في مشهد الأدب الفلسطيني، حيث تتشابك الذاكرة مع المنفى، والمقاومة مع الحنين، والحب مع الفقدان، برزت كاملة محمود الصيداوي كصوت روائيّ يحمل صوت الأرض وهموم إنسانها. وُلدت في قضاء حيفا عام 1978، وتشكّل وعيها عبر إدراكٍ مبكّر وعميق للمفارقات التي يعيشها فلسطينيو الداخل: أن تكون منفيًا في وطنك، وأن تكون ابن الأرض لكنك محاصر بحدود تُرسم ضدك، وأن تحاول الحفاظ على لغتك وذاكرتك، بينما تُحاصران بسياسات الطمس والتمييز والتهميش.
حازت كاملة الصيداوي على إجازة جامعية في العلوم الاجتماعية، وإجازة جامعية ثانية في التربية الخاصة من جامعة حيفا، ما منح نصوصها بعدًا إنسانيًا واجتماعيًا يلامس قضايا المهمّشين والمنفيّين. وليست الكتابة بالنسبة إليها مجرد محاولات سردية، بل حالة اشتباك دائمة مع التاريخ والواقع، ومع المصير الفلسطيني الذي لا ينفصل عن التجربة الذاتية. عملتْ مع الأطفال الفلسطينيين في القرى غير المعترف بها من قبل سلطات الاحتلال، لتقترب عبر هذه التجربة من معاناة غُيِّبَت عن شاشات الإعلام، فجاءت رواياتها انعكاسًا لهذا الواقع المسكون بالألم والجمال معًا.
أصدرت ثلاث روايات: "عندما أزهرت بندقية" (2020)، و"سبع فاطمات لعلي" (2020)، و"حروب وأحمر شفاه" (2022). في هذه الأعمال، تسرد الصيداوي حكايات شخصيات فلسطينية تتردد بين الحب والمنفى، وتحاكي عبرها مصير وطن بأسره؛ فتجعل من المدن أرواحًا تتكلم، ومن النساء أيقونات للصمود والمقاومة، ومن اللغة جسرًا بين الواقع والحلم، وبين الماضي والحاضر. في هذا الحوار، نقترب من تجربة كاملة الصيداوي، نحاورها عن الرواية كمساحةٍ للنضال، عن المرأة الفلسطينية كأيقونة عشق واشتباك، عن الهوية كمعركة يومية، وعن الأدب كفعل مقاومة يعيد صياغة الحكاية الفلسطينية.
(*) ولدت ونشأتِ في فلسطين المحتلة عام 1948، حيث يخوض الفلسطيني معركةً يومية على جبهة الهوية والثقافة واللغة ومحاولات الصمود، في ظل معادلة قاسية يفرضها واقع الحياة تحت حكم منظومة استعمارية. كيف شكّل هذا الواقع تجربتك الأدبية؟ وهل ترين أن الأدب الفلسطيني في الداخل قادر على إبداع صوت متفّرد، وعلى الاشتباكِ، ضمن دائرة الهيمنة الاستعمارية؟
لا شك في أن تجربتنا ككتّاب وأدباء فلسطينيين، أينما كنّا، تبقى واحدة مع اختلافات بسيطة. يُحاصر نصّنا وتُحارب سرديتنا من قِبَل المؤسسة الصهيونية، التي تسعى بكل دأب إلى عرقلة حضور أدبنا عالميًا، مقابل فرض سرديتها الخاصة. ومع ذلك، ومن خلال تاريخ نضالنا، استطعنا أن نصل، أن نحظى بالحضور، وأن ننتشر.
من حيث التصنيف الأدبي والتاريخي، فإنني وجيلي ننتمي إلى أدباء ما بعد الحداثة، وهي الفترة الثالثة التي شهدت بروز موجة جديدة من الأصوات النسائية في فلسطين التاريخية، التي بدأت تكتب وتساهم في الحراك الوطني والنضالي، وتشتبك مع الواقع، وأنا من ضمن هذه الأصوات. ولعلّ ما يميّز نصوصنا، من منطلق تجربتي الخاصة، هو الظروف الجغرافية والتاريخية التي جعلتنا أكثر جرأةً وانفتاحًا على العوالم الجديدة التي تتشكّل حولنا. كان لا بدّ لنا من مواكبة هذه التحولات لتقليص الفجوة بيننا وبين القارئ. ولم تعد السياسة وحدها المحور الرئيسي لنصوصنا، لكن هذا لا يعني تغييبها، بل إعادة صياغتها بأساليب تتماشى مع الكم الهائل من التطورات التي نعيشها، فالنص يجب أن يكون مشبعًا، يتفاعل مع الواقع، ويحترم وعي المتلقي. نعم، نحن قادرون على الحضور.
لا تبتعد النصوص عن أصحابها، فهي انعكاس لهم بكل تفاصيلهم وظروفهم، وهذا ما يجعلها صورًا حقيقية لتجاربنا الإنسانية، التي فرضت عليها الظروف أن تكون مختلفة، مغايرة، ومستحقة للتأمل. ويبقى التحدّي الأهم هو مسألة الاستدامة والاستمرارية، في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد والمنطقة. وهنا تتجلى فردانية كل كاتب؛ فالكتابة، بمفهومها البسيط، صورة من صور الاحتجاج والتمرد، تسلط الضوء على القضايا التي يمكن للكلمة أن تساهم ولو قليلًا في حلّها، من إصلاح فانوس في شارع، إلى مقارعة الاحتلال ودحره.
(*) بين "عندما أزهرت بندقية" و"سبع فاطمات لعلي" و"حروب وأحمر شفاه"، رسمتِ ثلاث لوحات للمرأة الفلسطينية، كل واحدة منهن تقاوم بطريقتها الخاصة. وكأنك تحولين الأدب إلى فعل مقاومة نسويّ. كيف ترين علاقة المرأة الفلسطينية اليوم بكلّ من الأدب والنضال؟
لو نظرنا إلى تاريخنا النضالي الفلسطيني، لرأينا أن الأدب، بكل أشكاله ومراحله، كان حاضرًا في معاركنا. ولطالما كانت علاقة المرأة الفلسطينية بالأدب قوية ومميزة، ما جعلها تنخرط تباعًا في فعل المقاومة، حتى لو كان ذلك في أبسط صوره. والدليل أن ذاكرتنا الجمعية، كأفراد عاديين قبل أن نكون كُتّابًا وروائيين، مليئة بالأهازيج والترويدات والأغاني والقصائد، التي سمعناها من جدّاتنا وأمهاتنا، ومن خلالها تعرّفنا على تاريخنا الفلسطيني النضالي، البعيد والقريب. يحزنني أن جزءًا كبيرًا من هذا الإرث الأدبي المحكيّ لم يُدوّن، ويخيفني أكثر أن يختفي مع رحيل حُرّاسه وسدنته.
إن تفاعل المرأة مع الأدب المقاوم كان دائمًا حاضرًا وفعّالًا، بأشكاله المختلفة، ولكن اللافت هو تطور هذا الحراك الأدبي وانغماسه أكثر في فعل المقاومة. في البداية، كانت هذه المقاومة سلمية، لكنها تطورت إلى ما هو أعمق عندما سنحت الفرصة. واليوم لدينا شاعرات، كاتبات، روائيات، وناقدات حملن الشعلة عن جدّاتهن وأكملن المسيرة. ولكن، لنكن واقعيين، لم نتمكن بعد من بناء حيّز أكاديمي ثقافي مستقل، بعيد عن التبعية السياسية، يحتضن هذا الحراك الأدبي المقاوم، ويُبرز إسهاماته بالشكل الذي يليق بالقضية الفلسطينية عالميًا.
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن زمننا هذا قدّم لنا فرصًا لم نكن نحلم بها، عبر التطور الهائل في الأدوات والمنصات التي يمكنها أن تعزز حضورنا عالميًا. نحن نملك الإمكانيات، ونستحق أن نكون على الخارطة الإنسانية بما يليق بنا.
أما ما يقلقني شخصيًا فهو مسألة القارئات؛ أريدهن بأكبر عدد ممكن. أنا مؤمنة بأن الكتابة، بمفهومها الأول، مظاهرة سلمية، وكم أتمنى أن أرى النساء ينضممن إليها، لأنهن سيشكلن علامة فارقة في ساحة النضال. فالوعي هو رأس الحربة، وأنا على يقين بأن حضور المرأة يُثري أي فضاء. لذا، أحرص دائمًا على أن يكون حضورها وافرًا كما كان دائمًا في تاريخنا الفلسطيني، رغم كل القيود والتحديات.
(*) المدن في رواياتكِ ليست مجرد أماكن، بل كيانات تنبض بالحياة، أوضح ما يتجلى هذا الحضور في مدينة يافا في رواية "حروب وأحمر شفاه"، وفي القدس، وحيفا التي تسكنك. وكأنك حين تكتبين عن المدن تشكّلين شخصيات لها حضور قوي، وكأن المدينة تنافس الشخصيات في رواياتك على أدوار البطولة. لعل ذلك يعود إلى العلاقة الخاصة والاستثنائية بين الفلسطيني والوطن ــ البيت، والتي تشكّلت عبر تجربة الفقدان.
المكان والمحيط يشكّلان لي، كما لأي إنسان آخر، ذلك المدى الواسع الذي أستطيع من خلاله أن أكون، وأن أعيد صياغة تجربتي الإنسانية والوجدانية. إلى جانب وجعي وحنيني الذي لا ينتهي. وكفلسطينية، لا شك في أن لكل مدينة في فلسطين التاريخية صرحًا في روحي ووجداني، ومدينة يافا هي أحد تلك الصروح.
للمدن سطوة مختلفة عليّ، فهي تمثل لي حدًّا في حزني وفي منفاي، حتى وإن كنت أعيش فيها. فما من شيء أكثر غربة ووجعًا من أن يُهمّش وجه مدينتك، ويُغتال تاريخها، وتُسلب حضارتها، وتُبدّل لغتها. فتعيش كل يوم لتكتشفها من جديد، رغم منفاك المعنوي القسري. وهذا الاكتشاف، أحيانًا، أعود به إلى نصوصي ولوحاتي المشهدية، أرسمها من لحم ودم. نعم، أنا أستفيد من الحدث والمكان والشخصيات والحوار، لكي أعيد بناء المدينة من جديد في ذاكرة جيل لا يعرف عن مدننا سوى اسمها.
أشعر أن الكتابة عن المدن، الأماكن، الشوارع، الأحياء، البيوت بكل تفاصيلها، هي بمثابة دعوة، ودرب مفتوح للقارئ أينما كان، لكي يعود معي إلى مدينتنا ومفتاحها، عبر تلك المشاهد التي صنعتها من لحم ودم. وأنا أجزم أنه يمكنني تحديد جذور أي فلسطيني من خلال حنينه، فقده، وحديثه عن مدينته، حتى لو لم يحدّدها. فالوجع هو خارطة الطريق إلى المدن، وأنا أعرفه جيدًا.
(*) المنفى في أعمالكِ تيمة رئيسة، لا يحضر مجرد مسافةٍ أو جغرافيا، بل كجرح ممتد في الروح. كيف يمكن للفلسطيني أن ينجو من شعور الاقتلاع حتى لو بقي في وطنه؟ وكيف تعالجين هذا الموضوع عبر شخصياتك؟
لنتفق أن مسألة الحنين للوطن تنطوي على إشكالية كبيرة لدينا نحن الفلسطينيين؛ فالحنين للوطن لم يبدأ مع النكبة وسقوط فلسطين التاريخية، بل كان موجودًا قبل ذلك واستمر إلى يومنا هذا. الفلسطيني الذي بقي في الداخل يحمل حنينه، ووجعه لا يختلف عن ذلك الذي يحمله المنفي أو النازح أو اللاجئ، بل أحيانًا يكون أشد وأقسى. وهذه جزئية أسلط الضوء عليها دائمًا.
أنا كنتاج لهذه المأساة، أحاول كل يوم أن أصمد وأعيش حياة طبيعية قدر المستطاع، وأن أتجاهل محاولات المحتل لإلغائي، مع وعيي الكامل والمتيقّن أنني حتمًا سأنجو وأبقى. هناك عدة اعتبارات تقف وراء هذا اليقين، أهمها إيماني بأنني الأقوى والأحق، وأن قضيتي هي الأعدل عبر كل العصور. لذلك، شخصيات رواياتي تشبهني إلى حد كبير، وتؤمن بما أؤمن به، رغم أنني لا أجبرها على شيء. أنا فقط أكشف نفسي أمامها، بدون خجل أو خوف أو زيف، وأعرض عليها تجربتي الإنسانية والشخصية مع هذا الاحتلال، وصور قمعه، وكيف تعاملت معه منذ كنت طفلة، لأنني لم أكن أملك خيارًا آخر. فأنا سليلة نساء قويات، زرعن وحصدن، بَنيْن وأنجبن وربّين، والأهم، بقين في البلاد رغم كل المخاطر.
الأمل والتفاؤل والإيمان المطلق بالأوطان، وقنص الفرص للحياة، والحب، والاستمرار رغم كل الظروف، هي مقومات أساسية أشكّل منها شخصياتي لتقف معي، لكي لا نُهزم، ولا نُجتثّ، ولا نُقتلع. لكنني لا أحب الندب والنواح في نصوصي. وأؤمن أن الحزن الأنيق، الذي نحياه نحن الشعب الفلسطيني، هو امتداد لحضارة عريقة ترفع الفرح فوق الحزن، حضارة كانت، حتى في شكلها البدائي، في الصدارة. فنحن الكنعانيون، كنا أول الأشياء، وإسهامنا لا ينتهي حتى في أحلك الظروف.
(*) تمزج لغة رواياتكِ بين الشعرية والواقع، بين السرد الحسّي والمونولوغ الداخلي العميق. كيف تبنين النص ليكون متماسكًا رغم هذه التداخلات؟
نصوصنا كبصماتنا الوراثية، هي التي تعرّفنا وتميّزنا. نحن هنا في برّ الشام نكتسب مهارة الحكي، لأننا غالبًا تربّينا على ثقافة الدهشة، وهذّبنا أحاديثنا على حصيرة السمع والاستمتاع، بدءًا من حكاياتنا الشعبية، وأغانينا، وأهازيجنا، وصولًا إلى آخر نص قرأناه.
لا شك في أن الكاتب، بعد فترة من الزمن، وكلٌ حسب تجربته، يشكّل من خلال دواخله الجمالية والحسّية خطًا وأسلوبًا يخصّه هو دون سواه. وعندما تختمر الخبرة، يصبح الكاتب مدركًا لجوانب قوته، ويتقن فن الصنعة. الكتابة في مستواها الأول هي مجرد كتابة، بينما عندما تتطور للمستوى الثاني، أي الجمالي الإبداعي، تصبح حرفة وصنعة تشكلت عبر مراحل إنسانية ووجدانية مرّ بها الكاتب. ومهمّته أن يعرف المقادير لكي يضبط إيقاع نصّه، ليصبح وكأنّه امتداد على الورق لوجوده وحضوره بكل تفاصيله.
ولكي لا أكون متحيزة، لا بد لي من أن أشدد على أن النص الذي تكتبه امرأة غالبًا ما يكون مفعمًا بالتفاصيل، التي تفرضها رؤيتها وتوجهها لكل الجماليات الحسّية والمادية من حولها. فالمرأة، من خلال سردها، تحشد كل فساتينها، عطورها، أمشاطها، أحمر خدودها، ومكواة رموشها.
أما مسألة اللغة، فهي الغلاف والمسوغ الأشمل للنص بكل تركيباته ومكوناته. أظن أنني في المنطقة الوسط من كل شيء؛ أحب التنقّل بين مستويات اللغة حسب المشهد والحبكة، وأحيانًا حسب الشخصية. فأنا مع المرونة في اللغة لأنها المستوى الشامل والأوسع، وضمنه تتشكل باقي صور وأشكال الجماليات. وأحب أن أكثّف، من خلال رسم الأحداث، عنصر المشهدية، لكي يرسخ ويبقى لأطول مدة في ذاكرة القارئ، كناقوس خطر يقول: "هنا انتبه واحذر، فما يحدث الآن ليس بالعادي".
كنت أسمّي معرفة المقادير، تلك التي يدركها الكاتب لكي يوازن كل ما هو حول نصّه، بالغرزة المخفية، التي فعلت فِعْل السِّحر، وطارت بالنص عاليًا.
(*) بين الرواية والواقع، أين تقف الكتابة؟ هل الأدب الفلسطيني اليوم قادر على إحداث تغيير، أم أنه مجرد صدى لحكايات تتكرر؟ وما الدور الذي يمكن أن يلعبه الكاتب في زمن المأساة والتحولات الكبرى؟
أظن أن الكتابة أيضًا فعل متطور كغيره، بدأت عندما قرر الإنسان قديمًا أن يكتب عن تجربة صيده على صخور كهفه ليعلم الآخرين، وانتهت بتغريدة لشخص ما على مواقع التواصل الاجتماعي، مهما كان مضمونها، لكنها استوقفتنا.
عندما تتحول الكتابة إلى مشروع مستدام، فإننا، ككتّاب، نكون قد وصلنا إلى مرحلة متطورة من الوعي والمسؤولية التي تفرض علينا أن نقرر، وحسب مواقعنا وأولوياتنا، إذا كان ما نكتبه ذا جدوى لنستمر. ولكن لنكن واقعيين، الأمر مرتبط بعدة ظروف واعتبارات، تبدأ من شدة تداخل هذا النتاج الأدبي، وعملية فرزه، وطرق تناوله في المؤسسات الثقافية، إلى جانب النشاطات المتعددة التي يمكن أن يكون ضمنها.
إذًا، الكتابة والأدب كانا وسيبقى لهما الدور المهم في مواكبة سعي وتطور المجتمعات. بل إنهما المرآة والانعكاس المباشر لأي تغيير قد لا يلفت نظر مجالات أخرى، لكنه يستنزف أقلامًا وأصواتًا كثيرة في الحيز الأدبي. هؤلاء يرون أنّ لزامًا عليهم أن يجيّشوا قدراتهم وإمكاناتهم لتدلي بدلوها، فتتأمل وتدرس وتستنبط وتفرز وتقارن.
أما مسألة المهام والقضايا، فقد أُضيفت مضاعفة على كاهلنا نحن الكتّاب الفلسطينيين، فنحن نواجه أشرس مرحلة في صراعنا نحو الحرية والاستقلال وانتزاع حقوقنا. وأعتقد أن الحرب على غزة كانت مرحلة مفصلية بالنسبة إلينا، كأشخاص عاديين أولًا، ثم كمثقفين وكتّاب. كل موقف حيادي، برأيي، في هذه الحرب، كان كرفع الراية البيضاء أمام الاحتلال والاستعمار. وكل كلمة كُتبت خلال الحرب كانت معركة، وانتصرنا فيها.
دائمًا، عندما أُصاب باليأس ويبدأ القنوط بالتسلل إلى داخلي، ليتسرّب ويهبّط من عزيمتي، أتذكّر غسان كنفاني، أراه بين حروف نصي، وسيجارته بفمه، يقرأ النص، تارة يقف عند نقطة مطولًا، وتارة يمحي فاصلة، وتارة يشطب كلمة، ويضيف أخرى، ثم يقول لي بصوته الجهوري: "اكتبوا معشر الحالمين، لا تتوانوا، فالموت المشتهى يستحق أن نبذل من أجله كل الحروف"، فأعود إلى شاشتي وأوراقي خجِلةً، وأكتب.
(*) ماذا بعد؟ هل هناك مشروع روائي جديد تعملين عليه؟ وكيف تتخيلين تطور تجربتكِ الأدبية في المستقبل؟
نعم، أنا في خضم إنهاء كتابة روايتي الرابعة "ليلة في بيت لحم". قد تستغربين أنني، رغم إصدار ثلاث روايات، ما زلت أكتب كهاوية، وأحاول قدر المستطاع أن لا أكتب تحت وطأة الزمن والالتزامات. وربما هذا هو التطوّر الأهم؛ أن نعود للكتابة كل مرة وكأنها المرة الأولى، نعيد فيها إمكانياتنا ولغتنا وأدواتنا ككتّاب إلى سِيَرها الأولى، لكنها تفاجئنا بأنها كبرت ونضجت، وأصبحت أكثر وعيًا، بحكم الممارسة والتجربة.
الكتابة بالنسبة لي عملية انكشاف مستمر؛ في كل عمل جديد لي، أكتشف دواخلي وعالمي، هواجسي، مخاوفي، آمالي، وتمنياتي. أخْلَعها كثوبٍ على شخصياتي وأماكنها وأحداثها، لنتحدّ معًا، ونؤازر بعضنا، لنعبر إلى الضفة الأخرى، لنتجاوز هذا النفق الطويل ونرى النور.
اليوم، الكتابة بالنسبة لي تجاوزت مفهومها التقليدي. أصبح طموحي أن أوظفها لتصل إلى أعلى درجات التماس مع الأفراد والمجتمعات من حولي، جادّةً في نقل تجربتي الفردية، إلى جانب إرثي الإنساني والوجداني كفلسطينية.
وفعلًا، الكتابة تؤدي حتمًا لمزيد من الكتابة، ولذلك أتخيل أنني قد علقت فيها ولن أستطيع فكّ هذا التعلق. لكنني لا أخفيك أن لدي خوفًا كبيرًا من أن لا يكون الشغف هو المحرك الأساسي لقلمي. وهنا يكمن الفرق؛ فالشغف هو إكسير المشاعر والأحاسيس، ومن شأنه أن يُخرِج من الكاتب أقصى مكنوناته ليبدع ويكون مختلفًا ومغايرًا، ويتحدى ذاته في كل عمل جديد.
الخلاصة مما ذكرت أعلاه، هي أنني لا أملك تصورًا واضحًا لملامح تجربتي الأدبية في المستقبل، لعدة اعتبارات، أولها: عدم معرفتي وإلمامي التام، ككل الكتاب، بذلك التفاعل الحسي والوجداني الإنساني مع نصوصي. كنت دائمًا أشبّه الكاتب الذي يتحدث عن تجربته كمن يمشي بين حقل ألغام، يحاول ألّا يتصادم مع الركائز المفصلية بين العوامل العقلية، والوجدانية، والنفسية، والروحية، وغيرها من العوامل التي تؤسس لبناء نص. لذلك، كل شيء منوط بأفق التلقّي لأعمالي، وكيفية تأويل نصوصي. إذ أنني أؤمن أن الكتابة والرواية لم تعد مساحة للنصح والرسائل، بل تجاوزت ذلك. لذا، في كل مرة، أتحدّى نفسي بأفق جديد أطرحه من خلال التدرج في نصوصي، معوّلةً على اللغة والحدث، اللذين آمل أن يبقيا طوع سقوط التفاحة عن شجرة الركود، لكي نَحبكَ نصًا مختلفًا يشكّل فضاءً جديدًا لحوار مختلف.