًا كأنها تمهيد لحدث واقعي في حياتك: عندما قدّم لك والدك المسنّ حطبًا كهدية في عيد الميلاد. قدّمها بطريقة باردة نوعًا ما، ولكن عندما ذهبت لتستلمها في طقس شديد البرودة، خرج لمساعدتك في تقطيعها، وهناك رأيت كم كان ضعيفًا وهشًا فعلًا...
نعم، تلك القصة مأخوذة بوضوح من حدث حقيقي وقع بيني وبين والدي. كانت مبنية على حياته، ولم أستطع مقاومة ذلك، لم أستطع تركها. وهذا صحيح، أحيانًا تحدث في حياتي أمور تكون مثالية تمامًا لتتحول إلى قصة قصيرة، بدون أن تكشف شيئًا جوهريًا عن الشخص الآخر. أعني أنني لم أكن لأكتب تلك القصة بينما كان والدي ما يزال على قيد الحياة. فهذا جزء من حماية الناس. لا أريد أبدًا أن أستخدم عملي الأدبي بطريقة قد تُعرّي أو تُحرج أو تُؤذي أحدًا.
(*) ما هي طريقتك في الكتابة؟
روتينية إلى حدٍّ كبير. أعمل غالبًا في الصباح. كنت دائمًا تقريبًا أبحث عن مكان للعمل خارج المنزل، بعيدًا عن البيت، حيث لا أفعل شيئًا سوى الكتابة. هناك لا أدفع فواتير، ولا أستقبل أحدًا. لا أفعل شيئًا سوى الكتابة. وعندما أدخل ذلك المكان، أشعر أنه لا يوجد ما أفعله سوى الكتابة، فأكاد أُجبر على الجلوس والبدء بالعمل. أكتب حتى أوائل بعد الظهر تقريبًا، ثم أتناول غداءً متأخرًا، وبعدها أقرر ما سأفعله ببقية اليوم بعيدًا عن الكتابة.
لكنني وجدت على مرّ السنين أن الأمر لا يختلف، سواء كنت أدرّس أو أربّي الأطفال أو غير ذلك، كنت دائمًا أجد حوالي خمس ساعات في اليوم للكتابة. وعندما تقاعدت أخيرًا عن التدريس وكبر أطفالي وتوقفت عن التعليم تمامًا، ظننت أن الوقت سيتسع أكثر للكتابة، تخيّل ذلك! ظننت أن الزمن انفتح أمامي. لكن تبيّن في النهاية أنني ما زلت أكتب فقط نحو خمس ساعات يوميًا.
(*) همنغواي قال إنه كان يتوقف عند نقطة معينة بحيث تمنحه دفعة ليكمل في اليوم التالي. هل تفعل الشيء نفسه؟
هذه نصيحة حكيمة جدًا. نعم، أتذكر أنني قرأت ذلك أيضًا. وأنا أتّبع تلك الممارسة كلما أمكن. أحاول ألا أتوقف عن الكتابة إلا عندما أعرف تمامًا إلى أين سأتجه في المقطع التالي. وعندما أعود في اليوم التالي، أجد الطريق واضحًا ويمنحني انطلاقة جيدة… نوعًا من الدفعة.
(*) كيرت فونيغت قال إن الكتابة الإبداعية يمكن تعليمها إلى حدٍّ ما، وشبّه الأمر بمدرب الغولف الذي يساعد لاعبًا على تحسين حركته. ما رأيك بقيمة تعليم الكتابة الإبداعية؟
لقد درّست لسنوات طويلة، لكن معظم الوقت كنت أشعر أنني أُدرّس القراءة لا الكتابة. لأنني أعتقد أن ما نحتاجه في النهاية هو أن نصبح أكثر وعيًا بما يحدث عندما نقرأ. ثم نعود إلى ممارسة الكتابة ونرى كيف يمكننا أن نُحدث الأثر نفسه في القارئ الذي لاحظناه في قراءتنا.
فعلى سبيل المثال، أؤمن بأنني عندما أقرأ عملًا أدبيًا، يجب أن أرى الأشياء وأسمعها. الأمر يشبه إلى حد ما تجربة الخروج من الجسد. يجب أن أعيش نوعًا من الهلوسة، بصريًا وسمعيًا معًا. لا أريد أن أُطلق أحكامًا قاطعة مثل أن الكتابة لا يمكن تعليمها، لكنني أعتقد أنه يمكننا أن نجعل الناس قرّاء أفضل، ونتيجة لذلك سيصبحون كُتّابًا أفضل.
(*) هل تقرأ ما تكتبه بصوت عالٍ أثناء العمل؟
نعم، في الواقع أفعل ذلك. وآمل ألا يكون أحد يستمع! لكنني أُجرّبه، خصوصًا في الحوارات. أحب أن أتأكد أنني أسمعها في أذني ككلام بشري حقيقي، لا كنص مكتوب.
(*) هناك بعض المواضيع المتكررة في أعمالك: التعايش مع أو حول إدمان الكحول، الحياة بعد الطلاق، معيل الأسرة الذي يكافح ليبقى كذلك.
أعتقد أن هذه الأنواع من الشخصيات والمشاهد والمواقف تجذبني، ليس من منطلق أيديولوجي أو مبدئي من جانبي، بل هي ما يجذبني ويحرك مشاعري. أنا منجذب نحو هذا الاتجاه. يمكنني التكهن بالسبب؛ ففي النهاية، أنتمي إلى عائلة اتسمت بإدمان الكحول لأجيال عديدة، والطلاق، والهجر، والخيانة، وما إلى ذلك. هذه تجارب طبعت طفولتي وشبابي إلى حد كبير. أعتقد أنني لست وحدي في هذه التجربة. إنها تجربة شائعة بما فيه الكفاية. وسيعكس العمل ذلك. شعرت في وقت مبكر جدًا من حياتي بالتهميش بسبب إدمان الكحول، والعنف المنزلي، والطلاق، والهجر، والفقر المدقع. وكان ذلك في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات عندما كانت هذه ظروفًا فاضحة لم يكن من الممكن إخفاؤها. كانت موجودة. شعرت بالتهميش بطريقة ربما لا أشعر بها اليوم.
نعم، لم تعد الأمور بتلك الفضيحة التي كانت عليها. الطلاق، أو أن تكون أبًا أو أمًا عازبًا، أو الفقر، أعتقد أننا ننظر إلى هذه الأشياء اليوم بعطف أكبر مما كنا نفعل بالتأكيد في الأربعينيات والخمسينيات. وأظن أن معايشتي لتلك الظروف في أبكر مراحل حياتي ومراهقتي جعلتني أرتبط بالأشخاص الذين يشعرون هم أيضًا بالتهميش، لأي سبب كان، قد تكون الأسباب مختلفة عن أسبابي، العِرق، النوع الاجتماعي، أو غير ذلك. لقد جعلتني تلك التجارب شديد الحساسية تجاه تلك المواقف وذلك النوع من الشخصيات.
(*) هل تفاجئك شخصياتك أحيانًا؟
بالتأكيد تفعل ذلك. لا يمكنك أن تتوقع كل شيء منها. أنت تعرف ضمن حدود معينة ما يُحتمل أن تفعله أو تقوله وما لا يُحتمل، لكنك لا تعرف التفاصيل إلا حين تصل إلى تلك اللحظة، ولا تعرف المعنى الحقيقي للأحداث إلا عندما تعيشها. الشخصيات كثيرًا ما تتصرف بطرق لم تكن لتتنبأ بها، ولكن لا بدّ أن تبدو تصرفاتها معقولة ومُقنعة.
كما تعلم، حين تعيش داخل عالم القصة، يعيش الكاتب هناك بالقدر نفسه الذي سيعيشه القارئ لاحقًا. أنت مغمور تمامًا في ذلك العالم، كأنه حلم يحيط بك، وقد سمحتَ بدخول الكثير من عناصر اللاوعي إلى داخله، ولذلك لا بدّ أن تتفاجأ.
(*) هل تعرف منذ البداية إن كنت تكتب رواية أم قصة قصيرة؟
حدث ذلك لي مرة واحدة فقط، عندما لم أكن متأكدًا. كتبت ما ظننت أنه سيكون قصة قصيرة، لكنه تبيّن في النهاية أنه الفصل الأول من رواية "شريعة بون" (Rule of the Bone). لم أكن أتوقع أن تتحول إلى رواية. جزئيًا لأنني عندما بدأت كتابتها كنت في منتصف العمل على رواية "قاطع السحاب" (Cloudsplitter) وقد علقت فيها بعض الشيء. فقلت لنفسي: سأكتب قصة عن مراهق يعيش في الضواحي، من أولئك الأولاد الذين يتسكعون في المولات التجارية- النوع الذي كنت أراه في التسعينيات حول بلدة بلاتسبرغ في نيويورك. كان أولئك الفتيان يثيرون اهتمامي. أعني، إنهم يعيشون بمفردهم دومًا، فكيف وصلوا إلى ذلك؟ بعد أن أنهيت الفصل الأول، قلت في نفسي: "ماذا حدث له بعد ذلك؟".
(*) هل تستمتع بهذه المقابلات والجولات الترويجية للكتب؟ أم تراها مرهقة؟
لا، ليست مرهقة ما لم تطُل أكثر من اللازم. في كتابي الأخير سمحت لنفسي بالانخراط في جولة طويلة استمرت ستة أسابيع في الولايات المتحدة وكندا، وقد أنهكتني تمامًا. لكن هذه المرة قلت لهم إنني سأقوم بجولة لا تتجاوز أسبوعًا واحدًا، وعلى الساحل الشرقي فقط. لن أركب رحلات جوية عابرة للبلاد بعد الآن. الحياة في الفنادق والسفر هي الجزء المرهق في الأمر. أما القراءات العامة، ولقاء القرّاء، والمقابلات، فهي في الحقيقة ممتعة، ويمكن أن تتعلم منها الكثير عن عملك الأدبي. وأنا دائمًا أفعل ذلك.
***
نُشر هذا الحوار بتاريخ 2013/12/4 على موقع Washington Independent Review of Books:
https://www.washingtonindependentreviewofbooks.com/features/interview-with-russell-banks
*مايكل كوزي (Michael Causey): كاتب أميركي، هو الرئيس السابق لجمعية الكُتّاب المستقلين في واشنطن (Washington Independent Writers).


تحميل المقال التالي...