يرتكز عمل الدكتورة جبر على معالجة الصدمات الفردية والجماعية الناتجة عن الحياة تحت الاحتلال، ويتجاوز نهجها الاستشارة التقليدية ليتبنى منظورًا تحرريًا ومناهضًا للاستعمار في الصحة النفسية، حيث تجادل بأن الظلم هو عامل مَرضي يضر بالصحة النفسية للشعب الفلسطيني، وتدعو إلى إطار للرعاية يركز على العدالة والاستدامة. وبسبب النقص في الأخصائيين، ركزت جهودها على تدريب الأطباء والممرضين والمعلمين لتقديم تدخلات منخفضة الكلفة لدعم صمود الفلسطينيين.
آخر كتبها هو "انعكاسات الألم والصمود: أصداء الصدمة التاريخية الفلسطينية" وهو مفتاح حوارنا معها هنا حول تفكيك العلاقة بين الصحة النفسية والاستعمار.
(*) لماذا تكتبين دكتورة سماح؟
أكتب لعدّة أسباب، منها أسباب شخصية، فالكتابة تساعدني على تنظيم أفكاري ومشاعري وكأنها تحد من الضوضاء في ذهني. كما أن لدي شعورًا بالمسؤولية للكتابة، ففي الكتابة مسؤولية متقاطعة مع ما أدرّسه وأكتبه حول علم النفس التحرري (Liberation Psychology). هناك مبدأ في علم النفس التحرري يُسمى "الشَهادة" (Witnessing)، ومفاده أنه عندما نعجز عن مساعدة الناس، فعلى الأقل نكون شهودًا على ما يحدث لهم، فدور المُعالج هو أن يكون شاهدًا. هذا الأمر يُذكّرني أو يتقاطع مع آية في القرآن الكريم تقول: "ولا تكتموا الشهادة". فالشَهادة هي أمر مهم، وهي من مسؤوليات البشر، ومن مسؤوليات الطبيب، ومن مسؤوليات الأخصائي النفسي. لذلك، فإنني أمارس الكتابة لأنها شَهادة مهمة نؤديها وفاءً للناس، ووفاءً للوطن، ووفاءً للمستقبل؛ فمن المعروف أن التاريخ يُروى من وجهة نظر الطرف القوي، لذا علينا أن نجتهد في جمع القصص لنُنشئ تاريخًا بديلًا.
(*) عندما تكتبين ولديكِ رسالة تريدين إيصالها، تتخيلين جمهورًا. فمن هو جمهورك المتخيّل عند الكتابة؟
أحيانًا أخاطب الزملاء من المعالجين النفسيين في العالم ممن يعملون في سياقات مختلفة، وأحيانًا كثيرة أكتب للفلسطينيين من خلال الصحافة المحلية، كما أكتب للجمهور العام غير المتخصص في مواقع إلكترونية مختلفة بالإنكليزية والعربية. وهناك أشياء أخرى أكتبها بدون أن أفكر بجمهور محدد، أكتبها لأنني بحاجة إلى أن أقولها.
(*) بالحديث عن كتابك الأخير، مَن هو جمهوره المستهدف؟
الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات باللغة الإنكليزية التي كُتبت في أماكن مختلفة وفي أوقات متباينة. في العادة، كانت الكتابة تنطلق مني بسرعة؛ بمعنى أن المقال يُكتب في ذهني وأنا في طريقي من العمل إلى المنزل، أو بينما أعمل في البستان. أكتب المقالة في رأسي ثم أدونها ليلًا قبل النوم. وكثير من المقالات موجهة لجمهور متخصص؛ فبعضها موجه للرابطة الأميركية للطب النفسي (American Psychiatric Association) ولكل المنضمين تحت لوائها. وثمة مقالات تُكتب للناس في حركة التضامن العالمية مع فلسطين لتشجيعهم على مواصلة التضامن. وهناك كتابات موجهة للقارئ الفلسطيني العام في الداخل، وأخرى للقراء الفلسطينيين المختصين، كما توجد أكثر من مقالة كُتبت للزملاء في غزة.
(*) يشغلك من فترة موضوع طرح بديل عن المدرسة الغربية في النظر إلى الصدمات التي تُصيب الشعوب في منطقتنا والفلسطينيين بشكل أساسي. هل يمكن أن نعتبر ما تُقدّمينه تنظيرًا جديدًا أو تحديًا لتنظير موجود ويتم تطبيقه عالميًا؟
سأخبرك بشيء، وهي قصة قد تكون مُقززة ولكنها مبتدأ الأمر. كنت أتعلم في كلية الطب، وربما في السنة الرابعة أو الخامسة، كان هناك فحص يجب أن نجريه يسمى فحص الشرج لفحص المريض لمعرفة إن كانت لديه بروستاتا متضخمة. كان يجب على كل واحد منا أن يفحص مريضًا لمرة واحدة على الأقل لنميز البروستاتا الكبيرة. كان أستاذنا طبيبًا بريطانيًا، وقلنا له إن الناس لا يرغبون في إجراء الفحص، فقال لنا: "ادفعوا للمرضى خمسة شواقل مقابل الفحص"، طبعًا بعض الطلبة استجابوا واقترحوا ذلك على المرضى. لكن المرضى غضبوا بالطبع، فهذا الخطاب حساس جدًا في مجتمعنا.
كانت هذه أول حادثة تلفت انتباهي إلى الاستعمار الثقافي في مجال الطب وفي مجالات أخرى. فالطبيب البريطاني من مجتمع يختلف عن مجتمعنا. ومع التعمق أكثر في الدراسة، بدأت أرى ما نسميه "الظلم المعرفي" أو "اللاعدالة المعرفية". أوروبا والولايات المتحدة تشكلان حوالي 15% من الكون فقط، ومع ذلك، فإن 98% مما يُنتَج من علم في الطب النفسي يقدّم منهما إلى بقية العالم. كل التنظير المعرفي مصدره غربي، وكل العاملين في الصحة النفسية في منطقتنا خريجو مؤسسات أجنبية بشكل أو بآخر. حتى الذين تعلموا في البلاد العربية، لم يتعلموا علمًا عربيًا أصيلًا.
ولذلك كانت لدي الكثير من الملاحظات خلال مرحلة التعلم حول عدم ملاءمة التنظير الغربي، أو الأوروبي والأميركي، لمهنتنا في سياقاتنا.
(*) هل هناك أمثلة على ذلك؟
هناك نظرية في التعلق (Attachment Theory): إذا كانت لديكِ ابنة صغيرة، وكنتِ أمًا مستجيبة (Responsive Mother) وتهتمين بها، فالمفترض أن ينشأ لديها تعلق آمن (Secure Attachment)، وتكوّن ما يسمونه "نموذج العمل الداخلي" (Internal Working Model). هذا النموذج يكون إيجابيًا، فتخرج الفتاة واثقة من نفسها، وتذهب إلى الحضانة منفتحة، تضحك وتلعب. في المقابل، يستجيب لها الآخرون بطريقة إيجابية لأنها منفتحة، يحبونها ويتقبلونها، فيكرر هذا التعلق الآمن نفسه. هذا الحكم سليم ومناسب للتنظير، لكن هذا التنظير مناسب للدول التي لا يوجد فيها تمييز عنصري. تخيلي أنكِ امرأة سوداء (Black Woman) ولديكِ طفل أسود، وأنتِ أم مستجيبة، وعلاقتكما آمنة، ولكن عندما يذهب الطفل إلى الحضانة، تكون المُعلمة عنصرية. أنتِ متوفرة ومستجيبة لطفلك، لكن العالم غير متوفر للطفل. هذا يُظهر كيف أن النظريات قاصرة عن بعض العوامل المركزية، قاصرة عن تجارب معظم الكرة الأرضية.
هذه كانت واحدة من ملاحظاتي النظرية آنذاك، ولكن بالطبع، عندما بدأت أعمل في فلسطين بدأت ألحظ المزيد من الفروقات. مثلًا، أذكر أنني بدأت بالعمل مسؤولة عن مركز رام الله للصحة النفسية وكنت قبلها قد تدربت في باريس حيث كان رئيس القسم لديه من 3 إلى 5 حالات كحد أقصى يوميًا، في أول يوم عمل لي في رام الله، استقبلت 60 مريضًا! وهذا طبعًا يجعل طريقة العمل مختلفة بين المدينتين.
ومن جهة أخرى، كلما اشتد العنف السياسي، وازداد الوضع الاقتصادي صعوبة، تكون هذه عوامل مهمة جدًا في الضيق النفسي (Psychological Distress) لدى الناس، وهو ضيق ليس بالضرورة مرضيًا. ولذلك أرى أن النموذج الغربي في الصحة النفسية (النموذج البيولوجي النفسي الاجتماعي) نموذج ناقص، ينقصه النظر في عوامل انتهاكات حقوق الإنسان والتمييز العنصري، كما ينقصه النظر في عوامل العنف السياسي. هذه عوامل فاعلة جدًا في إنشاء الضيق النفسي والمرض النفسي، وهي مُغفلة في المنظور الغربي لأن الافتراض الغربي أن الإنسان يتأثر بالبيولوجيا والنشأة عند الأهل فقط، وكأنها هي العوامل الوحيدة المؤثرة.
(*) هل يمكننا القول إن هذه الملاحظات والاستنتاجات التي توصلتِ إليها بعد كل هذه الخبرة لها علاقة بكونكِ امرأة؟ هل لديكِ منظور مختلف عن زملائك من الرجال؟
طبعًا، لأن هذا يمثل عدسة إضافية أرى الواقع من خلالها. وكذلك في الممارسة العيادية، فمثلًا، الكثير من الأشياء التي كتبتُ عنها باللغة العربية تتعلق بكيفية حاجة المرأة إلى إذن زوجها أو والدته حتى تتمكن من تلقي العلاج النفسي. ومرّت الكثير من الحالات في عيادتي لنساء أخبرنني أن أزواجهن أو حمواتهن منعوهن من تناول الدواء. نحن نعلم أن النساء يُعانين من الاكتئاب والقلق ضعفي الرجال، ولكن استفادتهن من خدمات الطب النفسي أقل؛ لأنهن لا يمتلكن الاستقلالية لاتخاذ قرار تلقي العلاج من عدمه، ولأن جزءًا كبيرًا من المراجعات في العيادات يعتمد اقتصاديًا على مال الرجل.
هذا الأمر يلفت انتباهي في الممارسة العيادية، أنا لا أدّعي أنني نسوية، ولكني أستطيع أن أرى هذه الديناميكيات، وأظن أن العلاقة بين الرجل والمرأة فيها ديناميكية قوة معينة تكون عادة غير مرئية. أستطيع أن أرى ديناميكيات القوة هذه كما أراها بين المستعمِر والمستعمَر، فالمجتمع يضم ديناميكية قوة معينة تجعل معاناة النساء أكبر. ففي الكتاب مثلًا أطرح أمثلة عدّة حول حالة "إضفاء الصفة المرضية" (Pathologization). فمثلًا إذا أتت امرأة تشكو من العنف الأسري، لا أعطيها مضاد اكتئاب؛ لأن المشكلة ليست في دماغها، بل المشكلة في علاقتها. يجب أن نكون قادرين على رؤية ديناميكية القوى في أي شيء يتعلق بالعلاقات.
(*) تُركزين في إنتاجك المعرفي على فكرة اضطراب الكرب المستمر، وكأنكِ تُفندين تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، هل ترين أن اضطراب الكرب المستمر هو التشخيص الملائم للحالة الفلسطينية؟
ما يعاني منه الفلسطينيون هو صدمة كولونيالية (Colonial Trauma)، أي صدمة استعمارية مُزمنة. من صفات هذه الصدمة أنها جماعية ومستمرة وعابرة للأجيال، والأهم من كل ذلك أنها مقصودة، ومُتعمّدة، وذات هدف؛ وهو كسر إرادة الأفراد وكسر إرادة المجتمع، وفرض حالة العجز على الناس. وطبعًا، تختلف تبعاتها عن اضطراب الكرب التالي للصدمة (PTSD)، الذي يكون سببه صدمة محددة للحظة واحدة، ولها بداية ونهاية واضحة.
في حالتنا، ليست لدينا بداية واضحة ونهاية واضحة، بل الأمر أشبه بالمرض المزمن الذي يمر بـ"نوبات تهيج" (Flare Ups)، وهو عابر للأجيال. فمثلًا، من آثار اضطراب الكرب التالي للصدمة هي الأحلام المزعجة والتوتر والتجنب. أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن التجنب لا يُعتبر مرضيًا، بل يجب أن تتجنب لأنك مُلزم بتجنب القنابل ومُلزم بتجنب الحواجز العسكرية إذا استطعت، لأن هذا التجنب له علاقة بالبقاء (Survival). فالأعراض مختلفة والتنظير مختلف والإطار المعرفي مختلف تمامًا.
وهناك شيء آخر مهم ومُغفَل في التنظير الغربي، وهو أن التنظير الغربي ينظر إلينا مثلًا ويرى أن كلتانا تعاني من صدمة، فيضعنا على كرسي العلاج، ولكن هناك شيء كثير مفقود هنا. العلاقة فيما بيننا قد تضررت بسبب الاحتلال. لماذا؟ لأن الشعب المحتل يبدأ بالتنافس على "الفتات"، فنفقد ثقتنا ببعضنا البعض، ويصبح لدينا شعور بالدونية نتيجة للمعاملة اللاإنسانية التي نتعرض لها، فيصبح لدينا مفهوم سلبي ودوني حول أنفسنا وهويتنا الجمعية وتاريخنا.
جرائم القتل في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل المحتل لها علاقة بالصدمة الجمعية، وظهور جماعات مثل "أبو شباب" في قطاع غزة هو جزء من الصدمة الاستعمارية. وعليه لا يمكن أن نضع كل فرد على كرسي العلاج بل علينا أن نُنشئ حوارًا بين المضطهَدين، ونعمل على رفع الوعي السياسي بين الناس ونزع الأدلجة لنبدأ بالحل.
(*) بما أن كتابك الأخير بالإنكليزية، هل تتوقعين أن ينجح هذا الخطاب في إقناع المُنظرين الغربيين بعدم ملاءمة التنظير النفسي الغربي لتطبيقه حرفيًا في منطقتنا؟
نعم، هو يفتح نقاشًا. ولدي حضور كبير في مؤتمرات وورش عمل غربية. فأنا أُقدّم ورش عمل حول الصحة النفسية اللااستعمارية (Decolonial Mental Health) والطب النفسي اللااستعماري (Decolonial Psychiatry) للبريطانيين والأستراليين والأميركيين، وأعرض لهم مقاطع فيديو وحالات سريرية تشكل أمرًا صادمًا بالنسبة لهم.
على سبيل المثال، لدي حالة سريرية عن شخص وُلد في فلسطين، لكنه مقتنع بأنه أميركي ويرتدي قبعة عليها شعار الولايات المتحدة وعبارة "بارك الله في أميركا". في هذه الحالة، أُوضح لهم كيف أن الذهان (Psychosis) لديه يتشابك مع عقدة الدونية (Inferiority Complex) واحتقار الذات الجماعية. أُقدم لهم الكثير من التدريبات، فيجدونها مُدهشة أولًا، ثم يبدأون بالتفكير. هؤلاء الأخصائيون يعملون مع اللاجئين ومع المجموعات التي تُعاني من التمييز العنصري والتهميش، لذلك فإن ما ينشأ هنا من تجربتي في فلسطين هو صالح جدًا للأطباء الذين يعملون مع المهمشين في كل مكان في العالم. فهذا الطرح يجعلهم يُفكرون بطريقة لااستعمارية تأخذ بعين الاعتبار ما يفعله العنف السياسي والتمييز العنصري بالناس.
(*) إذًا برأيك، هل تُدرك المؤسسات الأجنبية العاملة في فلسطين احتياجات الصحة المحلية، وهل مساعداتها فعالة؟
نحن أمام مشكلة كبيرة، وهذا الأمر أدركته منذ زمن، لكنه اتضح أكثر في فترة الحرب الحالية. أولًا، لدي موقف حاد تجاه المؤسسات التي لم تُعلن كلمة مناصرة سياسية واحدة، وتأتي لتقدم الخدمات؛ لأنني أعتقد أن الخدمة تبدأ بالتضامن والمناصرة، وبعد ذلك نتحدث عن الجوانب الفنية. هذا كان موقفي. وفي موقعي السابق بوزارة الصحة الفلسطينية، كان هذا ردي على كثير من المؤسسات التي تعرض التعاون ولا يكون لها أي موقف متعاطف أو متضامن مع الفلسطينيين إنسانيًا وسياسيًا، أو ربما تستخدم تعبيرات مثل "إرهابيين"، أي تعبيرات فيها تبني أكبر للرواية العالمية أو الإسرائيلية من الرواية الفلسطينية.
لدي مشكلة أخرى، وهي أن بعض المؤسسات الأجنبية تعتبر موظفيها وافدين أجانب وخبراء، بينما لا يُعتبر الأخصائي النفسي الفلسطيني صاحب خبرة، ويجب على الفلسطيني أن "يتعلم العمل"، على عكسهم هم، الذين يُنظر إليهم على أنهم الخبراء والفلسطيني هو المُنفّذ الفني. فهذه هرمية أخرى قمت بالاحتجاج عليها.
وفي كتابي أذكر كذلك مُسمى "حقائب الكرامة" (Dignity Kits) الذي قمت بفتح نقاش في وزارة الصحة حوله. هذه الحقائب التي تحتوي على أدوات نظافة شخصية مثل الفوط الصحية والصابون توزعها المؤسسات على الفلسطينيين كنوع من المساعدة ضمن برامج الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي. من الذي سمّاها كرامة؟ مفهوم الكرامة هذا بناءً على رؤية من؟ ولماذا هذا المفهوم تحديدًا؟ لماذا يقدمون لنا تبرعات ونأخذها ولا نناقشهم بمحتواها. كان من الممكن تسميتها حقائب النظافة (Hygiene Kits). لماذا لا يسألوننا نحن الخبراء المحليون عن التسمية؟ هذا هو الطرح الذي أحاول تقديمه في المحاضرات والكتب والمقالات.
(*) ما طبيعة الردود الأكاديمية التي تحاجج طرحك، وهل هناك من يدافع بقوة عن المنهج الغربي؟
بعض المتشددين يقولون: "أجروا أبحاثكم، وأحضروا أدلتكم (Evidence)." لكن الأخصائيين الفلسطينيين في حالة استجابة طارئة (Emergency Response)، ليس لديهم الوقت والموارد لإجراء الأبحاث. ومن جهة أخرى هناك مسألة علاقتنا بالوقت، وقتنا في فلسطين مسروق بفعل الاحتلال وهذا أيضًا يضيف المزيد إلى اللاعدالة المعرفية بيننا وبينهم.
في الحقيقة، معظم الناس الذين يسمعون طرحي، خاصة إذا كانوا مهنيين في مجالنا، يُعجبون به كثيرًا، نجد قليلًا من المتطرفين الذين لا يُعجبهم ما أقوله عن إسرائيل، فيبدأون بالمحاججة في الأمور الأخرى. ولكن محاججتهم تقتصر على القول: "قوموا بأبحاثكم الخاصة وأثبتوا أن تدخلاتكم فعالة علميًا". أما أنا فأرى أنه في غياب البحث العلمي، فإننا نستطيع الاعتماد على حكمة الممارسين للمهنة. فنحن نتحدث كثيرًا عن الصلاحية العلمية، ولكننا ننسى أن هناك أيضًا صلاحية ثقافية وصلاحية سياسية وصلاحية سياقية. هناك أنواع أخرى من المصداقية إلى جانب الإحصاءات. أنا لا أرفض الإحصائيات، فأنا شخص لدي منهج علمي. أنا درست الطب، وقرأت الكثير من الأبحاث، وأجريت الأبحاث. ولكن ما أقوله هو: ليس معنى أننا لا نملك أبحاثًا وإحصائيات تشهد بحقنا، أن علينا تجاهل كل شيء آخر.
(*) في رأيكِ، ما هي الآلية المقترحة لتنظيم منهجيتنا المعرفية وإرساء الثقة بمصادرها محليًا؟
الطرح البديل هو "الممارسة الفُضلى" (Best Practice) بدلًا من "الممارسة المَبنية على الأدلة" (Evidence Based Practice). نستطيع القيام بذلك من خلال عدم الاعتماد على الإحصائيات فقط، فهي عامل من عدة عوامل. علينا أن نتساءل هل الأمر مُناسب ثقافيًا؟ هل هو مُناسب سياقيًا؟ وهل هو مجدي ماليًا؟ هل بإمكاننا اليوم أن نضع كل فلسطيني على كرسي العلاج؟ لا يوجد عدد كافٍ من المعالجين، ولا الناس لديهم المال، ولا المؤسسات تستطيع تغطية هذه التكاليف. لذا، نحن مُجبرون على إنشاء مجموعات دعم واستماع ومجموعات تشافٍ؛ فالمجتمع تقليديًا ومنذ الأزل يُساعد نفسه بهذه الطرق العفوية العضوية عندما تنعدم الموارد.
(*) استخدمت كلمة Radiance في العنوان، فلماذا اخترتها؟ وماذا أردت أن تعنيه بالعربية في عنوان الكتاب؟
لدي كتاب سابق بعنوان Derrière les Frondes (خلف خطوط الجبهة). كلمة "Front" في الفرنسية تعني أمرين: "جبهة الحرب" و"الفص الأمامي للدماغ". أنا أحب فكرة اللعب على الكلمات، الكلمة التي تحمل أكثر من معنى.
بالنسبة لكلمة "Radiance" في كتابي الجديد Radiance in Pain and Resilience، فإنها ترتبط بمصطلح "radiating pain" أي الألم المنتشر أو الذي يتردد في أجزاء مختلفة من جسم الإنسان، كأن يشعر الشخص بألم الجلطة في يده، ولكن يشعر بالوجع في عضو آخر من جسمه. لماذا اخترت هذه الكلمة؟ لفت انتباهي أن ما يحدث في غزة له ارتدادات عالمية عديدة، لا يقتصر على غزة فقط. هناك ارتدادات مختلفة في الضفة الغربية والقدس وفي الداخل المحتل، وفي الشتات الفلسطيني، وفي اليمن والعراق وسورية، ولدى الكثيرين ممن يشتركون معنا في تواريخ صادمة، كجنوب أفريقيا مثلًا. إنه هذا الألم الذي يُحس في أماكن أخرى.
وفي الوقت ذاته، نحن نتحدث عن "radiance of the sun" (إشراق الشمس)، و"radiance of the smile" (إشراق الابتسامة)، أي "Radiance" بمعنى إيجابي، لشيء متوهج ومُشِع. أنا ألعب بكلمة "Radiance" لتنطبق على الألم (بمعنى سلبي) وعلى الصمود (بمعنى إيجابي).
(*) هل يمكن تحقيق الشفاء/ التعافي الجماعي عبر التركيز على الصحة النفسية الجمعية بدلًا من الخطاب الفردي الغربي؟
أؤمن أن التجربة الجمعية هي الأفضل لهضمها ضمن الأطر الجمعية. الجماعة تجلب حكمة غير موجودة عند الفرد. أنا أعتبر نفسي إنسانًا ذكيًا وحكيمًا، ولكن عندما أتحدث مع الناس، يتوسع إدراكي، ودائمًا ما يجعلني الآخرون أكتشف نقاط الإغفال لدي.
مثلًا، كنت مؤخرًا في فرانكفورت، وفي فعاليات تضامن مع فلسطين، أتت مجموعة من الفنانين من "نادي الشيخ إمام". وزعوا كلمات الأغاني على الناس وأدوا موسيقى تدفع الجمهور للغناء معهم، فيندمج الصوت وتتبدد القدرة على تمييز صوت الفنانين عن صوت الجمهور. ثم بدأ الناس بطلب غناء "لبيروت" أو غيرها. برأيي هذا نموذج لتمازج مشاعر الأسى والألم والبهجة والأمل كلها معًا في عملية تشافٍ جمعي لها تأثير وقيمة مضافة لا تتحقق في العلاج الفردي.
كما أن الناس في المجموعات العلاجية يشعرون أنهم يقدمون شيئًا، وأنهم ليسوا فقط في موقع متلقي المساعدة. فعندما تعمل مع مجموعة من أمهات الشهداء، فإنهن يصبرن بعضهن ويساعدن ويسألن عن بعضهن. هنا يصبح دور المعالج مُيسِّرًا لعملية عضوية عفوية موجودة، يتدخل فقط عند الحاجة. المجتمع قادر على مساعدة نفسه، إنها عملية تشافٍ، كما عملية تشافي الجروح، يشفى الجرح وحده، والتدخل الطبي يكون للحالات الصعبة جدًا.
(*) كيف يمكننا تذكير الناس بقيمة هذه الأشياء؟
بالحديث عنها. لقد كتبتُ مقالًا في مجلة "لانست" الطبية بعد أسابيع قليلة من الحرب عن فشل الأدوات الطبية وفشل استراتيجيات الصحة النفسية في تقديم استجابة مناسبة لحجم الدمار في غزة، ودمار المنظومة الصحية في الطب النفسي. وقتها، قلتُ يجب أن نتوقف بتواضع ونرى كيف يساعد الناس أنفسهم بطرقهم الذاتية، كالفنانين الذين يغنون ويعزفون مثلًا.
اليوم في فلسطين، لدينا إصابة نفسية واسعة لدرجة أن أي بالغ مسؤول يمتلك حسًا عامًا يستطيع تقديم المساعدة مع القليل من الإشراف المهني. أؤمن بتسطيح هرمية الطب النفسي، بحيث ندرب المعلمين والأطباء والقابلات والممرضين وعمال الإغاثة على تقديم دعم أقل تخصصًا، بحيث تصل للأطباء الإصابات الكبرى فقط. لكن هذا يحتاج مجتمعًا مُدركًا للصدمة ليتمكن من تقديم تدخلات حساسة. كل معلم في المدرسة يجب أن يعرف كيف يقدم الدعم لطفل من طولكرم أو من جنين هُدم بيته في المخيم. على كل بالغ فلسطيني أن يتعلم ذلك وخاصة من هم في المهن المساندة.
(*) ما هي مشاريعك القادمة كتابيًا وبحثيًا؟ وإلى أي مدى تشعرين أن هذا الجزء من عملك مهم للتاريخ وللأرشفة؟
حاليًا أكتب كتابًا صعبًا جدًا اسمه Fratricide (قتل الأخ)، وهو ليس بالضرورة القتل الحقيقي، بل المزاوَدات بيننا والتخوين والاتهام، التي أراها جزءًا من الضرر النفسي على النسيج الاجتماعي الفلسطيني. أكتبه باللغة الإنكليزية.
كما أكتب كتابًا آخر لناشر برازيلي، عنوانه Revolutionary Love (الحب الثوري). لقد كتبتُ مقالًا بهذا العنوان وقد طلبوا مني تقديم الفكرة في كتاب، حيث يناقش حركة التضامن مع فلسطين. فأنا أؤمن أن المقاومة أو التضامن، أو أي شيء ينطوي على مخاطرة، لا يقدم عليه الناس لولا وجود المحبة. ومن جهة أخرى أعمل مع الكاتبة الإيطالية ماريا نادوتي على مشروع مع دار النشر الإيطالية الشهيرة (Feltrinelli)، وهو عبارة عن كتاب حوار، نتحدث فيه عن النسوية والإسلاموفوبيا وقضايا أخرى.
أما عن الأرشفة والتوثيق، فأعتقد أنها عملية مهمة للغاية. فالإنسان الذي يعاني من صدمة فردية (مثل الاغتصاب) تكون الذاكرة لديه مشتتة وتضيع. وكذلك الإنسان الذي يعاني من صدمة تاريخية استعمارية، فإن التاريخ يضيع، خاصة خلال العامين المنصرمين ومع تتالي الأحداث وكثرتها وتدفق المعلومات الهائل، الكثير من الحقائق تضيع. الكتابة والتدوين ومساعدة الناس على رواية قصصهم أو كتابة قصصهم،
هو حفظ للذاكرة. كل عمل مع الصدمات هو مساعدة للناس على لملمة الذاكرة المبعثرة.الإسرائيليون يقولون مقولتهم المشهورة: "الكبير سيموت والصغير سينسى". لو لم نعمل بجهد على جمع وتوثيق قصصنا، فإن التاريخ سيضيع، وهذا جزء من عملية "المحو" الذي يسعى إليه الاحتلال. الكتابة بنظري هي عمل ضد المحو.


تحميل المقال التالي...