الفنّ هو فعل مقاومة، ليس فقط ضد الحزن واليأس والحرب، بل أيضًا ضد الموت. وكم من الموسيقيين العالميين والفنانين ما زالوا على قيد الحياة بأنغامهم وألحانهم وهم غادرونا بالجسد منذ سنوات وسنوات. والحديث هنا ليس عن الغرب والمؤلفين الموسيقيين المبدعين، إنما عن شرقنا الذي يقاوم بالفنّ. عن كوكب حلقت فوق الكواكب وبقيت على الرغم من غيابها الجسدي تتصدى للزمن. نسلطُ الضوء في هذا الحوار عن كيفية تصدي أمّ كلثوم للزمن في دراسة فلسفية لصوتها ولعدد من أغانيها، مع الذكرى الخمسين لغيابها. كيف بقيت أمّ كلثوم عصية على الموت والنسيان. فهل في الأمر سرّ فلسفي؟ وكيف نقرأ موهبتها؟
هنا حديث مع الأستاذة الأكاديمية مارلين يونس -الحائزة على دكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانية ودبلومًا في الموسيقى من الكونسرفتوار الوطني وماجستير في علم الآثار- بهدف الغوص في سرّ الفنّ الكلثومي، وعلاقته بالفلسفة وخصوصًا بالميتافيزيقيا لنكتشف سرّ هذا الإبداع، المتناقل جيلًا بعد جيل، والموضوع خارج التصنيفات والتحديدات.
(*) كيف لقارئ يعشق الموسيقى والنغم أن يؤسّس لقراءة فلسفية للفنّ بشكل عام؟ ومن استدعى من في العلاقة بين الفلسفة والفنّ؟
الفلسفة هي مسلك وجودي معيشي تقبض على مغالق الوجود، والوجود قائم على معادلات رياضية تآلفية وطالما أن الموسيقى هي حركة فما النغم سوى انسياب لهذه الحركة في قالب جمالي يتطلب لفتة الانتباه الفلسفي أي التأمل العميق والتساؤل عن الذي يمثل أرفع شكل من أشكال المعنى الوجودي الكوني أو أعلى إمكانات التعبير البشري والتأمل العقلي البعيد لما يكمن وراء الحدّ المتناهي. وبرأيي الفنّ هو تأسيس للفلسفة.
(*) هل العظمة التي واكبت صوت أم كلثوم هي في الموسيقى أم في الشعر؟ أم في الاثنين معًا؟ وبالتالي ما الذي يجمع بين الفلسفة والنغم في أغنياتها؟
من المعلوم أن الشعر هو محفز الإبداع ذلك أن مهمة الشاعر الافتتان والسحر. والموسيقى نغمة مفتوحة للجدل والتأويلات وهي شكل من أشكال الرمزية نشعر بها أو نتصورها كنوع من الكتابة العميقة تترجم سيرورة الحياة، وأبلغ ما فيها أنها تأملٌ في تدبير فكرة الموت أو حتى لإلغاء فكرة الزمن، ما نود الإشارة إليه أننا من خلال النغم نبحث عن مفاهيم فلسفية، نبحث عن الإنسان والحبّ والإرادة والسرّ والزمن والأمل والشجن. وهذه المفاهيم غنتها أم كلثوم بوصفها شكلًا من أشكال الحياة، وهذا ما نسميه بعملية وضع الأقوال في توافق مع الأفعال. غناؤها لم يكن مرافقًا أو مسايرًا للّحن، بل لتجسيد واقع الحياة، فالنَفْس على حدّ قول الفيلسوف اليوناني فيتاغوراس هي نوع من النغم، والنغم هو لعبة توافق الأضداد وتناسبها، والحياة تدوم بإدامة هذا النغم. المهم في الاجابة على سؤالك، أن خيال أم كلثوم ينسل في الشّعر ليشكل صنيعه الفني أو منجزه الإبداعي، وبتفعيل إحساسها نراها تودع الرؤى والمشاعر في أبعاد صوتها القادر، ولا ننسى فطنتها والذائقة الفنية المفطورة عليها وذاكرتها وقوة حضورها بالإضافة إلى العديد من المقومات التي تتمتع بها كوكب الشرق.
(*) أعددتِ بحثًا تناولتِ فيه الميتافيزيقيا في أغاني كوكب الشرق: "حديث الروح"، "شمس الأصيل" و"رباعيات الخيام"، هل تشرحين للقارئ ما المقصود بالميتافريقيا والعلاقة التي تربطها بالأغاني المذكورة؟
الميتافيزيقيا تعني كل ما يتخطى الحواس أو المعرفة الوضعية المؤثرة للوجود أو المعرفة من خلال أدوات الحواس. فالميتافيزيقيا هي هذا البعد الماورائي الذي يبحث في جوهر الجواهر، وفي الأبعاد الوجودية الكبرى والأسرار المهمة في الكون مثل سرّ الحياة أو الإرادة أو الحبّ... المميّز في أغاني أم كلثوم وعلى سبيل المثال أغنية "حديث الروح"(1) للشاعر والمفكر الهندي محمد إقبال، أنّ ملحنها رياض السنباطي، كان أمينًا على نقل هذه المناجاة الروحية التي تتضمن الشكوى والأنين من تراجع الإيمان والبحث عن المعنى. ولا شك، في مقام راحة الأرواح، أبدع السنباطي في سكب هذه المسحة الصوفية من أول الأغنية إلى نهايتها في جوّ من الروحانية والخشوع تتضمنه الحوارات التي كانت قائمة بين آلة العود والفرقة الموسيقية.
وفي أغنية "شمس الأصيل" (2) وهي من كلمات الشاعر بيرم التونسي وألحان السنباطي، أبدعت أمّ كلثوم في إيصال المستمع إلى الفلسفة التجاوزية التي تتضمن أناة الحنين المتأصل فينا كبشر.
أمّا بالنسبة إلى أغنية "رباعيات الخيام" (3)، التي ترجمها من الفارسية عن عمر الخيام بتصرف الشاعر أحمد رامي ومن ألحان السنباطي أيضًا، فتنعكس الفلسفة في مفارقة الصور الشعرية وتأبيد للقوة الحاضرة حيث نرى هذا المطلب الوجودي كنداء الفيلسوف لعالم الأسرار. نرى إيجاز للأمنيات المؤقتة، وفعل اعتراف وطلب غفران وهذه فلسفات موجودة في الأغنية، وتجعلنا نشتق وجودنا من القدرة على احتمال الزمان كفنّ أصيل للاهتمام بأنفسنا. تطرح الفلسفة في هذه القصيدة دخول المستقبل إلى فلسفة الحياة. ولا شك أنّ أمّ كلثوم أبدعت في سكب نغم "الحاضر- الماضي" و"الحاضر- الحاضر" و"الحاضر- المستقبل" كأنها تتلاقى مع فلاسفة في فلسفة علائقية الذات بجدلية الزمان. والزمان يعبّر عن نفسه في هذه الأغنية في مواجيد وانفعالات مختلفة.
من تدبيرات فنّ أمّ كلثوم هي تلك الحبكة القائمة حول كيفية إيصال الأفكار وتجسيدها بالأحاسيس. إنّ القوة الخفية الكامنة في صوت أم كلثوم هي ضرب من الميتافيزيقيا، ترتبط فيها بسمة الميلانخوليا الفلسفية الجمالية والتي تعني الخوف من مرور الزمن ومن الشعور بالعجز. هذا القلق أصاب الفلاسفة والعمالقة كأم كلثوم، وبالتالي جعل معظمهم يشعر بالضيق الوجودي، وبالتالي حاربوه بالتحفيز على الابداع.
(*) في ندوة لك في أنطلياس، قلتِ: "أنّ أم كلثوم بغنائها لم تفعل سوى ردّ الدين لسرّ الألوهية"، ما السرّ الفلسفي أو الإلهي إذا جاز التعبير لاستمرارية إشعاع أم كلثوم على الرغم من مرور 50 سنة على وفاتها، وعلى الرغم من أفول الحقبة التي عاشت فيها وأغانيها بقيت عصية على الموت والنسيان؟
الإنسان هو كائن مفكر وأيضًا الإنسان هو كائن مديون Homme endetté، وقد سبق وقلنا أنّ الكلمة تأخذ شكل وصورة مغناة. كفلاسفة نقول: "أن الله يخلي المشيئة للإنسان" أي إخلاء المشيئة الإلهية لدور الإبداع. يأتي دور أم كلثوم الوجودي من خلال غنائها، أي من خلال الوديعة المؤتمنة عليها ألا وهي الموهبة عبر تفعيلها وإشراقها لتكشف عن سرّ الألوهية. كأن الله هنا أخلى لأم كلثوم المشيئة لإثمار وتثمير هذه الإشراقة الجمالية، وهي كانت أمينة على هذا السرّ. وبالتالي أصبحت أم كلثوم معطى كونيا متفلتا من كلّ أشكال التعريفات والتحديدات لذلك ستبقى عصية على النسيان وأغانيها عصية على الموت.
في الحقيقة، عندما نستمع إلى أمّ كلثوم، ينتابنا الذهول من الحبكة الفنيّة المسكوبة في صوتها، فبصوتها تترجم الحركات التصورية الوجودية للإرادة واللحظة والحبّ والنوستالجيا. ومعها توثق تجليّات الجمال وبذلك تهدئ من روع الخائفين والمتألمين. فالاستثمار الفلسفي في هذه المفاهيم هو رهان أساسي ضد الإحباط.
أمّ كلثوم جسّدت وضعيات العقل البشري ومراحله الثلاث الذي تحدث عنها الفيلسوف أوغست كونت. ولا يمكن التعريف عن صوت أمّ كلثوم بالطريقة التقليدية، فهو الترحل نحو خرائط وخطوط متفلتة من كل أشكال الهيمنة على الفضاءات وعلى اعتقال الحياة.
إحالات:
(1) مطلع أغنية "حديث الروح":
"حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح وشقّ أنينه صدر الفضاء
ومعدنه ترابي ولكن جرت في لفظه لغة السماء
لقد فاضت دموع العشق مني حديثًا كان علويًا ندائي
فحلق في ربى الأفلاك حتى أهاج العالم الأعلى بكائي".
(2) مطلع أغنية "شمس الأصيل"
"شمس الأصيل دهبت
خوص النخيل يا نيل
تحفة ومتصورة
في صفحتك يا جميل
والناي على الشط غنى
والقدود بتميل
على هبوب الهوا
لما يمر عليل".
(3) مطلع أغنية "رباعيات الخيام"
"سمعتُ صوتًا هاتفًا في السحر
نادى من الغيب غُفاة البشر
هبوا املأوا كأس المنى
قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُّ القدر".