}

فرانسوا بورغا: إسرائيل تريد الأرض فقط وليس السلام (2-2)

بوعلام رمضاني 2 يونيو 2025
حوارات فرانسوا بورغا: إسرائيل تريد الأرض فقط وليس السلام (2-2)
فرانسوا بورغا

لم يكن ربطُنا بين ما يحدث في فرنسا من مطاردة للإخوان المسلمين (أنظر الحلقة الأولى من هذا الحوار) إثر صدور تقرير حكومي يفيد بـ"تهديدهم التماسك الاجتماعي والسياسي"، وبين إبادة غزة بذريعة محاربة الإسلاميين الإرهابيين، أمرًا اعتباطيًّا. مقاربتنا لحوارٍ مُطوّلٍ وعميقٍ كشفت عن العلاقة الجدلية بين قبضتين تصُبّان في مرمى هدف واحد. القارئ المُتمعّن للحلقة الثانية من حديثنا مع المفكر السياسي فرانسوا بورغا، بعد قراءته الحلقة الأولى، لن يتهمنا بالهذيان، في تقديرنا المتواضع.
بالمناسبة، ولمن لم يُتابع المستجدات، فإنَّ الحكم النهائي في قضية بورغا صدر يوم الأربعاء (28 أيار/ مايو)، وجاءت النتيجة كما ينبغي أن تكون في بلد جعلَ منها شعارًا تاريخيًا: تبرئة كاملة من تهمة تمجيد الإرهاب. بورغا لم ينتصر وحيدًا؛ بل انتصرت معه الكلمة الحرّة على محاولة تحويل القضاء إلى أداة تخويف وترهيب. كما انتصرت "ضفة ثالثة" التي آمنت منذ البداية بحقه في التعبير، في وجه من حاولوا إسكات كل صوت خارج سرب الصهيونية المنتشرة عالميًا عبر وكلاء يتقاسمون روحها الاستعمارية والعنصرية.



(*) نبدأُ، إذا سمحت، بجديد مطاردة فرنسا للإخوان المسلمين الذين قلتَ عنهم في الحلقة الأولى: "الغربُ يُخطئ حينما يُناهضهم بهدف محاربة الإرهاب". في التقرير الذي أعلن عنه الإعلام الفرنسي يوم الثلاثاء (20 من الشهر الماضي)، أكدت وزارة الداخلية التي يديرها برونو روتايو، الذي أصبح مؤخرًا قائد حزب الجمهوريين بعد فوزه الساحق ضد منافسه لوران فوكيييه، أنهم في صدد اختراق المؤسسات الفرنسية. ما تعليقك؟
إنها خديعة "ماكرونية" جديدة في مجال الاتصال، جاءت في قلب سياق طقوس العربدة الإجرامية في غزة، عربدة كشفت، بشكل غير مسبوق، عن تأثيرِ الدعاية الإسرائيلية على أجهزة الدولة الفرنسية، وعلى المؤسسات الأوروبية. التجرؤ على القول بأن الإخوان المسلمين يسعون لتطبيقِ الشريعة الإسلامية في فرنسا ما هو إلا محضُ كذبٍ من دون خجل، في تقريرٍ أُريدَ له أن يصدر عن وزارة الداخلية في قالبٍ صادم. يا له من أمرٍ مثيرٍ للغثيان.

(*) ردُّك يكشف عن هوية مُطارديك، والذين يرونك مُناضلًا إسلاميًّا، رغم أنك أكدت لي في الحلقة الأولى أنك مفكر سياسي فرنسي، إنسانيُّ النزعة، غير مسلم، تنطلق من أبسطِ قواعد التحليل الأكاديمي، وتستند إلى وقائع وأدلة علمية قائمة، وتحتكِمُ إلى القانون. وأكّدت أيضًا أنك لستَ الوحيد من المُثقفين الذينَ يرفضون شيطنة الإخوان المسلمين في خلطٍ منهجي وبحثي يربطهم بالإرهاب. وقلت: "كُثر هم الكُتّاب الذين يؤكدون صحة طروحاتي في البلدان الأنغلوساكسونية". الأخطر اليوم، في تقديري، يكمن في صعوبة، بل استحالة، قبولِ طرحِك في سياقِ عزم إسرائيل على تصفية إخوان حركة حماس. ما ردك؟
كنتُ واضحًا في الحلقة الأولى، لكن أعيد وأكرر، وشكرًا لك على منحي فرصة جديدة لتوضيح الأمرِ لقُراءٍ عرب لم تصلهم ربما أصداء مواقفي وكتاباتي. المسألة تتعلَّقُ بالفكرِ في مجال العلوم السياسية، وهو فكر قائم على التحليل العقلاني، وليس على ردود الفعل العاطفية والمناورات والمصالح السياسوية الضيقة، كما يفعل اليوم نتنياهو في غزة، مُضحيًا بأمنِ شعبه، ومرتكبًا إبادة أصبحت مثار رفض عدد من قادة أوروبيين.




تحليلي يقُضّ مَضاجع الذين يجدون في شيطنة الإسلاميين، في كل الحالات، مُبَرَّرًا لتمرير أجندات اتصال سياسوي، تتقاطع من خلالها مصالح مشتركة تجمع قوى حكومية غربية وعربية تسلطية بإسرائيل.

(*) هل يُزعجك الأمر إذا قارنتُك بالمفكر طارق رمضان، الذي ما زال ملاحقًا إعلاميًّا وسياسيًّا، كأحدِ أحفاد حسن البنا ـ في تصوري المتواضع ـ وليس ككاتب ومُثقف بارز ومُتمكن تلقَّى دعمَ كثيرٍ من المثقفين اليساريين الفرنسيين قبل محاكمته في شبهة الاعتداء الجنسي؟ وهل تتفِقُ معي بالقول إن المقارنة تفرضها اتهامات الخطاب المزدوج، التي يمكن أن تنطبقَ عليك في نظر أعدائكم المشتركين، بشكل أو بآخر، رغم تباعدكم الفكري المبدئي؟
كانت لي فرصة الاستماع إلى طارق رمضان أمام جمهور مُتنوع التوجهات والحساسيات الفكرية، في فرنسا، ومصر، والنيجر. في كل مرة، كان منسجمًا مع نفسه، وواضحًا في الزمان والمكان. تهمة "الخطاب المزدوج" طبخة نقاشات سياسية قديمة، يلجأ إليها الفاقدون لقوة الحجة، بخلفية رهانات معروفة.
محاربة الإسلاميين دينيًّا ليست مثل التعامل مع اليهود التوراتيين الذين يُبررون إبادة غزة بمُباركة غربية شبه شاملة. والحديث عن الإسلاموفوبيا يعني، في نظر معتنقي الخطاب الفرنسي الطاغي اليوم، منعَ نقد التطرف الإسلامي. علمانيون كُثر يزُكون هذا الطرح، وهم العلمانيون الذين قال لي عنهم المستعرب لوييه بلان، في حديث سابق: "إنهم يختفون وراء العلمانية للتغطية على عنصرية تستهدف المُسلمين باسم معاداة الإسلاميين".

(*) إلى أي حد يمكن القول إنَّ الأمر يُعدُّ خصوصية ثقافية فرنسية يكيل أصحابها بمكيالين في الزمن الصهيوني المسيطر؟
فعلاً، هنالك خصوصية فرنسية مرتبطة بتاريخها الثوري. للأسف الشديد، فإن السعي الشرعي لثوار عام 1789 لحماية العلمانية من تأثير الكنيسة، الحليفة التاريخية للحكم الملكي المطلق، لم يعد كذلك اليوم. لقد تمّ تحويل مجرى هذا السعي نحو موقفٍ يعادي الدين بوجه عام. وفي واقع الأمر، لا يُعد هذا الموقف إلا تعبيرًا عن إسلاموفوبيا موصوفة. وتتجلى هذه الحقيقة بشكل صارخ حينما يفقد التنديد بالدين معناه، استنادًا لازدواجية معايير أصبحت مكشوفة لعامة وخاصة الناس.
هذه الازدواجية الانتقائية غائبة عن ساحة النقاش، خاصةً إزاء دولة إسرائيل: "شعب الأنوار يُحارب شعب الظُّلمات"، من غير اليهود. الخطاب العلماني الفرنسي يدور أساسًا في فلك منع ارتداء الحجاب، وهو أمر تمّ تجاوزه في البلدان الأنغلوساكسونية، حيث يمكن التعبير عن الانتماء الديني بحرية (ألا يحمل الدولار في الفضاء العمومي عبارة "نؤمن بالله"؟).

*****

(*) ننتقل، كما اتفقنا، إلى جوهر الجزء الثاني من الحوار: الإبادة في غزة. إسرائيل لا تعترفُ بها، وتراها ردًّا حربيًّا عقابيًّا على مرتكبي ما تصفها بأنها "مجزرة" السابع من أكتوبر، رافضةً جملة وتفصيلًا السياق التاريخي الاستعماري لفلسطين، والذي يبرر حق الفلسطينيين في المقاومة، التي تُسمّى "إرهابًا" عند أعدائهم. أولًا، هل كنت تتوقع هجوم السابع من أكتوبر؟ 
لا، لا... لم أكن أتوقعه. كنت يومها في سراييفو للمشاركة في مؤتمر عربي أشرف على تنظيمه الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي. أستطيع الجزم أن كثيرًا من الحاضرين العرب لم يترددوا في إبداء دهشتهم وهم يتناولون فطور الصباح. لكن، في المقابل، كان الجميع يعرف أن القضية الفلسطينية قد بلغت ذروة السوء الناتج عن تاريخِ مُعاناتها، لا سيما بعد الخيانات المتتالية للموقّعين على "اتفاقيات إبراهام". كنا نعرفُ أيضًا أن حماس قد استنفدت كل وسائل الاتصال والاستراتيجيات لإنهاء الحصار الشنيع المفروض على الشعب الفلسطيني، في ظل المُزايدة الإسرائيلية التي كانت وراء عنفٍ ما يزال يتمّ بتواطؤ عالمي غربي.



(*) الصحافي والكاتب سيلفان سيبال، المراسل السابق لصحيفة "لوموند" في إسرائيل، وصاحبَ كتاب "إسرائيل ضد اليهود"، قال لي في حوار نشرته "ضفة ثالثة": "أثبت السابع من أكتوبر أن القضية الفلسطينية لم تمت، خلافًا لما كان يعتقده مُعظم السياسيين والمتخصصين في الشرق الأوسط، غربيين وعربًا". ما هي قراءتك لقوله؟ وإلى أيِّ حدٍّ يمُكن اعتبار هذا الكلام تفسيرًا لمعنى السابع من أكتوبر، بعيدًا عن الدعاية الصهيونية التي ترى فيه حربًا على إسرائيل، وتُبرِّرُ فيه الإبادة المستمرة على الشعب الفلسطيني باسم محاربة إرهاب الإسلاميين؟
أوافق تمامًا على وجهة نظره. ومهما كان الثمن الاستثنائي الباهظ الذي يدفعه الشعب الفلسطيني في هذه اللحظة من إجراء الحوار، فإن السابع من أكتوبر، والرد الإسرائيلي غير المسؤول، أعادا القضية الفلسطينية إلى قلب المشهد العربي والإقليمي. ولا دليل على ذلك أوضحَ من اضطرار المملكة العربية السعودية إلى تأجيل اعترافها بدولة إسرائيل في إطار مسار التطبيع، رغم الازدواجية السياسية لقادتها.

(*) سيبال نفسه، رغم مناهضته لليمين المتطرف الإسرائيلي ومعارضته الشرسة لنتنياهو، لم يُعجبه سؤالي: "هل ترى السابع من أكتوبر فعلًا إرهابيًّا مثل إرهاب الدولة الإسرائيلية؟". طرحت عليه هذا السؤال مُؤكّدًا أن رفيقَ دربه، الصحافي والكاتب الشهير آلان غريش، يرفض اعتبار السابع من أكتوبر فعلًا إرهابيًّا، ويقبل به كوصف فقط شريطة وصف إسرائيل بأنها دولة إرهابية. أين أنت من هذين الصحافيين الفرنسيين اليهوديين المعروفين بمناهضتهما الشرسة ـ بدرجات متفاوتة ـ للصهيونية كاستعمار استيطاني؟
الفارق البسيط الذي تحاولون إيجاده بين موقفي سيبال وغريش ليس أساسيًّا في تقديري. الفلسطينيون يستطيعون، بل يجب أن يبتعدوا عن الممارسات الإسرائيلية التي لا تُفرّق بين المدنيين والمقاومين، ولا تتجنب العزَّلَ بشكل عام، والأطفال بشكل خاص. وانطلاقًا من المبدأ نفسه، يمكن التنديد بما وقع في السابع من أكتوبر نتيجة إيقاعه ضحايا مدنيين، كما تم التنديد سابقًا بضحايا مقهى "ميلك بار" في الجزائر عام 1961، من دون أن يُسقط ذلك وصف الإرهاب عن المسار التحرري، اللصيق تاريخيًّا بحركة حماس، وبجماعات فلسطينية مسلّحة أخرى.

(*) نتنياهو نفسه، وكثير من المحللين الأجانب والإسرائيليين والعرب، رأوا السابع من أكتوبر بمثابة "11 سبتمبر" إسرائيل. إلى أي مدى تقبل بهذه المُقارنة، ولماذا؟
إنها مقارنة وجيهة جدًا. الهجوم العنيف الذي تمّ ضد السيطرة الأميركية على العالم الإسلامي تسبب في عنفٍ قمعي مضاد غير متكافئ إطلاقًا. وأنا شخصيًّا أفضل مقارنة السابع من أكتوبر بما قام به ثوار الجزائر عام 1945 ضد الاحتلال الفرنسي، حين كانوا يحتفلون بانتصار الحلفاء على النازية. ردًّا على مقتل طفل كان يحمل العلم الجزائري وسط المتظاهرين، شنّ الجزائريون هجومًا أدى إلى مقتل عشرات الفرنسيين الاستيطانيين (نوع من "السابع من أكتوبر"). من جهته، الجيش الفرنسي لم يتردد في رده، حيث استعمل الأسلحة الثقيلة، والطيران، للقيام بمجزرة أودت بحياة ما بين 35 ألف و45 ألف ضحية.

(*) إريك رولو، الصحافي الفرنسي الراحل الشهير، واليهودي الآخر (كان مراسل "لوموند" في مصر والجزائر، ومقربًا من الرئيس عبد الناصر، وحاور حسن البنّا عام 1946)، قال لي في حوار عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر: "الأميركيون بحثوا عن الحادي عشر من سبتمبر". إلى أي حد يمكنُك قول الشيء نفسه عن السابع من أكتوبر في سياق المقارنة المذكورة؟
لا سابع من أكتوبر من دون عقود من الاستعباد الإسرائيلي للفلسطينيين. الأمر بديهي جدًّا. كما أنه لا أحد عشر من سبتمبر من دون القبضة الأميركية المُتغطرسة على أقسام كاملة من العالم الإسلامي، وعلى رأسه المملكة العربية السعودية.

(*) ما هو الحل الأقرب إلى التطبيق في تقديرك لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي اتخذ بعدًا إباديًّا من شأنه ـ كما يقول المفكر برهان غليون ـ تأخير كل أنواع الحلول بعقود لصراع عربي شامل؟
قلت مرارًا، وكرَّرت، إنَّ وجهة نظري تتضمن حلّين لأزمة نتجت عن تأسيس إسرائيل عام 1948، وتوسعها الاستعماري اللاحق. الحل الأول هو ما أسميه الحل الجنوب أفريقي، الذي يتم ـ بغض النظر عن الشكل الدستوري ـ عبر دولتين، أو دولة واحدة، إثر تصالح سياسي يضمن طموحات وأجندات الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني. لكن للأسف، كل المؤشرات اليوم تُثبت أن إسرائيل تقومُ بكل ما يحول من دون ظهور أدنى أفق لأي حل. الأيديولوجية الصهيونية، التي يجسّدها جزء كبير من النخبة الحاكمة، ومعظم قادة المعارضة الحاليين لنتنياهو، تُعدّ عائقًا مبدئيًّا أمام أي حل. صهيونية اليسار لا تختلف عن صهيونية اليمين إلا شكليًّا، وهي نفسها بنيويًّا عند اليمين واليمين المتطرف. إنها أيديولوجية طائفية وعنصرية مشابهة لداعش، بحكم عدم قبولها أي شكل من أشكال التعايش.




أما الحل الثاني فهو الطريق الروديسية (نسبة إلى روديسيا، زيمبابوي اليوم)، أو الجزائرية، والذي ينص على رحيل، أو سيطرة، طرف ما بشكل كامل. وهو، فعليًّا، ما انتهجته إسرائيل، باعتبارها دولة أفلتت من العقاب منذ تأسيسها.
إسرائيل لم ترغب في السلام. هي تريد الأرض، بكل السبل، بما فيها غير الشرعية، في ظل الدعم الأعمى الذي تتلقاه من شركائها الغربيين.
السابع من أكتوبر تسبب في بروز مسار من الممكن ـ فقط ممكن ـ ألا يسمح لإسرائيل بالاستمرار في نهج حلول اختزالية تتحدى القانون الدولي وأبجديات المبادئ الإنسانية.
أخيرًا، لا يمكن إغفال معطى امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، واحتمال تمكن إيران منه بدورها. وهو الأمر الذي يجعل التلويح به كورقة تهديد حقيقية في المنطقة.
أتوقف هنا لأنني لست في موقع تقديم حل جاهز. لكن، من الواضح أن ما هو قائم حاليًّا لا يمكن أن يقود إلى شيء سوى الكارثة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.