يُعبَّر المسرحيُّ والشاعرُ الجزائريُّ الفرنكفونيُّ، حَمَّةُ ملياني، في هذه الحلقةِ الثانيةِ والأخيرة من حوارهِ مع "ضفَّةٍ ثالثة" عن امتنانهُ لمسؤوليها الذين مكَّنوهُ ــ بشكلٍ لم يكنْ يتوقَّعهُ ــ من التعبيرِ عن تأييدِهِ المطلقِ لنضالِ الشعبِ الفلسطينيِّ من أجلِ حريتِهِ المسلوبةِ، على مَرأى ومسمعِ عالمٍ غربيٍّ متفرِّغٍ لتحريرِ أوكرانيا، وآخرَ عربيٍّ وإسلاميٍّ قضى السابعُ من أكتوبر على صمتِهِ وتفرُّجِهِ.
إنَّهُ النضالُ الذي يُعَدُّ مبرِّرَ وجودِهِ، ليس بالشعاراتِ كما يفعلُ تجارُها الكُثُر، ولكنْ بالفعلِ الدراميِّ والشعريِّ، الذي جعلَ منهُ نجمًا رغمَ أنفِهِ في الضواحي الباريسيةِ التي خانَها معظمُ الإعلاميينَ والمثقفينَ والمسؤولينَ الفرنسيينَ ــ على حدِّ تعبيرِهِ. إنَّها الخيانةُ نفسُها التي طاولتِ الشعبَ الفلسطينيَّ الأعزلَ، الصامدَ رغمَ جبروتِ عدوٍّ صهيونيٍّ وجدَ في مثقَّفينَ متواطئينَ وآخرينَ صامتينَ، الدعمَ الذي لم يكنْ يحلُمُ بهِ.
ملياني، الذي يحلمُ بدورِهِ بتقديمِ مسرحيتهِ "محورُ العالمِ... يوميّاتُ إبادةٍ" في الجزائرِ وطنِهِ، وفي العالمِ العربيِّ والإسلاميِّ، مترجمةً إلى اللغةِ العربيَّةِ، أنهى حوارَهُ بتقديمهِ هديَّةً لـ"ضفَّةٍ ثالثة"، وهي إحدى شخصيَّاتِهِ المسرحيَّةِ التي هتفتْ قبلَ مغادرتِها الرُّكحَ: "تحيا فلسطينُ حرَّةً"، بعد أن خاطبَ وزيرَ الثقافةِ في وطنِهِ، الذي يسري في دمِهِ.
(*) ألا تعتقدُ أنَّ هويتَكَ الشعريَّةَ المتأصِّلةَ فيكَ هي التي سمحتْ لكَ بتفجيرِها من خلالِ مسرحيةِ "محور العالمِ... يوميّات إبادةٍ"؟ إنَّها المأساةُ الحديثةُ والواقعيَّةُ والعبثيَّةُ التي عالجتَها بقالبٍ يونانيٍّ وشكسبيريٍّ كلاسيكيٍّ يُحيلُنا إلى سياقِ ولادةِ المسرحِ في كنفِ الشعر؟
بالضبطِ. وكلامُكَ قراءةٌ تسعدُني وتشرِّفُني بشكلٍ غيرِ مسبوقٍ وأنا أتحدَّثُ لقرَّاءِ موقعِكم العربيِّ الهامِّ، في سياقِ مأساةٍ أراها فاجعةً شخصيَّةً.
المسرحيَّةُ تدخلُ في إطارِ الاستعجالِ الذي تفرضُهُ إبادةٌ مكتملةُ الأركانِ، وكتبتُها وأخرجتُها بالشكلِ الذي أشرتَ إليهِ مُجبرًا، لعلاقتِها التاريخيَّةِ بمسرحٍ يونانيٍّ خرجَ من رحمِ التراجيديا. قُدِّمتِ المسرحيَّةُ في ديسمبر/ كانون الأول من عامِ 2023، بقيادةِ مناضلينَ ومناضلاتٍ من جمعيَّةِ "فلسطين استعجال"، وهي نتاجُ عملي التكوينيِّ لممثِّلينَ وممثِّلاتِ فرقتي المسرحيَّةِ التي تحدَّثتُ عنها في الحلقةِ الأولى.
المسرحيَّةُ ردٌّ على مرتكبي إبادةِ غزَّةَ، التي أكَّدتْ صحَّةَ السياقِ التاريخيِّ للاستعمارِ الإسرائيليِّ لفلسطين. هذه الإبادةُ المُرادفةُ للتطهيرِ العِرقيِّ فتحتْ بابَ جهنَّمَ على فلسطينيِّي غزَّةَ، للانتقامِ من مقاومينَ لم تكنْ عمليَّةُ السابعِ من أكتوبر إلا تجسيدًا لانسدادٍ سياسيٍّ فرضَهُ الاحتلالُ الإسرائيليُّ.
ملاحظتُكَ المتعلِّقةُ بالمقاربةِ في محلِّها، والقالبُ التراجيديُّ الذي تبنَّيتُهُ خرجَ من رحمِ المسرحِ الإغريقيِّ والشكسبيريِّ، كما أشرتَ في سؤالِكَ، واعتمادي خاصِّيَّةَ "الكوريف" والجوقِ كان وراءَ تجسيدٍ حقيقيٍّ لتراجيديا شعبٍ يرفضُ تسليمَ أرضِهِ لاستعمارٍ استيطانيٍّ صهيونيٍّ. لقد تلقَّفَ الجمهورُ مقاربتِي، وعاشَ هذهِ التراجيديا على رُكحٍ يقضُّ مضاجعَ المكارثيِّينَ الفرنسيِّينَ.
(*) لاحظتَ أنك وظّفتَ الشعر ليس فقط لتخليد كفاح الشعب الفلسطيني فحسب، ولكن لترسيخ التزامك بقضايا الإنسان العادلة في الضواحي الفرنسية التي ألصق بها الإعلام الفرنسي الطاغي والمضلِّل كلَّ الموبقات الاجتماعية...
نعم، هذا صحيح. وكلّ مساري التزامٌ بالدفاع عن المظلومين الفلسطينيين الواقعين تحت سطوة إعلاميين ومثقفين يعملون على تشويه تاريخهم، كما يفعلون مع المهاجرين العرب والمسلمين في الضواحي، التي تُعَدّ رافدًا ثقافيًا واجتماعيًا يخدم فرنسا، وليس العكس. التزامي لا يتجزأ، وهو نابعٌ من تاريخ ثورة جزائرية ناهضت فرنسا الاستعمارية، وتوظيفي مسرحيتَي "غضب العشاق"* (2010)، و"البرتقالي"** (2020) في مسرحيتي الجديدة عن إبادة غزة دليلٌ على مزاوجتي بين الشعر والمسرح. الشيء نفسه قمتُ به في ورشاتي المسرحية في الضواحي الباريسية، انطلاقًا من المقاربة نفسها، ردًّا على تصاعد اليمين المتطرف عام 1988. وكانت مسرحية "المنعطف الخطير"، التي قُدّمت مرات عدة في مهرجان أفينيون الدولي الشهير، تصبُّ في مجرى محاربة توجُّهٍ أخذ بُعدًا خطيرًا غير مسبوقٍ فرنسيًا وأوروبيًا وعالميًا.
وبوعلام صنصال، مثلًا، ثمرةُ اليمين المتطرف والصهيونية، والمعروف عن الأول معاداةُ السامية، وزعيمه الراحل جان ماري لوبان قاتل الجزائريين، هو الذي قال: "غرف الغاز النازية تفصيلٌ تاريخيٌّ". بالروح الفكرية الملتزمة نفسها، قدّمتُ مسرحية "جهنم الملائكة" عام 1996 في قالب كوميدي ساخر وموسيقي. نالت المسرحية الجائزة الأولى، وجائزة لجنة التحكيم، في مهرجان المسرح المتنوع في ضاحية كلامار الباريسية عام 1996. والمسرحية نفسها قدّمتُها مجددًا، بنزوعي الشعري، مع طلبة ماليين ومغاربيين وفرنسيين في التجمّع الاجتماعي العالمي بجامعة باماكو عام 2006، وصدرت لاحقًا مطبوعةً تحت عنوان: "هنا الماضي لم يصبح ماضيًا بعد".
(*) نبقى منهجيًا في سياق مسرحيتك "محور العالم... يوميات إبادة" قبل توقّفنا لاحقًا عند دفاع مثقفين ليسوا بالضرورة من اليمين المتطرف عن بوعلام صنصال، كتعبيرٍ أسمى عن خدمته أجنداتٍ فرنسية تقف وراءها الصهيونية، وليس كل اليهود، كما يقول الصحافي الكبير سيلفان سيبال في كتابه "إسرائيل ضد اليهود". أسألك: "هل تعتقد أنك وُفِّقتَ في تعبئة جمهورٍ فرنسيٍّ خارج الضواحي حيال نضال الشعب الفلسطيني، علمًا أن السياق السياسي والثقافي والإعلامي أصبح يمنع أمثالك من حريةٍ دعا فولتير إلى حمايتها وتكريسها: "أختلف معك... لكن أُضحّي بنفسي لتعبّر عن رأيك بحرية"؟
أعتقد أنني وُفِّقتُ في إخراج المسرح الاستعجالي من الضواحي الباريسية لتوعية الجمهور بخطورة التفرّج على إبادة غزة. الشكل الذي اعتمدتُه سمح لي بضمان مقارباتٍ تخاطب مختلف الفئات الاجتماعية، والشباب بوجه خاص، بعيدًا عن الخطابة الأيديولوجية المحضة، وإمكانية تقديمه خارج القاعات أمام جماهير شعبية، تؤكد نهجي المسرحي المدروس فنيًا مسبقًا. مسرحيتي حول إبادة غزة لاقت دعمًا من جمعية "استعجال فلسطين 84"، وقدّمت في مهرجان أفينيون العام الماضي، وفي مدن شومبيري، وأنماس، وغرونوبل، وفي مناسبات التضامن مع الشعب الفلسطيني.
(*) أنت تعيش على إيقاع التراجيديا الفلسطينية، ممارسًا رقابةً ذاتيةً مفروضةً عليك، ومجازفًا بوجودك الشخصي في الوقت نفسه، و"يوميات إبادة" العنوان الفرعي لمسرحيتك غير موجود على غلاف الكتاب...
أحسنتَ التعبير حينما قلتَ في سؤالك: "إنني أعيش على إيقاع المأساة الفلسطينية التي تمزّق كلَّ منطقة الهلال الخصيب، وليس فلسطين فقط". صحيحٌ أيضًا أنني أمارس رقابةً على نفسي، مُجبرًا، لتمرير ما أمكن من رسائل يمنع الإعلام تمريرها بنعومة، بدعمٍ وتواطؤٍ من المثقفين التلفزيونيين الذين تعرفهم جيدًا، بحكم تناولكم إياهم في أكثر من مقال وكتاب.
(*) رغم الرقابة الذاتية التي تتحدث عنها بحزن... تطاولك من دون شكٍّ تهمة معاداة السامية، وتُمنع من التعبير الحر والكامل على أرض فولتير، حينما يتعلق الأمر بفلسطين، على حد تعبير ألان غريش...
أدافع عن نضال الشعب الفلسطيني المظلوم، وليس هناك ما يثبت عكس ذلك في أعمالي المسرحية والشعرية، وفي تصريحاتي. أنا صوتٌ جزائريٌّ مناهضٌ للظلم بكل أنواعه، وللظلم الإسرائيلي التاريخي في فلسطين بوجه خاص. مع الأسف الشديد، ليس في قدرتي توصيف الأوليغارشيا الصهيونية كما يجب، تفاديًا لتهمةٍ جاهزةٍ طاولت حتى اليهود المعارضين للإبادة المستمرة، بشتى الأشكال، على مرأى ومسمع مثقفين ومسرحيين ومبدعين كُثُرٍ يتشدّقون بحرية التعبير في فرنسا الأنوار.
بدعوى مبرّر معاداة السامية، أصبحت الثقافة في فرنسا أسيرة "عسس الفكر والفنون"، وأصحاب المصالح الداعمة للصهيونية، ونعيش ذلك في لجان القراءة وعبر شروط تقديم الإعانات ودور النشر وشبكات الاتصال بضروبها كافة.
(*) كيف تردّ على معظم المثقفين الفرنسيين الذين يرفضون تطبيق مفهوم الإبادة على غزة، ومن بينهم إليزابيت بادنتير التي تعد فيلسوفة في الإعلام الفرنسي؟ هذه السيدة اليسارية، المنحدرة من عائلةٍ راحت ضحية النازية، انتفضت في لقاءٍ تلفزيوني مؤكدةً أن مفهوم الإبادة ينطبق فقط على ما تعرّض له اليهود على يدي هتلر...
ليس هنالك ازدواجيةٌ في مقاربة مفهوم الإبادة، وما تعرض له اليهود هو إبادةٌ بشعةٌ، كما حدث في مناطق أخرى من العالم (الجزائر، والبوسنة، ورواندا... إلخ) وكما يحدث في فلسطين.
السيطرة الصهيونية في المجالين الثقافي والإعلامي وراء هذه الازدواجية المقيتة، ويحزنني أن أرى مثقفين مغاربيين يعملون على تكريس هذا المنظور العنصري الذي راح ضحيته اليهود أنفسهم، باسم محاربة التطرف الإسلامي. ووقوع كتاب جزائريين في أسره يضاعف حزني ويدمي قلبي.
(*) هل أفهم أنك تشير إلى بوعلام صنصال، وقبله كمال داوود الجزائريَّيْن، والمتحالفين مع الطاهر بن جلون المغربي...
ليس فقط من ذكرتهم، ولكن بوعلام صنصال دميةٌ أصبحت شهيرة بفضل اليمين المتطرف المعروف تاريخيًّا بمعاداة السامية، كما ذكرت، والمدعوم صهيونيًّا (يا لمفارقة التاريخ) لضرب الجزائر، وتأزيم العلاقات بينها وبين فرنسا. توظيف كاتب مغمور غير مؤثر إبداعيًّا في عزّ التحوّل السياسي الذي تعرفه سورية حقيقة مكشوفة ومخطط استراتيجي فشل في جزائر اكتسبت مناعةً قويةً ناتجةً عن درس العشرية السوداء. الجزائر لم تقع في الفخ المنصوب، بتخطيها خلفيات أصحاب الأجندات الجيو ــ استراتيجية الخطيرة. من هو هذا بوعلام صنصال حتى تقوم القيامة للدفاع عنه باسم الحرية التي حُرم منها الصحافي جان ميشال أباتي بعد تأكيده نازية الجيش الفرنسي في الجزائر؟
وإذا سمحت لي، سأُهدي قرّاء منبركم، قبل أن نفترق، مخاطبةَ سجينٍ فلسطينيٍّ جلاديه، وكل أعداء نضال شعبه:
"رغم رعبكم وقوة تسلّحكم، وضجيج وتشويه إعلامكم، وقنابلكم التي تسقط على رؤوسنا، وجهنمية بطشكم، وسجونكم، وأسلاككم الشائكة، وجدرانكم التي تغطي الأفق وتقسم الإنسانية إلى عالمين، وقتلكم أطفالنا ونسائنا، وتهديم بيوتنا ومدارسنا، وقتل رضعنا، وعمى نخبكم... سنبقى نقاومكم. فلسطين حرّة. عاشت فلسطين".
(*) ماذا تنتظر لتقديم مسرحية "الساعة الفلسطينية التراجيدية غير المسبوقة في العالم العربي والإسلامي"، مترجمةً من اللغة الفرنسية؟ إنها فرصة لتعرية القادة العرب والمسلمين أكثر من أي وقت مضى، أولئك الذين يتحسسون مسدساتهم عند سماع كلمة (فلسطين).
أعمل على ذلك كما تعرف، بكل ما أوتيت من قوة. أتمنى أن يكون نشر حديثك في (ضفة ثالثة) فرصةً ودعوة موجّهة للشعوب الغيورة على حرية الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها الشعب الجزائري. بالمناسبة، أؤكد أنني أرسلتُ ملفًّا لعرضها في الجزائر، وفي مهرجان أدرار المسرحي في أقصى جنوب الجزائر. مع الأسف الشديد، أُلغي المشروع بسبب نقص الإمكانات. وأرسلتُ طلبًا لوزارة الثقافة، وللوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي. لكنْ، لا ردّ إلى حد الساعة. أحلم بتقديم المسرحية في كل البلدان العربية والإسلامية، في إطار مشروع ورشة تكوين إبداعي. لقرّاء منبركم أضيف أن مسرحيتي حول إبادة غزة قد تُرجمت إلى اللغة الإيطالية.
(*) أعدك بإيصال رسالتك عبر "ضفة ثالثة" إلى السيد زهير بلّو، وزير الثقافة...
يا إلهي... شكرًا لك، ولمسؤولي منبركم الكبير، الذي لم أكن أعرفه.