الدكتور أحمد كريم من النقاد القلائل الذين اتجهوا نحو تبسيط النقد للقراء العاديين وقد ظهر على شاشات عدد من القنوات التلفزيونية متحدثا عن بعض الأعمال الأدبية، وفاز بعدد من الجوائز أشهرها "جائزة الطيب صالح" عام 2011 عن كتابه "جدلية الرمز والواقع: دراسة نقدية تطبيقية في رواية موسم الهجرة إلى الشمال"، وفاز في عام 2019 بـ"جائزة كتارا للنقد" عن دراسته "سقوط أوراق التوت: المحظورات في الكتابة الروائية"، ولديه عدد من المؤلفات في الرواية والشعر، ومن أشهرها: "الرؤى الثورية في القصة والرواية" (2015)، "العنوان وبنية القصيدة في الشعر العربي المعاصر" (2018)، "كتابية الشعر وتحولات البناء" (2021)، وغيرها.
هنا الحوار:
(*) بدايةً، نود أن تخبرنا متى بدأت تدرك أنك تمتلك نزعة نقدية تجاه الأعمال الأدبية؟
الحقيقة ميولي الأولى كانت أدبيةً تمامًا؛ كنت في مرحلة الطفولة مولعًا بالشعر، وكان والدي رحمه الله أزهريًّا تخرج في كلية اللغة العربية، وكان محبًّا للشعر الجاهلي، ولشوقي وحافظ وأضرابهما من الشعراء الكلاسيكيين، ووجدت نفسي وارثًا لتلك المحبة تلقائيًا؛ إذ طالما سمعته يستشهد بأشعارهم في كل المواقف، أو ينشد أبياتًا من الشعر في مجالسه، وعندما التحقت بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة تأججت تلك المحبة بزيادة، ولعل تلك المحبة هي التي دفعتني إلى الدراسة في دار العلوم أصلًا؛ على كل حال تبين لي بعد حين أنني أكثر ميلًا لدراسة الأدب، وأن الموهبة الفعلية عندي هي قراءة الأدب وفهمه والتنظير له، واكتشاف قواعده، ومن ثم غلب الحس النقدي على حس الإبداع الأدبي.
(*) عندما يأتي الحديث عن الأدب، تنشأ أسئلة عن الموهبة والاكتساب، هل تعتقد بأن هنالك أشخاصًا يولدون ولديهم موهبة نقد الأعمال الفنية والأدبية أم أننا نتعلم النقد من خلال الدراسة والتدرب على التذوق الواعي؟
الحقيقة أن النقد الأدبي يبدأ من محبة الأدب والولع بقراءة الأعمال الأدبية، وفيه - دونما شك - جانب كبير من الموهبة الأدبية التي تولد من رحم القراءة الأدبية الخالصة، والاستمتاع بالأدب في المقام الأول، لأن القراءة الموسعة في الأدب تكسب القارئ شيئًا من المعرفة بالجيد والرديء، وقواعد الفن وأصوله بشكل فطري قائم على الذوق؛ لكن هذه الموهبة (على أهميتها) لا تكفي أبدًا لصناعة ناقد كبير، أو دارس متمكن، لا بد طبعًا من قراءة النظرية الأدبية، والإحاطة بالأعمال النقدية، والمناهج والمدارس والرؤى المتنوعة، وذلك كله – بطبيعة الحال – مما يعظّم الموهبة ويجعل الدارس أكثر وعيًا، وأعمق فكرًا، وأشمل رؤيةً، والخلاصة في ذلك كله أن الناقد لا ينبغي عليه أن يقبض يده بإحكام المنهجية الصارمة الشديدة على العمل الأدبي؛ فتختنق جمالياته وتجف ينابيع البهجة الأدبية فيه، وكذلك لا ينبغي أن يبسطها كل البسط معولا على الذوق المحض، والموهبة الفردية، فتغيب عنه كثير من الخبايا والكنوز المطمورة.
(*) ما هي برأيك الأدوات التي يحتاجها الإنسان لكي يصير ناقدًا محترفًا للأعمال الأدبية والشعرية؟
ربما تضمنت إجابتي عن السؤال السابق إجابة هذا السؤال، فالناقد يحتاج إلى معرفة النظرية الأدبية والنقدية في جانبها التراثي والمعاصر، كما يحتاج إلى أن تكون لديه موهبة قراءة الأدب وفهمه وتذوقه، ولكنه محتاج بعد ذلك كله إلى أن يكون ذاتَه، وألا يكون نسخة مكررة، وهنا أود الإشارة إلى أن التعويل على المناهج النقدية الغربية ربما صيّرَ النقاد المعاصرين أشبه بآلة تنتج سلعةً واحدةً لا تكاد تختلف إلا في أشكالها وألوانها الخارجية فقط، لكنها ذات جوهر واحد، ورؤية واحدة في الغالب.
ومن هنا أقول: إن على الناقد أن يكون صاحب رؤية تخصه لوحده، ولا بأس عليه من دراسة الاتجاهات النقدية المتعددة، والاستفادة منها؛ لكن عليه أن يعيد صوغها وإنتاجها لتعبر عن موقفه الفكري الخاص، ورؤيته الفنية المتفرّدة.
(*) كيف أثرت البيئة الثقافية والاجتماعية المصرية على رؤيتك النقدية للأدب العربي الحديث؟
أعترف أن للوراثة دورًا كبيرًا، وأن والدي رحمه الله كان السبب الأول والأخير في هذا التوجه بدايةً، ولعلني لو لم يكن والدي ذلك الأزهري المثقف صاحب المكتبة الثريّة والبيت المزدحم بالكتب ودواوين الشعر، أقول لعلني لو لم أولد في هذه البيئة لكان توجّهي مختلفًا، وعندما التحقت بدار العلوم في جامعة القاهرة وجدت أساتذة الأدب والنقد على أضراب شتى، فمنهم من لا يرى الأدب إلا في القديم دون سواه، وما خلاه إنما هو ضرب من ضروب العبث، ومنهم من لا يراه إلا كلاسيكيًّا وحسب، وبعضهم يتقلب بين الحديث والقديم، وأقلهم من يؤمن بالحداثة الأدبية ويتبناها، وكانت مدرسة دار العلوم تمثل التيار القديم في مواجهة كلية الآداب في جامعة القاهرة التي تتبنى الحداثة، وقد كان كل أستاذ يحاول تشكيل عقول طلابه وفقًا لما يؤمن به ويتبناه، والحقيقة أنني كنت مغرمًا بأساتذتي منقادًا إلى التيار القديم الذي تمثله دار العلوم، ولكنني مع دراستي للماجستير والدكتوراه، وتخصصي في الأدب الحديث عرفت كيف يمكن للطالب ألا يلتحف بعباءة أستاذه طوال حياته، وأن يكون له رأي خاص ومختلف، بدون أن يجحد – بطبيعة الحال – فضلهم ورؤيتهم.
(*) ما هي القراءات التي أثرت في بدايات مسيرتك النقدية؟
من أهم الكتب التي أثّرت في فهمي للشعر على نحو خاص كتاب "بناء لغة الشعر" للناقد الفرنسي جون كوين الذي ترجمه أستاذنا الدكتور أحمد درويش، ومن قبله: عن بناء القصيدة العربية لأستاذنا الدكتور علي عشري زايد رحمه الله، وأذكر هذين الكتابين على وجه الخصوص لأنهما كانا من أول الكتب التي قرأتها بعمق، ومن ثم غيرت من طبيعة فهمي للشعر، وأثّرت في جوهر إدراكي له وحكمي على فنيته، وطبعا هناك كتب متعددة لكتاب كثر، منها كتابات الدكتور عز الدين إسماعيل، والدكتور سعد مصلوح، والدكتور صلاح فضل، وكذا إحسان عباس، وغيرهم، ومن كتب التراث ثمة كتب باذخة منها: أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز للجرجاني، ومنهاج البلغاء للقرطاجني، والصناعتين للعسكري، والموشح للمرزباني.
(*) في السابق، كان الناس يهتمون باللغة العربية، حيث كانوا يدرسونها في المساجد وبيوت العلماء، وكانت هنالك جزالة في اللغة وصلة متينة بالأدب العربي القديم، ويتحدث معظم الأدباء الكبار عن امتنانهم لهذا التعليم الديني والتقليدي، فهل أنت أيضا مدين لذاك التعليم، وهل تعتقد أن القطيعة التي حدثت بين الأجيال الحديثة والتراث قد أدت إلى تدهور اللغة والذائقة الأدبية؟
الحقيقة أنني التحقت بالكتاب بالفعل سنةً واحدةً في طفولتي، ولم تكن مثمرة تمامًا، بسبب كثرة الانقطاع وعدم الجدية، وعندما كنت في صباي فكّر والدي رحمه الله بأن يلحقني بالأزهر الشريف؛ لكنه ترك الخيار لي، وكنت محبًّا للأزهر، لكني كنت أعتقد – في بداية المراهقة – أن الانتساب للأزهر، وارتداء زيه المميز (وكان القانون الأزهري يلزم الطلاب في ذلك الزمان بارتداء الملابس الأزهرية حتى في مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي)، يطوّق الإنسان بقيود لا يمكنه احتمالها، فعزفت عن التعليم الأزهري، لكنني تداركت ذلك فيما بعد بالتحاقي بدار العلوم.
وعودًا إلى سؤالك: أرى أن غياب هذا التعليم بالفعل هدَّام للغاية، فالثقافة العربية الإسلامية كانت من قبل متغلغلة في الأمة العربية على اختلاف توجهاتها، فكان الطبيب والمهندس والمحاسب والاقتصادي لا ينقصهم المعرفة بالعربية، ولا فهم النصوص الأدبية الباذخة، كانت الصحف الكبرى قديمًا كالأهرام وغيرها تُفتتح بقصائد لكبار الشعراء، وكانت المناسبات الاجتماعية المتنوعة (كافتتاح مستشفى أو مصنع) مستهلةً بكلمات بليغة، وقصائد من الشعراء الكبار، ونجد أثر هذه الثقافة حتى عند الكتاب غير المسلمين، كشعراء المهجر مثلا، وفي مصر قرأت مثلا مذكرات نجيب محفوظ (الطبيب المسيحي المشهور لا الأديب المعروف)، وكذا مذكرات الممثل المشهور نجيب الريحاني، وأنت لا تكاد تخطئ فيهما الثقافة العربية الإسلامية التي تأثر بها غير المسلمين، فهي ذات عطاء إنساني ثقافي واسع (وإن اختلفت العقيدة على مستوى الإيمان والعبادة). والآن لا يكاد بعض المتخصصين في العربية يقيمون جملةً سليمةً، فضلًا عن قراءة نصوص شعرية مستقيمةً!! نحن في حاجة قوية إلى العودة لذلك التعليم، على الأخص في غمرة هذه الهجمة الشرسة من الثقافة الغربية والتعليم الأجنبي.
(*) هل ترى أن الكتابة النقدية ما زالت محصورة في النخب الأكاديمية، أم أنها تتوسع لتصل إلى القراء العاديين؟ أحيانًا أشعر بأننا في حاجة إلى ما يمكن أن نسميه بـ"النقد الشعبي"، أي ذلك النقد المبسط والخالي من الصياغة الأكاديمية، خاصة حين تكون الصحافة الأدبية هي المنصة التي تنشر هذا النوع من النقد، في رأيك كيف يمكن أن نجعل النقد الأدبي لطيفًا بحيث يستمتع به القارئ العادي ويستعين به في تطوير ذائقته الفنية وقدرته على مناقشة النصوص؟
للأسف الشديد لم يعد النقد مقروءًا اليوم، مضى زمان العقاد وطه حسين والرافعي والمازني وغيرهم من الكتاب الذين كانوا يخاطبون الجمهور العادي، نحن الآن نكتب لأنفسنا، والنقد الأكاديمي – على أهميته – لا يسهم أبدًا في تطوير الأدب، لأن جمهوره محدود، وتأثيره لا يصل إلى الجماهير العريضة بحيث يغير نظرتهم إلى الأدب، ويغير ذائقتهم وتوجهاتهم، ولعل آخر النقاد الجماهيريين هو رجاء النقاش، وهو لم يكن أبدًا ناقدًا أكاديميًّا؛ وإنما هو ناقد صحافي (وأرجو ألا نفهم من هذه الكلمة ما يرتبط بها من الهشاشة والضعف، وإنما أقصد أنه يكتب لجمهور عريض لا لنخبة محدودة).
ويكفي أن أقول: إن رجاء النقاش هو صاحب الفضل في تعريف الجماهير بمحمود درويش، والطيب صالح، وهما أديبان كبيران من أدباء العربية، وما كان النقد الأكاديمي حبيس الجدران الجامعية ليعرّف الجمهور بهذين الأديبين أبدًا.
(*) لديك حضور تلفزيوني بصفتك ناقدًا، كيف تنظر إلى أهمية مثل هذه اللقاءات في الترويج لدور النقد في الساحة الثقافية؟
بالفعل هذه اللقاءات التلفزيونية مهمة جدًا، على الأخص عندما تتم عبر القنوات ذات الانتشار الذائع، وهي حلقة اتصال مهمة تربط الجمهور بالأدب؛ لأسباب متعددة أهمها تراجع نسبة القراءة، وقلة الحفاوة بالكتاب، فضلًا عما ذكرناه من ضآلة النقد الشعبي، نضيف إلى الأسباب التي تزيد من أهميتها: سطوة الصورة المتحركة (الميديا)، وقوة تأثيرها.
(*) على ذكر سطوة الميديا والعزوف النسبي عن القراءة، كيف يسهم النقد في تسويق الكتاب الجيد؟
طبعًا بتسليط الضوء عليه، وتنبيه القارئ إلى منابع الفن والجمال عنده، ومن ثم الترويج له، لكن اسمح لي بأن أقول: إنني إنما ذكرت لك ما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن بالفعل، فالملاحظ الآن أن النقد (لأسباب متعددة، بعضها نفعي، وبعضها من باب الانقياد والتبعية للغرب) غالبًا ما يروج للأعمال الرديئة، ويحاول فرض ذائقة بعيدة تمامًا عن ثقافتنا الموروثة، ومجافية كل الجفاء لطبيعة الأدب العربي اللغوية والفكرية. وللأسف يغّرر هذا النقد بذائقة الشباب الذين يتلمسون طريقهم في عالم الأدب، ويبني حاجزًا أراه يعلو يومًا بعد يوم بين ماضي هذه الأمة وحاضرها!
(*) هل ساهمت سهولة النشر وتعدد الوسائط في استسهال النشر، هل تعتقد بأن غزارة الإنتاج هذه قد أبطأت من خطوات النقد، بحيث صرنا نظن أن النقد قد يئس من ملاحقة الإصدارات الجديدة؟ وعلى جانب آخر: في رأيك، هل تعتقد أن ظاهرة الإنتاج الغزير وكثرة الأقلام الكاتبة في صالح الأدب أم ضده، وإذا كانت ضده هل تعتقد بأن دور النشر تحتاج إلى معايير صارمة لنشر الأعمال الجديدة؟
الحقيقة ليس الأمر على هذا النحو تمامًا، فمن البدهيّ أن تكون الأعمال الأدبية أغزر من النتاج النقدي القائم عليها، ولا يمكن بأي حال من الأحول في أي عصر من العصور أن تغطي المتابعة النقدية كل النتاج الأدبي جملةً وتفصيلا، وغاية الأمر أن النقد معني بانتقاء النموذج الجيد لإبراز جماليته الفذّة، أو النموذج الرديء لإيضاح أوجه رداءته، حتى في العلوم التجريبية يكتفى بعدة نماذج يختبر العالم من خلالها صحة نظريته، ولا يمكن مثلًا أن يفحص كل خلية من خلايا الكائن الحي لكي يقيم تصوّرًا عن تطوره أو طبيعة جسده.
على أن الأخطر والأسوأ في الموضوع أن سهولة النشر وتعدد الوسائط ساعدا في الترويج للأدعياء، وأنصاف الموهوبين، وروّجا الأدب الركيك، وحفزا على الاستعجال للشهرة، وكل ذلك أسهم في انحطاط الذوق العام، وتزييف معايير الإجادة، وعدم استقصاء الشروط الجمالية.
(*) من خلال قراءتي للأعمال الأدبية والشعرية العربية صرت أشعر بما يمكن أن نسميه "موت القاموس العربي"، أي إنني حين أقرأ لا تمر عليّ كلمات جديدة بحيث أحتاج إلى النظر إلى القاموس، وهذا لا يعني أنني بارع في اللغة بقدر ما يعني أننا ككتاب اكتفينا باللغة الشائعة وتطويعها للتعبير عن أفكارنا ولمناسبة القوالب الأدبية، هل أحسست بهذه الظاهرة إن صح التعبير؟ وهل تعتقد أن هذا ليس في صالح اللغة؛ إذ الآداب هي حافظة اللغات، أم أن الأديب إذا نجح في إيصال رسالته ليس مطلوبا منه أن يحفظ لغته من التآكل؟
هذه ظاهرة طبيعية، فلغة الأدب تمثل العصر إلى حد كبير، ولغة الشعر الجاهلي التي نراها – على سبيل المثال – نموذجًا للغة الصعبة التي يتعذر فهمها بدون استشارة القواميس إنما هي لغة بسيطة ومفهومة تمامًا بالنسبة لمعاصريها؛ ولو بُعث امرؤ القيس اليوم حيًّا وقرئت عليه آدابنا العصريّة لأنكر كثيرًا من عربيتنا ولجهلها تمامًا، والحق أن التمسك باللغة التراثية ليس مستحسنًا في كل الأحوال، وبعض الأدباء الكبار (مثل نجيب محفوظ مثلًا) قد تطورت لغتهم بشكل كبير عبر مراحل حيتهم الأدبية، كنت تقرأ في روايته الأولى ألفاظًا من قبيل (ارعوى، وما عتَّم) وما هو على شاكلته، ثم أعرض عن هذا كله، وغدا في رواياته الأخيرة يستخدم لغة وصفها في إحدى حواراته بأنها (فصحى تلبس ملاية لف) أي فصحى شعبيّة مفهومة. الخطورة الوحيدة في هذا المجال التساهل، والتساهل وصولا إلى الإسفاف والعامية، وهذا ما نراه في بعض الروايات الحديثة للأسف، وأحيانا كثيرة في بعض القصائد.
(*) النقد العربي الحديث في غالبه، ليس سوى أصداء للنقد الغربي، أحيانًا نرى محاولة استعارة المشهد الثقافي الغربي بدون الدراسة التحليلية للنماذج المعرفية التي أدت إلى تشكيله، قد جعلتنا كمن يريد أن يقف في الهواء بأقدام اصطناعية، هل تعتقد أننا بحاجة إلى مدارس أدبية ونقدية نابعة من الواقع العربي وامتداداته التاريخية؟
نحن نعاني مشكلة كبيرة جدًا هي مشكلة الانبهار بالغرب، لدرجة أننا نقيس نجاحنا بنجاحه، حتى وإن كنا الأسبق، فتجد مثلا بعض النقاد منبهرين لأن نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني تلتقي في بعض جوانبها مع مقولات النقد الغربي الحديث، والمفارقة أن موضع الانبهار – هنا – هو إثبات صحة ما جاء به النقد العربي القديم لأن الغربيين لديهم نفس الأفكار، وكأن معايير الكفاءة هي المعايير الغربية!! وقد قرأت مقالًا لأحد الأساتذة الأكاديميين يقول فيه إن باحثًا كتب رسالةً عن تطبيقات النقد الثقافي عند العرب، وانتهى به الأمر لنقد كل الممارسات العربية؛ لأنها حادت عن الأصول الغربية للنظرية!! وكأننا يجب أن نفكر بأدمغتهم، ونسير على خطوهم بحيث لا نحيد عنها قيد أنملة!! ومن وجهة نظري: ليست المشكلة أبدًا في التأثر بالغرب، بالعكس هذه ظاهرة صحية ومفيدة، لكن المأساة تكمن في أن تكون مسيرتنا خلفهم "حذوَ القُذَّةِ بالقُذَّة"، ومن وجهة نظري الشخصية لو أن باحثًا استعار منهجًا غربيًّا وأجرى عليه تعديلًا جوهريًّا بحيث يناسب البيئة العربية المنقول إليها؛ فلا بأس ولا ضير، ما دامت النتائج التي توصل إليها – بعد هذا التعديل – مرضيةً ومقبولةً ومقنعةً، وبالفعل نحن نحتاج إلى استحداث مناهج نقد عربية، ولا مانع أبدًا من تطعيمها بالمقولات والنظريات الغربية، فلا شيء ينبت من العدم، ولا فكر ينشأ من فراغ، وهذا ما صنعه آباؤنا القدماء حين قرأوا البلاغة اليونانية والنقد الإغريقي، وأعادوا صوغه عربيًّا تمامًا، المطلوب هو القراءة والتشبّع، ثم التطوير والتعديل، وإعادة الإنتاج.
* کاتب وروائي سوداني.