}

عبد اللطيف الحماموشي: قرار المنفى فُرض عليّ فرضًا



منذ أن بدأ اشتغاله في الصحافة الاستقصائية، أظهر الباحث والصحافي المغربي عبد اللطيف الحماموشي، الذي درس القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، جرأة نادرة في البحث والكشف عن ما يتم إخفاؤه أو ما يُراد العمل على إخفائه، فكانت له تحقيقات صحافية واستقصائية أبرزته كفاعل في النقد المجتمعي وفي مجال حقوق الإنسان والحريات المدنية، فكتب في العديد من الصحف منها New Arab- The Intercept- Open Democracy- Carnegie Endowment for International Peace- SMEX- Lakome2- International Centre for Dialogue Initiatives- الجزيرة، وغيرها من المواقع  العالمية.

واقتفى الحماموشي آثار ثوار الفكر وأصحاب الرؤية التنويرية والتغيير ليعمل رفقة زميله المؤرخ المغربي المعطي منجب على "سلسلة الربيع العربي" التي تُعنى بتسليط الضوء على سير شخصيات فكرية وسياسية ناهضوا أنظمة الحكم في بلادهم لسنوات طويلة، فصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة الدراسات كتاب "منصف المرزوقي حياته وفكره" (2021)، و"حضور في المكان- عبدالله حمودي" (دار توبقال للنشر، 2023). كما صدر مؤخرًا للحماموشي كتاب "مصر: الديمقراطية المفقودة 2011-2023" (دار توبقال للنشر، 2025).

وللحماموشي العديد من البحوث والدراسات، منها: "إعلام التشهير: تحدي القانون والأخلاق - حالة المغرب" (2019)، و"التقارب الإسرائيلي- الإماراتي: نحو دبلوماسية الثورة المضادة" (2020).

وقد حاز الحماموشي في مونتريال (كندا) على جائزة Benenson-Humphrey للحرية لعام 2024، وهي جائزة باسم القانوني الكندي  John Peters Humphrey، الذي صاغ مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 والمحامي البريطاني Peter Benenson الذي أسّس منظمة العفو الدولية عام 1967. كما حاز عام 2023 الجائزة الأولى لبرنامج حرية التعبير والإعلام في شمال أفريقيا المقدمة من منظمة المادة 19 (ARTICLE 19) وبدعم من صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية.

انتقل عبد اللطيف الحماموشي مؤخرًا إلى كندا بعد تعرّضه للتهديد في المغرب، يقول عن ذلك في حوارنا معه "لم أندم على أيّ كلمة كتبتها أو عبّرتُ عنها ضدّ الفساد والسلطويّة. لو عاد بي الزمن من جديد لقمتُ بتكرار نفس الأفعال". هنا حوار معه:

(*) كيف بدأ اشتغالك على "الصحافة المتمردة" إذا جاز القول، وأولى مقالاتك في النقد السياسي، في الوقت الذي تتفادى فيه أغلب المكوّنات الإعلامية والصحافية في المغرب انتقاد السلطة؟

شغفي بالكتابة بشكل عام انطلق في وقت مبكّر، وبالضبط في المرحلة الثانوية حيثُ تشبَّعتُ بالأفكار اليسارية وكنتُ متأثّرًا بسياق بروز حركة 20 فبراير (النسخة المغربية من الربيع العربي). شاركتُ في بعض الاحتجاجات التي كانت تخرج في إطار تلك الحركة، لكنّي لم أكن فعّالًا ولا عضوًا نشيطًا في صفوفها بفعل صغر سني. كُنت كثيرًا ما أذهبُ خلسة إلى المسيرات والوقفات المُنظمة من لدن الحركة، وبعد العودة إلى المنزل أنهمك في تدوين يومياتي وملاحظاتي. هكذا أصبحت الكتابة ممارسة يومية ممتعة بالنسبة لي.

أصبحتُ صحافيًا مهنيًا منذ عام 2018، حيث تخصصت في صحافة التحقيق. وقد استفدتُ قبل هذا التاريخ من دورات تدريبية ومساقات مُعمّقة حول أدوات وأساليب البحث الاستقصائي. تزامن ذلك مع دراستي القانون الدستوري والعلوم السياسية في جامعة محمّد الخامس بالرباط.

كَشَفَ أوّل تحقيق صحافي نُشر لي في بداية 2018 (اشتغلتُ عليه أكثر من ستة أشهر) عن مصدر غُبار أسود ملوّث بمواد سامة كان يتطايرُ في سماء مدينة القنيطرة (غرب المغرب) منذ عام 2011، ممّا أدّى إلى تفشّي بعض الأمراض التنفسية الخطيرة في صفوف الساكنة. ربما اكتسب هذا العمل شهرة لا بأس بها في الوسط الصحافي، وبفضله دخلتُ غمارَ الصحافة الاستقصائية التي حفّزتني على البحث الدائم عن الحقيقة والتعلّم المستمر. نشرتُ منذ تلك الفترة حوالي 15 بحثًا استقصائيًا حول الفساد السياسي والاقتصادي والإداري في المغرب في صحف كـ العربي الجديد وموقع لكم وThe Intercept وOpen Democracy، وغيرهم. على سبيل المثال، كُنت قد أنجزتُ تحقيقًا كشف عن شبكات الفساد السياسي التي استفادت بشكل غير قانوني من برامج خصخصة المنشئات العمومية للدولة؛ كما كشف تحقيق آخر عن أدوات المراقبة السيبرانية المُستخدمة من لدن السلطات المغربية ضدّ الصحافيين والسياسيين المستقلين عن نظام الحكم.

بالإضافة إلى التحقيقات التي تستنزف الوقت والجهد والتفكير، لكنها تمنحُ متعة ذهنية لا نظير لها، اشتغلتُ بشكل دوري على الحوارات والمقالات التحليلية والنقدية للواقع السياسي المغربي وأحيانًا العربي. كُنت أركّز دائمًا على حالة حقوق الإنسان بشكل عام، والحريات المدنية بشكل خاص. وطبعًا السلطات المغربية لم يرق لها ذلك.


(*) تعرّضت لمضايقات وملاحقات أثناء وجودك في المغرب بسبب مقالاتك، وعيش تحت المراقبة، حتى أنك كتبت "
هل يجب أن أبقى في بلدي أم أتركه؟ خاصة وأن الوضع صعب من الناحية النفسية، حيث أعيش ضائعًاما الذي دفعك للعيش في المنفى الكندي، ما الذي حصل معك تحديدًا لاتخاذ هذه الخطوة؟

في الحقيقة تردّدتُ كثيرًا قبل الخروج إلى المنفى. أنا أحبّ المغرب كثيرًا، ولم أكن أتصور أن أغيب عنه لمدّة طويلة. كنت لمّا أسافر خارج البلاد، أتشوّق إلى العودة إليها سريعًا. أنا أعيش الآن "خارج المكان" (على حد تعبير إدوارد سعيد)، بعيدًا عن عائلتي وأصدقائي المقربين.

لم أتخذ قرار المنفى، بل فُرض عليّ فرضًا. كُنت أتعرّض للتهديد بالاعتقال والتعذيب بشكل دوري على الصحف والمواقع الإلكترونية الموالية للسلطة. يكفي وضع اسمي على محرّك البحث لاكتشاف حملات التشهير التي كنت ضحيتها. كانت حرب نفسية مُركّبة وغير سهلة، لكنّي واجهتها بهدوء ولا مبالاة، لأنّي لم أقم بأفعال يجرّمها القانون والدستور. ومع الأسف لا زال الكثير من زملائي وأصدقائي الذين يعيشون في المغرب يتعرضون لأمور تتعدّى بعشرات المرات ما تعرّضتُ له. إنّي أفكّر دائمًا فيهم... هؤلاء أبطال.

على سبيل المثال، كانت هناك سيارة تُرابط أمام منزلي وتلحق بي أينما حللت. تمّ منعي من استكمال دراسة الدكتوراه رغم نجاحي وبتفوّق في كل المراحل، إلى جانب منعي من السفر. وثّقت لجنة حماية الصحافيين في نيويورك (CPJ) وهيومن رايتس ووتش والعفو الدولية هذه الانتهاكات. لقد أُغلقت في وجهي كل الأبواب، وعلى إثر ذلك غادرتُ بلادي، ولكنّي سأعود عند أوّل فرصة ممكنة.

(*) ثمة حملة ضدك من قبل إعلاميين وصحافيين في المغرب بأن أفعالك تهدد الثوابت الوطنية وأنك من المتآمرين وعملاء خدمة الأجنبي والأجندات الخارجية المشبوهة، هل تعتبر تصريحاتهم وكتاباتهم خدمة للسلطة في المغرب، على طريقة كتاب "المثقفون المزيفون: النصر الإعلامي لخبراء الكذب" للمفكر الفرنسي باسكال بونيفاس؟

أولًا هؤلاء ليسوا بإعلاميين أو صحافيين، بل هم مرتزقة. أعلمُ أنّ هذه الكلمة ثقيلة وأنا لا أحبُّ عادة التعميمات، لكنّها التوصيف الدقيق لظاهرة التشهير الإعلامي في المغرب. ليس لديّ أدنى مشكل مع من يُنافح عن السلطة، دون اللجوء إلى الأساليب غير الأخلاقية. ففي الأخير من حق الفرد أن يقول ما يحلو له. هذه هي حرية التعبير التي يجب أن تسود في الفضاء العام. هؤلاء "مرتزقة الإعلام" لا تهمهم مصلحة السلطة، بقدر ما يهتمون بالعائدات المالية والمصلحية التي يراكمونها. يمكنهم غدًا أن ينقلبوا على السلطة إذا ما منحهم طرف آخر عائدات أكبر. على السلطة أن تفهم ذلك.

إنّ مقالاتهم مليئة بالكذب والكلمات النابية الصريحة التي يخجل الفرد من ترديدها حتى وهو مع نفسه... هؤلاء ينهلون من معين الكذب، وهم في الحقيقة لا يخدمون السلطة، بل يساهمون في تأجيج الغضب ضدّها. ولحسن الحظّ فإنهم يفتقدون التأثير في الرأي العام، كما لم ينجحوا في النيل من عزيمة المثقفين والمناضلين الديمقراطيين. أنا أشفق عليهم ولا أحقد على أحدهم، لأن الصراع يجب أن يكون مع من يصدرون الأوامر لهم لتلطيخ سمعة المواطنين الشرفاء، لا مع الأدوات التي تُستخدم كالمناديل الورقية التي يتم التخلص منها بعد تلطيخها بالقذارة.



(*) تصفك صحيفة "إنديبندينتي"، بأنك آخر صحافي مستقل متمرد وآخر شجاع في مملكة أجهضت الكثير من الحريات، وأن إعلاميين وحقوقيين يقبعون خلف القضبان في اتهامات تعتبرها منظمات حقوق الإنسان ملفقة، كيف تسير الأمور في المغرب، ما الأسباب التي تبرّر هذه الاعتقالات؟ 

السلطة خائفة ومرعوبة... هناك حديث عن تغييرات داخل بنية السلطة، لكن لا شيء مؤكّدًا. لذلك أفضّل عدم الدخول في التفاصيل لأنّ المعلومات المتوفرة غير دقيقة. لكن من المؤكّد أن المغرب يعيش أزمة حكم. كُنت قد نشرتُ تحليلًا في مؤسسة كارنيغي يتحدثّ حول هذه الأزمة في عام 2023. وقد تعرضتُ لهجوم من أكثر من 15 موقعًا وصحيفة موالية للنظام. عرفتُ حينها أنّ هذا الموضوع شائك.

يجبُ أن نضع في عين الاعتبار أنَّ السلطة في المغرب مُنتشية بصعود اليمين القومي المتطرف في أميركا وباقي دول العالم، إلى جانب الدعم الإسرائيلي الذي تستفيد منه - بشكل مباشر وعلني هذه المرة- منذ انخراطها في اتفاقيات أبراهام إلى جانب الإمارات والبحرين والسودان. إنّه لأمر محزن أن يُتابع الفرد تنامي العلاقات وفي كل المجالات بين بلاده ودولة الاحتلال والفصل العنصري والإبادة الجماعية... ورغم ذلك يمكن ختم هذا السؤال بالقول إنّ القمع هو أحد تجليّات الضعف، لا القوّة.

(*) في حوار معك، تقول إن "الاستبداد المغربي قتل الصحافة" وإنه تم اختراق هاتفك وهواتف صحافيين آخرين ببرنامج التجسس الإسرائيلي بيغاسوس، ما هي قصة هذا الاختراق الذي يهدّد الحرية الشخصية وحرية الرأي في المغرب؟ 

في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2019 تلقّيتُ رسالة رسمية من إدارة تطبيق "واتساب" تفيد بتعرّض هاتفي للاختراق عن طريق برمجية "بيغاسوس" (Pegasus) الإسرائيلية. وقد أكّدت صحيفة الغارديان الخبر الذي كان مصدره بحث تقني أجراه مختبر المواطن (سيتيزن لاب) بجامعة تورنتو بالتعاون مع "واتساب".

كنتُ ضمن لائحة أولية تضمّ مئة صحافي وباحث وسياسي من العالم. أعتقد أنه تم البحث ثم اكتشاف اللائحة بعد اغتيال جمال خاشقجي، حيث كان قد تعرّض هاتفه هو الآخر للاختراق بنفس البرمجية. كنتُ أصغر شخص في القائمة حسب ما قيل لي، ولم أكن المغربي الوحيد طبعًا، إذ ضمّت اللائحة عشرة مغاربة، من بينهم المؤرّخ معطي منجب والباحث الاقتصادي فؤاد عبد المومني والصحافي الحسين المجدوبي.

تتقاطع الأنظمة السلطوية- الرجعية العربية مع إسرائيل في محاربة النخب الديمقراطية وقمع الصحافة المستقلة التي تعبّر عن مواقف الشعوب الرافضة لجرائم الاحتلال وأخيرًا حرب الإبادة. لذلك فإنّ إسرائيل تُوفّر الأدوات التقنية والأمنية لتلك الأنظمة قصد مراقبة القوى الحية للمجتمع.

حاز الحماموشي في مونتريال (كندا) على جائزة Benenson-Humphrey للحرية لعام 2024


(*) في مقال لك في صحيفة "العربي الجديد" بعنوان "كوبا... اليسار والحرية"، تتحدث عن
تهميش جزء غير يسير من الإنتليجنسيا العربية المنتسبة لليسار لقيمة الحريّة كحق طبيعي وكمبدأ أخلاقي، مقابل الاهتمام الحصري بالمساواة الاقتصادية، وهو ما قد يؤدي تلقائيًا إلى تأييد الديكتاتوريات، هل لا يزال لليسار العربي دور في المجتمعات العربية، ألم يتشتّت كما تشتّتت باقي المسارات الفكرية التحررية في العالم العربي؟ وما هي مشكلة اليسار العربي برأيك؟ 

لا جدال في ضرورة التركيز على المسألة الطبقية في ظل التوحش الرأسمالي وسيادة النموذج النيو- ليبرالي شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا. وفي الحقيقة، لا أحب أن أفتي في القضايا النظرية المتعلقة باليسار - الذي أفخر بالانتماء إليه- لأني لا زلتُ أعتبر نفسي تلميذًا في هذا المجال. إنّي أتعلّم يومًا بعد يوم من أصدقاء ورفاق... ما أردتُ قوله هو أنّ على اليسار العربي أن يغوص في مسألة المساواة الاقتصادية وفي الوقت ذاته يُحارب من أجل الديمقراطية بشكلها التعدّدي، وسيادة حقوق الإنسان للجميع، بمن فيهم الأشخاص الذين نختلف معهم سياسيًا وأيديولوجيًا. لقد اقتنعتُ بذلك ربما بسبب تجربتي الحقوقية، إذ انخرطتُ في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في سن 15 عامًا.

الكثير من اليساريين يعتبرون أنّ الحريات المدنية ترف، وأعتقد أنّ هذا خطأ. مثلًا في المغرب، بعض اليساريين يعملون على التهرّب من نقد السلطة السياسية لتفادي التكلفة الفردية لذلك، فيركزون بشكل حصري على المساواة الاقتصادية ويتفادون الحديث عن الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان. وعندما تواجههم بحقيقة خوفهم من ماكينة القمع، ينعتونك بـ "الإصلاحي الذي يناضل من أجل الديمقراطية البورجوازية". بمعنى أنّ توجههم ليس أيديولوجيا صرفا، بل هو مصلحي كذلك. توجه نابع من الخوف من مواجهة السلطوية من خلال محاسبتها على انتهاكات حقوق الإنسان. أعرف الكثير من الشباب انسحبوا من أحزاب يسارية عريقة لهذا السبب، وهذا يبعث الأسى في النفس.

منطقيًا من المفترض أن يلعب اليسار دورًا محوريًا في الساحة، لأنّ النموذج النيو- ليبرالي في أعلى مستويات فشله، كما أن الناس في العالم العربي أصبحت ناقمة على الحركات والجماعات التي ترنو نحو إقامة تجارب ثيوقراطية. لكن مع الأسف ليست هناك أحزاب يسارية قوية تستطيع لعب أدوار طلائعية للسبب المذكور أعلاه وغيره الكثير...



(*) أصدرت كتابًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة الدراسات بالاشتراك مع المعطي منجب بعنوان "منصف المرزوقي حياته وفكره"، لماذا خصّصت الرئيس التونسي الأسبق بهذا الكتاب، وهو رغم خلفيته كفاعل حقوقي ويساري حاول الجمع بين العلمانيين والإسلاميين، وهو شجاع في مواقفه مع القضية الفلسطينية، إذ شارك في رحلة "أسطول الحرية" إلى غزة عام 2015 واستقبل خالد مشعل وإسماعيل هنية، دون أن ننسى مطالبته الرئيس المصري بفتح معبر رفح، رغم ذلك فهو محط جدل داخل تونس، وثمة ثورة مضادة طاولته؟

الكتاب يندرجُ ضمن مشروع بحثي لا زلتُ أعمل عليه بالاشتراك مع الصديق المؤرّخ معطي منجب الذي هو بالمناسبة يعاني من اضطهاد سياسي منذ سنوات بسبب نقده للسلطة السياسية المغربية. وأريد هنا أن أعبر عن تضامني معه. فمن المحزن أن يتعرّض باحث لامع مثله لسلسة من الإجراءات التعسفية.

يتعلّق الأمر بإصدار كُتب حوارية معمّقة تتعرّض للسيرة الشخصية والفكرية لمعارضين ناهضوا أنظمة الحكم في بلدانهم لسنوات طويلة، كما شاركوا في الثورات العربية عام 2011. الهدف من المشروع هو إعطاء الكلمة للشخصيات المعنية ذات المشارب السياسية والفكرية المختلفة، وأحيانًا المتناقضة ليتعرّف القارئ من قرب إلى صاحب السيرة ودوره السابق والحالي في غمار التدافع السياسي والأيديولوجي، دون إغفال الجوانب الشخصية والأسرية التي تثير المتعة الذهنية والمعرفية.

أمّا بخصوص سؤال لماذا الرئيس منصف المرزوقي، فلأنّ حياته تتوافر على خيط ناظم، وهو مناهضة الظلم والديكتاتورية والدفاع عن الحرية. أعتقد من المهم أن يتعرّف القارئ على التفاصيل الدقيقة لمسيرة الرجل السياسية والفكرية والإنسانية. إنّها قصة ملهمة... من يعرفُ منصف المرزوقي على المستوى الشخصي، وبغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق في المواقف والآراء، سيكتشفُ أنّه شخص مرهف الحس لا يدخر جهدًا في الدفاع عن المظلومين والسجناء السياسيين من مختلف المشارب الأيديولوجية المُتناقضة. تمتلئ عيونه دموعًا بسرعة لمّا تحكي له عن مظلمة أو معاناة مع القمع... لأنّه عانى من القمع والاضطهاد والسجن والتشهير وشرور البوليس السياسي لسنوات طوال، لكنّه ظل شامخًا... لقد تعلّمت منه الكثير من الأشياء... لقد حالفني الحظ لكوني تعرفتُ عن قرب على الرئيس المرزوقي منذ أن كان عمري عشرين عاما.

(*) كتابك الآخر بالاشتراك مع معطي منجب "حضور في المكان" خصّصته لمقالات وحوارات لعالم الإناسة والاجتماع عبد الله حمودي الذي دعا إلى "صياغة أنثربولوجيا عربية" تتحدى الهيمنة الغربية وعدم البقاء في النقد الكولونيالي، ما هي أسباب منع الكتاب من التداول في المغرب، وهل يمكن اعتبار ذلك تهديدًا لحرية التعبير والتفكير مرة أخرى؟

كتاب "حضور في المكان" الذي شاركتُ في إعداده لم يمنع من البيع أو التداول في المغرب، بل مُنع من العرض والبيع في معرض الكتاب الذي أقيم بعاصمة المغرب الرباط. كما تم منع حفل توقيعه الذي أقيم في نفس المعرض. بعد هذا المنع غير المفهوم، نفى وزير الثقافة المغربي خلال استجواب له على التلفزيون الرسمي هذا الحظر، ومع ذلك ظل الكتاب ممنوعًا من العرض طوال أيام المعرض.

حقّق الكتاب انتشارًا واسعًا، لدرجة أنّه تربّع على هرم المبيعات في المكتبات المغربية في الأشهر التي تلت المعرض. ساهم المنع في انتشار الكتاب، مع العلم أنّ كتابات المفكّر عبد الله حمودي، وهو أستاذ فخري بجامعة برينستون، تلقى انتشارًا واسعًا في المغرب والعالم العربي، كما تُدرّس في مجموعة من المساقات الجامعية. فهو من أبرز علماء الأنثروبولوجيا العرب الذين جمعوا بين الصرامة العلمية والعمل الميداني، إلى جانب الالتزام بقضية الديمقراطية والدفاع الدائم عن الحقوق الوطنية الفلسطينية. لقد استفذتُ كثيرًا من تجربة عبد الله حمودي الذي تتلمذتُ على يده لسنوات. وأنا أفتخرُ بصداقته وأكنُّ له ولعائلته الكثير من الاحترام والمودة.

حرية التعبير والتفكير في المغرب في تراجع مستمر، وقد وصلت إلى أدنى المستويات. مع تصاعد القمع، تفشّت الرقابة الذاتية (L'autocensure) النابعة من الخوف. رُبما البلاد الآن في صدد الانتقال من سلطوية ناعمة تسمح ببعض النقد ولا تفرضُ قيودًا كليّة على حرية التعبير والتفكير والإبداع إلى سلطوية خشنة لا تتسامح مع الرأي المخالف. هذا الوضع مقلق ويبعث على الحزن. ومع ذلك هناك كتّاب وإعلاميون وأكاديميون شجعان يواجهون ماكينة القمع بالفكر والرأي الحر، ويؤدّون أثمانًا باهظة لأجل ذلك.

(*) من مكان المنفى، كندا، هل ستواصل انتقاد السلطة المغربية، على ماذا تشتغل حاليًا، وما تفكر به لمستقبلك في الكتابة؟

إنّي لا أحمل أيّ حقد أو ضغينة على السلطة المغربية، رغم الضغوط المتتالية التي أتعرض لها ويتعرّض لها جزء من محيطي إلى غاية حدود هذه اللحظة...  لا أحبّذُ التفصيل في هذا الجزء نظرًا لخصوصيته... كل ما أريد قوله هو أني لم أقم بنقد السلطة لأجل نقد السلطة. الدافع الأساسي الذي دفعني إلى الاشتباك الفكري والسياسي مع السلطة هو دافع أخلاقي.

لا يمكن أن أكبح لساني عن التعبير أو أقيّد يداي عن الكتابة والخلائقُ أمامي تُظلم. أظن أن هذا الأمر يتميّز به كل الناس وأنا لستُ حالة خاصة، لأن الأصل الفطري في الإنسان هو مقاومة الظلم كيفما كان طبيعته ومصدره. هناك من البشر من يُغيّرُ من طبعهِ هذا ويتحوّل إلى الجهة الأخرى، أي نحو مساندة الظلم أو المشاركة فيه؛ وهناك من يقف كالمتفرج لا هو مع الظالم ولا هو مع المظلوم.

بخصوص انشغالاتي الحالية فأنا أستعدُّ الآن لمتابعة مساري الأكاديمي، أيّ العودة إلى دراسة الدكتوراه التي مُنعت من استكمالها في المغرب بشكل تعسّفي. أتمنى أن أنجح في ذلك... أيضًا أواصل تعلّم اللغات الأجنبية. كما إنّي على مشارف الانتهاء من كتاب يتعلق بتكتيكات القمع السياسي بعد عام 2011 في بعض الدول العربية.

(*) تكتب على صفحتك الفيسبوكية "لبلادي المغرب وحشة لا يمكن وصفها، فأنا كالشجرة لا أستطيع العيش إلا داخل الجذور، أحب البلاد أعشقها وأموت من أجلها، وأبكيها كل يوم... لكن السلطوية لها رأي آخر"، مع كل هذا الإحساس العميق بالاغتراب عن المكان، هل فكرت يومًا إذا كانت طموحاتنا، أحلامنا، قناعاتنا، تستحق المعاناة التي نعيشها بسببها أو ما خسرناه من أجلها؟ 

العيش بعيدًا عن الأهل والأحباب والبلاد ليس بالأمر السهل... خصوصًا بالنسبة لشخص كحالتي كان يبني أحلامه على البقاء في بلاده للمساهمة في تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية نحو الأفضل. ولكن يجب تفادي البكاء على الأطلال أو تحويل الكلام إلى بحيرة من دُموع! رُبما يجدرُ فعل ذلك عند كتابة الشعر!

كان إدوارد سعيد يقول ما معناه إنّ المنفى يقود إلى المعنى، وإنّ المعرفة تتعاظم مع وعي المنفى. أعتقد أنّ المنفى هو فرصة لتحقيق الذات واكتساب لغات ومعارف والتعرف على ناس جدد. إنّي محظوظ مثلًا بلقائي بأصدقاء ورفاق هنا (في كندا) منهم من كنتُ أعرفه سابقًا، وأصدقاء جُدد تعرّفتُ عليهم مؤخرًا إلى جانب الكثير من الناس...

أخيرًا أريد القول إنّي لم أندم على أيّ كلمة كتبتها أو عبّرتُ عنها ضدّ الفساد والسلطويّة. لو عاد بي الزمن من جديد لقمتُ بتكرار نفس الأفعال. ليس هناك أيّ ندم، بل العكس. ألذ شعور ينتاب الفرد هو عندما يُقاوم الظلم ويُواجه السلطوية في عُقر دارها. الإنسان يعيش حياة واحدة، وعليه أن يعيش حرًا. لا أعتقد أني فعلتُ شيئًا كبيرًا، فهناك أشخاص قدموا تضحيات جسام أكثر مني بمئات المرات، وأنا أنحني لهم ولعائلاتهم تقديرًا وحبًا واحترامًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.