ليس من السهل اليومَ أن تُقنع كثيرين من أبناء جلدتي الوطنية والعربية أنَّ لويس بلان ليس عدوًّا ثقافيًّا بالضرورة. لغته الفرنسية لا تحمل فكرًا استعماريًّا كما هي الحال اليوم عند "المثقفين التلفزيونيين"، الذين يُوظّفون مقولة كاتب ياسين: "اللغة الفرنسية غنيمة حرب"، بالشكل الذي حاربه طيلة حياته.
لغةٌ يُصِرُّ كثيرون على وصفها بالاستعمارية، حتى ولو دافع صاحبها بها عن أمهاتهم وشقيقاتهم وأشقائهم، كما فعل الراحل جاك فيرجيس الفرنسي بلغته، حينما أنقذ جميلة بوحيرد الجزائرية من الإعدام، قبل أن يتزوّجها مُتيَّمًا بها، على حدّ قوله لكاتب هذه السطور في مكتبه الساحر في قلب حي كليشيه الباريسي قبل ثلاثين عامًا.
في الحديث الذي جمع "ضفّة ثالثة" بالمستعرب لويس بلان، يكتشف القُرّاء رجلًا لم يعتنق الإسلام ــ كما يريد كثيرون الاعتقاد حتى يُؤمنوا بأقواله ومواقفه، لكنه لا يُفكّر بطريقة معظم المثقفين الفرنسيين الذين يُبيحون حرية التعبير حينما يتعلّق الأمر بالروائي بوعلام صنصال، ويمنعونها بشكلٍ صلب ومباشر و"لينٍ ناعم" على قليل من المثقفين الذين يُوصَفون بالمعادين للسامية، بسبب مناهضتهم للتطهير العرقي الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني منذ نحو 80 عامًا، حتى وإن رأوا هجمات "حماس" يوم السابع من أكتوبر إرهابية.
هُنا، حديث لويس بلان، المستعرب، الصاعق، ليس للإسلاموفوبيين فحسب، بل لفرنسيين يتاجرون في المزاد السياساوي العلني بمهاجرين عرب ومسلمين، أشرار ومُتخلّفين، إلى درجةٍ لا تتلاءم مع العيش الغربي المُتحضّر، كما يقول نتنياهو عن الفلسطينيين الذين يُواجهون إبادته لهم على مرأى ومسمع "مثقفين" من أطياف أيديولوجية متضاربة نظريًّا، ومتقاطعة عمليًّا عند تفسيرهم لحقوق الإنسان بعنصرية مقيتة ومُخجلة، وقفنا عندها ونحن نُحاور لويس بلان.
(*) قرأتُ وأنا أعدّ حواري معكم: "كرّس كل مساره المهني للعالم العربي". كيف تمّ ذلك؟ وهل لولادتكم وترعرعكم في مرسيليا (المدينة التي يرى فيها أنصار اليمين المتطرّف العنصري ولاية جزائرية) علاقة بالتخصّص الذي ما زلتم تُشهِرون سيفه في وجه الإسلاموفوبيين الفرنسيين الذين يتحسّسون مسدساتهم عند سماع عناوين كتبكم؟
سؤالٌ منهجيٌّ في محلّه. الأعوام الأولى التي قضيتُها في مرسيليا التي وُلدتُ فيها، كانت فعلًا محدِّدة لمساري الفكري والمهني. في مدينة فرساي، التي أكملتُ فيها دراستي بعد سن التاسعة، اكتشفتُ أنني لستُ فرنسيًّا كفرنسيّي المدينة التي يقع فيها قصر فرساي الشهير، ولا قيمة لي وسطهم، ما دمت أحد القادمين من مدينة مرسيليا. هذه التجربة أكسبتني توجُّهًا مبكّرًا لمحاربة العنصرية، الأمر الذي أرغمني على استعادة أجواء الطفولة التي قضيتُها في مرسيليا تحت شمسٍ مُشرقة.
(*) وكان لك ذلك في الجزائر التي نحطّ بها بعد رحلة طيران تدوم ساعة فقط انطلاقًا من مرسيليا. حظٌّ كبير لمحاربة العنصريين الفرنسيين التي تعاني منهم الجزائر أكثر من أي بلد عربي، كما تُبيِّن ذلك باسم الدفاع عن الكاتب بوعلام صنصال من خلال أنصار اليمين المتطرف، الذي رأى فيك أجنبيًّا في وطنك وأنت تلميذ، كما فهمتُ من ردّكم. أليس كذلك؟
خلافًا لما تُروّجه الأوساط العنصرية التي استقبلتني بروحٍ عدائية في مدينة فرساي، رُحتُ أولد من جديد في الجزائر، التي لم أكن أعرف أنها بلد عربي عام 1974، تاريخ حصولي على شهادة البكالوريا.
في الجزائر، التي عثرتُ فيها على عمل بالصدفة في عزّ الصيف، وتحديدًا في مدرسة تقع في مدينة رويبة الواقعة شرق العاصمة، شعرتُ أنني في بيتي، بعد أن استُقبلتُ في المطار بحفاوةٍ لن أنساها طَوال حياتي.
(*) يا إلهي... إنها المدينة التي نِلتُ فيها شهادة البكالوريا عام 1977، والتي تبعد عن مدينة الجزائر الشاطئ، التي ترعرعتُ فيها، بحوالي عشرين كيلومترًا فقط...
والله... يا لها من سعادة تُعيدني إلى المدينة التي وُلدتُ فيها مجددًا، والتي مكّنتني لاحقًا من تكريس حياتي المهنية والشخصية للتقارب بين فرنسا والعالم العربي. ولعلّ تقاسُم حياتي الزوجية مع سيدة فلسطينية، وتحدُّث أبنائي الأربعة اللغة العربية، دليلٌ على مقاربتي المناهضة لكلّ أشكال العنصرية الاستعمارية.
(*) هل تتفهّمون تدريس لغة شكسبير (اللغة الإنكليزية) في المرحلة الابتدائية في الجزائر اليوم؟ (الأمر الذي رأت فيه معظم الأوساط السياسية والفكرية ردَّ فعل ضد فرنسا). وربما وحدهم أنصار حزب "فرنسا الأبيّة" لم يُبدوا امتعاضًا ما، في سياق معارضتهم شبه الشاملة لتوجّه التيارات الفرنسية المسيطرة، وعلى رأسها تيار اليمين المتطرف، الذي يرى في اللغة العربية تهديدًا للهوية الفرنسية. ما تعليقكم؟
التحدث بلغتين، أو بثلاث لغات، أصبح أمرًا عاديًّا في عالم اليوم. وأنا شخصيًّا كنتُ أتحدّث مع أبنائي منذ الصغر باللغة الفرنسية، في الوقت الذي كانت تتحدّث فيه زوجتي الفلسطينية معهم باللغة العربية. عالم اليوم يقتضي تجاوز المقاربة العاطفية للمسألة اللغوية، واللغة الفرنسية تدخل في مجال التعددية اللغوية المطلوبة، وهي "غنيمة حرب" على حدّ تعبير كاتب ياسين.
من منطلق فائدة التعددية اللغوية معرفيًّا وإنسانيًّا، أضيف أنه من المُحزن جدًا أن لا يتحدث معظم الفرنسيين المنحدرين من أصل جزائري اللغة العربية. هذا الأمر يُساهم في تكريس الفقر المعرفي بشكل تراجيدي، واللغة العربية لغة مستقبل في الجزائر، وفي غيرها من البلدان.
(*) لماذا ذهبتم إلى سورية بعد الجزائر؟
اخترتُ سورية لتحسين لغتي العربية إثر حصولي على شهادة الليسانس في باريس. سورية تمثّل بالنسبة لي قلب الثقافة العربية.
(*) خلافًا لدبلوماسيين وباحثين آخرين قضوا سنواتٍ مثلكم متنقلين بين دول عربية عدة (الجزائر، مصر، السعودية، سورية)، لم تكن الكتابة شغفًا وجوديًّا في حياتهم كما تبين لي وأنا أقرأ سيرتكم وكتبكم الأخيرة، من بينها: "فيكتور هيغو والإسلام"، و"لامارتين مُمرِّر الإسلام". كيف تمّ ذلك؟ ولماذا تحوّلتم من الكتابة عن الاقتصاد والسياسة إلى الكتابة عن الثقافة، علمًا أن التواصل بين فرنسا والعالم العربي والإسلامي ضعيف رغم كل الأهمية التي تكتسيها لتذليل الأفكار المسبقة الناتجة عن تداعيات استشراق استعماري، حاولتم فضح عنصريته كما فعل الراحل أندريه ميكيل، وقبله الراحل الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الاستشراق"؟
بعد تدريسي في الجزائر وسورية، أشرفتُ على رئاسة تحرير مجلة "البترول والغاز العربي" في باريس، قبل تنقّلي إلى مصر للعمل كباحث، تجسيدًا لحلمٍ طالما راودني. عملتُ، إثر التجارب المذكورة، دبلوماسيًّا لثلاثة عقود في بلدان عربية وفي "الكي دورسيه" (مقر وزارة الخارجية) كخبير فيها. بالموازاةً مع ذلك، بذلتُ جهدًا كبيرًا للاستمرار في نشر كتبي، وأنا اليوم في صدد تأليف كتابي الثالث عشر عن العرب والإسلام. وكما تعلم، لا نستطيع أن نكتب من دون شغف القراءة والبحث، كما أشرتم في سؤالكم.
ردًّا عن الشق الثاني من سؤالكم، يمكنني الجزم من دون تردّد أنني تحولتُ إلى الكتابة عن الثقافة بعد اقتناعي بفشل الكتابة عن الاقتصاد والسياسة بغرض التقريب بين فرنسا والعالم العربي، بحكم نزوعي المبكّر نحو ذلك، كما قلت لكم ردًّا على أسئلتكم الأولى المتعلّقة بتأثير التربية على توجّهي الفكري.
اليوم، أعتقد أن هذا التقارب يجب أن يتمّ عبر الثقافة، لأن الثقافتين الفرنسية والعربية الإسلامية يشكّلان وجهين لعملة واحدة، رغم أن كثيرين لا يريدون معرفة ذلك.
(*) الترجمةُ كوسيلةٍ أكّد التاريخُ نجاعتها لتحقيقِ التقاربِ الثقافيِّ الإنسانيِّ، وغيرِ المُلغي للآخرِ المُختلف، لم تَتِمَّ بالقدرِ الكافي مع كتبِكم الهامّة. فما هو تعليقُكم؟
تُرجمت ثلاثةِ كتبٍ لي إلى العربية: "العالم العربي في ألبومات تان تان"، وواحدٌ من كتبي عن جدّة، و"فيكتور هيغو والإسلام". واختياري لمواضيعَ لم تُطرَقْ من قبلُ ليس أمرًا سهلًا. أكيدٌ، لا كتابةَ حقيقيةً وصادقةً من دون شغف، لكنّ الشغفَ لا يكفي. وأنا أكتبُ بهدفِ التقريبِ بين ضفّتَي المتوسّط، ولأنّ المهمّةَ صعبة، يمكنني الاعترافُ بأنّني فشلتُ تمامًا.
(*) رغم أهميةِ كتبِكم، وخاصةً الأخيرةِ التي صُدِّرَتْ في فرنسا، يجهلُ معظمُ مثقّفيها وعامّةُ ناسِها أنّ هيغو ولامارتين ــ وخاصةً الثاني ــ قد أبدعا شعريًّا متأثّرين بالإسلام، بعدما كانا من الضالّين الكُثر الذين يزدادون ضراوةً في زمنٍ فرنسيٍّ تطغى فيه عداوةٌ ممنهجةٌ ومبرمجةٌ بالشكلِ الذي يجعلُ من الإسلام شمّاعةً يُعلّقُ عليها الإرهابُ من دونَ الأديانِ الأخرى؟
كلامُكم يُؤكّد ما قلتُه. وحينما أُقارنُ أملي المجنونَ الذي راودني أيّامَ شبابي في أخوّةٍ فرنسيةٍ جزائرية، بسوءِ الفهمِ الحاليّ الذي راحَ ضحيّتَه الجزائريّون والفلسطينيّون، لا أتردّدُ في القولِ إنّ بلدي يفرضُ عليّ اليأسَ عُنوةً. رغم الإحباط، أحتفظُ بالأملِ في مستقبلٍ أفضل، لأنّ الثقافةَ الفرنسيةَ صاحبةُ جذورٍ عربيّةٍ عميقة. ورغم أنّه من الخطأِ تعميمُ قولي، أعتقدُ أنّ العربَ غيرُ واثقين بالقدرِ الكافي في ثقافتِهم لإعطائِها المكانةَ التي تستحقّها، الأمرُ الذي يبعثُ على الأسف. يُقالُ عادةً إنّ ذلك يعودُ إلى نقصِ الحريّة، وهذا صحيحٌ جزئيًّا، والعكسُ صحيحٌ أيضًا، وثقافةٌ عربيةٌ قويّة من شأنها ضمانُ التحريرِ السياسيِّ والاجتماعيِّ والدينيّ.
(*) هل تقبلُ قولي بأنّك خرجتَ من مِعطفِ الراحلِ أندريه ميكيل، الذي ماتَ مجهولًا لدى عامّةِ الفرنسيّين، وحتى كثيرِ من خاصّتِهم النخبويّين؟ وقراءتي لكتابَيك الأخيرين "فيكتور هيغو والإسلام"، و"لامارتين ممرّر الإسلام"، اللذين صُدِّرا عن دار "إريك بونييه"، تُؤكّدُ ذلك؟
عنونتُ كتابي الأخير "لامارتين ممرّر الإسلام" لأؤكّد أنّ هذا الكاتبَ الكبيرَ استطاع أن ينقلَ إعجابَه بهذا الدِّينِ بشكلٍ بقيَ راسخًا بعد رحيله، والشيءُ نفسه قام به أندريه ميكيل، الذي يُعدُّ نموذجًا جديرًا بالاحتذاءِ، مثلُه مثل لامارتين.
|
سلام الكواكبي (الأول من اليسار) يقدم لويس بلان قبل إلقاء محاضرته عن كتابه "لامارتين ممرر الإسلام" في فرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس |
(*) ميكيل رحلَ مؤمنًا بعظمةِ الحضارةِ العربيّةِ والإسلاميّة، لكنه بقيَ وفيًّا لثالوثِ الكاثوليكيةِ الدوغماطيقيةِ، كما لاحظتُ ذلك وأنا أُحاورُه قبلَ نشرِ كتابٍ عنه. لامارتين طعن فيها عام 1832 في قصيدة "الصحراء أو لا ماديّة الله" (ص 32 من كتابكم). ونقرأ في الصفحة 33: "عيسى بعينيه ويديه وذراعيه لا يمكن أن يكون الله، وبالتالي ليس هو المسيح، ولو كان الإنسانُ يراه لما كان اللهُ إلهًا". فيكتور هيغو عالجَ الأمر عام 1854 في قصيدة "كل الماضي وكل المستقبل". ما تعليقُكم؟
لامارتين أثبتَ في حياتِه وكتاباتِه أنّ المسيحيّةَ والإسلامَ غيرُ متناقضَين جوهريًّا، وهما يُمثّلان طريقَين نحو الإله نفسه. الدوغماطيقيّةُ شيءٌ آخر، لكنّ الإيمانَ شيءٌ واحدٌ في الحالتين. ولهذا السبب أطلقتُ عليه وصفَ "الكاثوليكيّ المسلم". في هذا السياق، ألفتُ الانتباهَ إلى ــ خلافًا لما يُروَّج ظاهرًا ــ أنّ الإسلاموفوبيا الغربيّة ليست مشكلةً دينيّة، ومن دون احترامِ غَيْرِيّةِ الآخر، يبقى الغربُ أسيرَ أزمةِ هُويّةٍ عميقة. رفضُ الآخر، شرقيًّا كان أم مسلمًا، يعني التنكّرَ لأحدِ مكوّناتِ هويّتِه الشخصيّة. انطلاقًا مما قلتُ، لا أُرى في ما تُسمّى في فرنسا بـ"المسألة الإسلاميّة" مشكلةَ مسلمين، بل هي تعبيرٌ واضحٌ عن أزمةِ هويّةٍ عند غيرِ المسلمين.
(*) كلامُكم هذا حجة ضدُّ أغلبيّةِ المثقّفين الفرنسيّين الإعلاميّين الذين رأوا أن "المسألة الإسلاميّة" خطر على الهويّةِ المسيحيّة وعلى العلمانيّة في الوقتِ نفسه... هل من إضافاتٍ تزيدُ من رفضِهم لتحليلِكم الذي يُقِضُّ مضاجعَهم؟
أُضيفُ أنّ ما تُسمّى بالمسألة الإسلاميّة ما هي إلّا كنايةٌ عن الإسلاموفوبيا، وقبولُها هو الحلُّ الذي يُؤكّد أنّ المُكوِّنَ العربيَّ والإسلاميَّ جزءٌ من الهويّةِ الفرنسيّة. تأكيدًا لصحّةِ ما قلتم عن ادّعاءِ تهديدِ المسألةِ الإسلاميّة للعلمانيّةِ أيضًا، أقولُ ــ ما دمتُم تُلحّون على التوضيح ــ إنّ معظمَ الإسلاموفوبيّين الفرنسيّين ثاروا على المسيحيّة، الأمرُ الذي يُثبِتُ أنّ إسلاموفوبيّتَهم عِرقيّةُ الخلفيّةِ والمرمى، وليست دينيّة.
(*) إنّها إسلاموفوبيا غارقةٌ في الأيديولوجيا العنصريّة...
هذا ما يُؤكّد أنّ العنصريّةَ ضدَّ العربِ والمسلمين في الغربِ تُترجِمُ البحثَ عن كبشِ فداءٍ لتفسيرِ مشكلاتٍ وقضايا لم يكونوا سببًا في بروزِها. الفلسطينيّون هم الضحايا الأوائل اليوم لهذه النزعةِ العنصريّة.
(*) قالَ فلوبير: "أنا السيّدة بوفاري"، متحدثًا عن الطابعِ الشخصيِّ لروايته الشهيرة. إلى أيّ حدٍّ أستطيعُ القولَ على لسانِكم: "أنا لامارتين"؟
أنا ابنُ وسطٍ كاثوليكيٍّ تقليديٍّ ومغلقٍ مثل لامارتين، ومناهضٍ للعربِ وللإسلام، لكنّني مولعٌ بالثقافةِ التي سمحتْ لي باكتشافِ العالمِ العربيِّ والإسلاميِّ بالشكلِ الذي أعادَ توجيهَ حياتي نحو حضارتِه. مثل لامارتين، وظّفتُ الدبلوماسيّةَ للتقريبِ بين الشعوبِ من خلال الثقافة، أمام عجزِ السياسةِ عن القيامِ بذلك. الإطراءُ الذي لا أستحقّه، كما جاء في سؤالِكم، هو نتيجةُ معايشتي لمساراتٍ تُشبه مساراتِ لامارتين.
(*) قرأتُ قولَ لامارتين في كتابِكم البديع، الذي لم يهمَّ إعلامَ اليمينِ المتطرّف، الذي روّجَ لكتبِ بوعلام صنصال في مهرجانِ باريس للكتاب: "لا أُصلّي مثلَك، لكن أُصلّي معك، السيّد المشترك". أنا إنسانٌ قبل أن أكون فرنسيًّا. كلامٌ مؤثّر. تعليقُكم من فضلكم؟
أن أُشبهَ لامارتين كما جاءَ في مقارنتِكم ومقاربتِكم لي فكريًّا، يعني أنّ مصائرَ فرنسا والعالم العربيّ تبقى متشابكةً ومتداخلةً شئنا أم أبينا. صراعاتُنا المأساويّةُ وغيرُ الطبيعيّة لا يمكن أن تقفَ في وجهِ تطوّرِ التضامنِ رغم الداءِ والأعداءِ.
(*) لو كان حيًّا اليومَ لامارتين، لَدافعَ عن الفلسطينيّين الذين يُضطهدون على المباشر على مَرأى عالمٍ غربيٍّ عاشَ مأساةَ اضطهادِ اليهود، وهم اليهودُ الذين يتحدّثُ نتنياهو باسمِهم حضاريًّا، كما يتحدّثُ إسلاموفوبيّو الغرب، بوجهٍ عام، وفرنسا بشكلٍ خاص. ما رأيُكم؟ وألا تخشَون وصفَكم بالمعادي للساميّة، كما حدثَ ويحدثُ لكلِّ من ينتقدُ إسرائيل كاستعمارٍ استيطانيٍّ عنصريٍّ، يُحيلُنا على الاستعمارِ الفرنسيّ في الجزائر التي ذكرتم أنّكم تشعرون أنكم في بيتِكم فيها؟
قولُ لامارتين: "أنا من لون الذين يُضطهدون"، يعني تكريمَه للفلسطينيّين الذين سمحوا له باكتشافِ جمالِ الإسلام والثقافةِ العربيّة أثناء سفرِه إلى الشرق قبلَ قرنين (كتابه الشهير "السفر إلى الشرق"). لو كان حيًّا اليوم، لقالَ لامارتين "أنا فلسطيني"، ولَدافعَ كنائبٍ اليوم كما كان عن الجزائريّين. موقفٌ يُعرّضُه اليومَ حتمًا لمتاعبَ جمّة، كما حدث له قبل قرنين بعد نشرِه السيرةَ الذاتيّةَ للرسولِ بشكلٍ يعكس عظمتَه.
(*) هل اهتمَّ بكتبِك إعلامُ إمبراطوريّة فانسان بلوريه، الذي يُروّجُ للإسلاموفوبيا كما تحدّثتم عنها، وبكتابَيك "فيكتور هيغو والإسلام" و"لامارتين ممرَّر الإسلام" الصادرَين السنة الماضية، وهذه السنة؟
هذا الإعلامُ لا يمكنه أن يهتمَّ بكتبِي، المرادفةِ لمقاربةٍ تشوبُها "الشبهةُ الجاهزة"، وخلافًا لما تُمثّله وسائله الإعلاميّة المُسيطرة، فإنّ فرنسا بلدُ تنوّعٍ ثقافيٍّ وعرقيٍّ ولغويٍّ ودينيٍّ، في إطارِ وحدةٍ إنسانيّةٍ جسّدها لامارتين بطريقةٍ لا تُضاهى. الإسلاموفوبيا هي التي تقفُ في وجهِ كتبي، وهي ليست مدانةً إنسانيًّا وأخلاقيًّا فقط، بل هي ضدّ فرنسا نفسِها.
(*) كيف استطعتَ تخطّي مانعِ الإسلاموفوبيا التي تُحاربُها بكتبٍ بديعةٍ تُواجه صعوبةً كبيرة ــ إن لم نقل استحالة ــ للوصولِ إلى جمهورٍ فرنسيٍّ واسع؟
وجدتُ جمهورًا فرنسيًّا رائعًا منحدرًا من الهجرة، التي تبقى حظًّا كبيرًا لبلدِنا، خلافًا لما يدّعيه الإسلاموفوبيّون. لقد اكتشفوا أنّ ألكسندر دوما كان في صفّهم، هو الآخر، مثلُه مثلُ هيغو ولامارتين. وفي إمكانِهم ــ أقصد المهاجرين العرب والمسلمين ــ الافتخارُ والثقةُ بأنفسِهم أكثر في المستقبل. في الأخير، لا يفوتني أن أكرّمَ الناشرَ إريك بونييه، الذي غامرَ بنشرِ كتبِي المضادّةِ للتوجّهِ الثقافيِّ العام. جمهورُ كتبي ليس جمهورًا غنيًّا، وبذلَ جهدًا كبيرًا لاقتنائِها، وهي الكتبُ التي تعترفُ بوجودِهم في بلدِهم الذي يلفظُهم. لقد تلقيتُ شهاداتٍ مؤثّرةً من هذا الجمهورِ النوعيّ، الذي يدفعُ إلى التفاؤل. الشكرُ موصولٌ لكم شخصيًّا، ولمسؤولي موقع "ضفّة ثالثة"، الذي سمحَ لي بالتعبيرِ عن مواقفَ يرفضُها الإعلامُ المُسيطر، كما أشرتم إلى ذلك كمطّلعٍ منتظمٍ على ظاهرِه وباطنه.
هامش:
(*) لويس بلان من مواليد عام 1957 في مرسيليا جنوب فرنسا، وهو متزوج من فلسطينية، وأب لأربعة أطفال يتحدثون اللغة العربية. ديبلوماسي وكاتب متخصص في العالم العربي. من كتبه السابقة لصدور كتابيه: "فيكتور هيغو والإسلام" و"لامارتين ممرّر الإسلام"، "الجزائر من الصحراء إلى الساحل... الطريق العابر للصحراء" (1990)، و"الجزائر: 200 رجل سلطة" بالتعاون مع نور الدين عبدي، ورمضان رجالة، وبنيامين سطورا (1991)، و"اقتصاد السلام في الشرق الأوسط" (1993)، و"البترول في الخليج... حرب وسلام في الشرق الأوسط" (1986)، و"الإسكندرية والمتوسط... بين التاريخ والذاكرة" (2006)، و"العربية السعودية... من الذهب الأسود إلى البحر الأحمر" (2021)، و"اكتشاف الجزيرة العربية من طرف الفرنسيين" (2019).