}

كريس كونتي: الذاكرة الفلسطينيّة تقوّض السرديّة الصهيونيّة

غسان مفاضلة 23 يونيو 2025
حوارات كريس كونتي: الذاكرة الفلسطينيّة تقوّض السرديّة الصهيونيّة
كريس كونتي
مقدمة

لم تكن الكاتبة التشيليّة والصحافيّة المتخصّصة في دراسات الذاكرة وضحايا الحروب والتمييز، كريس كونتي/ Chris Conti، تعرف أنّ النسخة العربيّة من كتاب "فلسطين.. ذكريات 1948"، الذي شرعت في إنجازه بمشاركة المصور الفوتوغرافي ابن موطنها ألتير ألكانتارا/ Altair Alcantara ، قبل نحو سبع سنوات؛ سوف تصدر خلال هذا العام بالتزامن مع ذروة حرب الإبادة التي يواصل الاحتلال الإسرائيلي ارتكابها بحق الفلسطينيين في قطاع غزة منذ أكثر من عشرين شهرًا.
عندما حلّت الذكرى السبعون على مرور النكبة الفلسطينيّة قبل سبعة أعوام، ونتيجةً لشحّ المعلومات المتحصّلة من التسجيل الشفوي لسرديَّات الواقعة التاريخيّة، ووقوف الكاتبة مع زميلها الكانتارا على الجهل المستفحل بالقضيّة الفلسطينيّة، خاصةً في المجتمعات الغربيّة، شرعا معًا في معاينة مرويات النكبة، وتتبع ما تختزنه ذاكرة من عايشوها وشهدوا ويلاتها الموصولة بسعي الاحتلال إلى طمس معالم فلسطين ومحوها من الذاكرة والوجدان، فكان لهما أن أمضيا نحو ثلاث سنوات من البحث والتقصّي والمتابعة الميدانيّة لعدد من الشخصيّات التي جايلت النكبة وما تزال تستحضرها طوال تلك العقود، لتسفر رحلتهما مع الذاكرة الشفويّة لتلك الشخصياتّ عن كتاب "فلسطين.. ذكريات 1948"، الذي صدرت نسخته الإنكليزية عن دار هيسبِرَس/ Hesperus Press في لندن عام 2019، لتتبعه بعد ذلك النسختان الفرنسيّة والإسبانيّة، ومن ثم تلتهما النسخة العربيّة التي ترجمها د. وليد السويركي، والصادرة أخيرًا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" بعنوان "ذاكرة فلسطين 1948".
يُعدّ الكتاب الذي أشهرت نسخته العربيّة ضمن فعاليات "مهرجان الصورة... عمان" الدولي في دورته الأخيرة قبل نحو شهرين في عمّان، ثمرة عملٍ جماعيٍ لباحثين ومترجمين ومصورين ومساندين للقضيّة الفلسطينيّة. وهو يُعاين بين دفتية محطاتٍ متنوّعةٍ من سيرة الذاكرة الشخصيّة لعشرين ناجيًا من النكبة، متوجهًا بخلاصاته الراشحة من ذاكرة التغريبة الفلسطينيّة، إلى المجتمع الغربي الذي ظلّ حتى قبيل حرب الإبادة الراهنة على قطاع غزة، لا يرى من القضيّة الفلسطينيّة سوى ما تراه عيون المحتل. لكن سيل المعلومات، وتدفّق الصور المتوالية من أهوال مجازر غزة، أتاحت للعالم كشف حقيقة الطابع الإجرامي الذي نشأ عليه الكيان منذ بواكير النكبة الأولى، وحتى آخر مجزرة في سجلات النازي الجديد. الصور المتلاحقة التي أظهرت الوجه الحقيقي لكيان الاحتلال، أفضت راهنًا، وعلى مستوى العالم، إلى إعادة مساءلة الرواية الإسرائيليةّ برمتها، خاصةً من قِبل المؤرخين الجدد الذين لم ينقطعوا عن فحص الأراشيف والوثائق التي مكّنتهم من جمع الأدلة والاعترافات التي تتحدى "الكليشيهات" الإسرائيليّة الرسميّة واسعة الانتشار، خاصة تلك التي روّجت فلسطين بوصفها "البلد الفارغ من السكان"، وهي في حقيقتها "البلد الذي أُفرغ من سكانه" بالتهجير والتطهير.

زيف السرديّة الصهيونيّة
وحين تذهب كريس كونتي إلى اعتبار التاريخ الذي ترويه النسخة الرسميّة المدموغة ببصمة المحتل "هو التاريخ الذي كتبه المنتصرون، أولئك الذين انتزعوا الأراضي لأنفسهم بالقوة، وتركوا ضحاياهم يعانون بصمت"، فإنها تذهب مباشرةً إلى معاينة تاريخ الذاكرة، أو التاريخ الوجداني لضحايا النكبة والتعريف به إنطلاقًا من "أحوال واقعهم وتحولاته التي عاشوا معها لأزيد من سبعة عقود فقدوا خلالها عائلاتهم وممتلكاتهم، وتعرضوا لمحاولات تجريدهم من هويتهم الخاصة". لا تنحصر أهميّة الحكايات الشخصيّة الي يسجلها الكتاب عن شهود النكبة في فلسطين والمنافي والشتات، في كونها مصدرًا غنيًّا للمعلومات، أو سردًا لوقائع الأحداث المتراكمة في ذاكرة من عايشوها فقط، بل تتأتى أهميتها، أيضًا، من بنيتها المتماسكة التي تُدعّم بقاء ذاكرة النكبة حيَّة وفاعلة في تأكيد الهويّة الفلسطينيّة أمام زيف السرديَّة الصهيونيّة التي قامت على الخرافة والتظليل.
وعلى الرغم من كون الرواية الشفويّة تشترك مع الرواية الرسميّة، أو المكتوبة، باعتبارهما تمثلان مصدرًا أوليًا للمؤرخين والباحثين، إلا أنّ الرواية الشفويّة تُعدّ مرجعًا لاختبار وتصحيح الانحرافات التي قد تعتري المصادر المكتوبة "فعندما تختلف الروايات الشفويّة مع المصادر المكتوبة، فإن الروايات الشفويّة عادةً ما تصحّح الروايات المكتوبة، أما العكس فهو نادر الحدوث"، إضافةً إلى أن التاريخ الشفوي يظلّ أقلّ عرضةً للهنّات والفجوات التي يحفل بها التاريخ الرسمي بانحيازاته السياسيّة والأيديولوجيّة.
يضمُّ الكتاب، إضافةً إلى المادة النصيّة، صورًا لمدينة القدس بعدسة الفوتوغرافي ألكانتارا، وصورًا أخرى بعدسة كونتي، إضافة إلى صورٍ أرشيفية متنوّعة لفلسطين منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وساهم تضافر الطابع التعبيري والتوثيقي للصورة، مع المادة المكتوبة، في تسليط الضوء على الحضور المركزي الذي كانت تحظى به فلسطين قبل النكبة، إذ احتلّت الشهادات والصور المرافقة لها أكثر من مئتي صفحة من القطع الكبير، فيما توزّعت على بقية الكتاب أربعون صورة ملونة للقدس وللطبيعة المحيطة بالمدينة ولأحيائها وأسواقها ومعمارها التاريخي، إضافة إلى تغطيتها مظاهر متنوّعة من عاديات الناس وتقاليدهم وطقوسهم الدينية والاجتماعية في بلد كان مركزًا للأعمال والتجارة والثقافة والفنون، قبل إقامة الدولة العنصريّة بقرارٍ دوليٍ مجحفٍ على أرض فلسطينن.

التحدي وقصص النجاح
تتوزّع الشهادات التي حملها الكتاب بين "المادة المكتوبة" من قبل أصحابها، خاصةً الكتاب والأكاديميين، و"المادة المرويَّة" التي جرى إعادة كتابتها على نحوٍ سرديٍّ متسلسلٍ في سياقه المنطقي والتاريخي. وتوضح المؤلفة في هذا السياق "أن بعض النساء والرجال الذين جرى تسجيل حكاياتهم وترجمتها، ثم إعادة توليفها من جديد، احتاجوا إلى مقابلاتٍ عديدةٍ ومراجعاتٍ متكررةٍ للتأكد من حقيقة المعلومات والمعاني التي يريدون إيصالها" تحديدًا الحكايات التي تروي وقائع المذابح التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي والمنظمات الإسرائيلية عام 1948، بدءًا من "دير ياسين"، و"الطنطورة"، وصولًا إلى مذبحة "الدوايمة" المروّعة التي ارتكبتها فرقة موشيه دايان في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1948، بعد أن وضعت الحرب أوزارها في ذلك العام.




تُعدّ مرويّات الكتاب أمثلةً ساطعةً على مواجهة الفلسطيني للتحديات والعقبات بعد النكبة، والتي استطاع أن يصنع منها قصص تميّزه ونجاحه في الميادين كافة. فقصص الناجين من النكبة ليست سيرًا تروي مقاومة بطوليّة "لكنها تقدم لنا صورًا عن التحدي والثبات في وجه المخاطر والصعاب. تروي تلك القصص ردود فعل أصحابها الساخرة والعنيدة ضد القهر والمنفى" بحسب مقدّم النسخة الإنكليزية للكتاب أستاذ علم الاجتماع في جامعة بير زيت، ومحرر مجلة "حولية القدس" د. سليم تماري الذي نوّه إلى قدرة مؤلفي الكتاب على "الجمع بين سير عدد من الناجين من الشخصيات الهامة، مثل بطريرك اللاتين ميشيل صباح، والكاتب والناقد فيصل درّاج، والمحامي فؤاد شحادة، جنبًا إلى جنب مع شهادات أناس عاديين جاء غالبيتهم أصلًا من القدس، أو أن هذه المدينة احتلت مكانة مركزية من حياتهم".

غلاف الطبعة المترجمة إلى العربية من كتاب كريس كونتي وزميلها المصور ألتير ألكانتارا بعنوان "ذاكرة فلسطين 1948" 


يسرد فيصل درّاج (1943) حكايته الشخصيَّة بلغةٍ سابرةٍ وهو يتناول قصّة رحيله مع عائلته إلى سوريّة عام النكبة، مستعيدًا صور الماضي، وأثر الجرح الذي لا يمحى من الذاكرة، إضافة إلى وصمة المنفيِّ التي تجعل هويته ووجوده موضع شكّ ومساءلة. ومن الشهادات التي تفيض بالمرارة والمعاناة تلك التي جاءت في مرويّة رشيدة هديب (87 عاما) حول "مذبحة الدوايمة"، التي راح ضحيتها نحو سبعمئة شهيد، مستعيدة ً أحداث المذبحة، والهجرة من مخيمات أريحا أثناء نكسة 1967، وضياع طفليها قبل أن تعثر عليهما في مدينة عمّان. وهي شهادة تمثل جانبًا من الصدمات التي اختزنتها الذاكرة الفلسطينية طوال تلك العقود المفتوحة على الفجائع وتوالي النكبات.

الفينيق الفلسطيني
تدور جلّ شهادات الكتاب حول قدرة الفلسطيني على النجاة ومواصلة العيش في أحلك الظروف وأصعبها. إنها قصصٌ في مواجهة التحديات ترويها كل شهادةٍ من الشهادات التي جاء نصفها لنساء تنوّعت خلفياتهنّ الاجتماعيّة والسياسيّة والمهنيّة. فيما جاء النصف الآخر لرجال من ميادين مختلفة (محامون، كتّاب، رجال دين، قادة سياسيون، مهنيون ومزارعون)، ومنهم من يقيم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وآخرون في أراضي 1948، وغيرهم ممن يقيمون في بلدان عربية، إضافة إلى شهادة اثنين من المغتربين الفلسطينيين في أميركا اللاتينية. كما ضمّ الكتاب على نحو استثنائي سيرة المناضل ماجد أبو شرار، الذي استشهد اغتيالًا في العاصمة الإيطالية روما عام 1981. وقد اعتمدت كتابة سيرته على أفراد من أسرته وأصدقائه ورفاقه. كما احتوت النسخة العربيّة على صورٍ لثلاث شهادات إضافية بعدسة ليندا خوري.
قدّم الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستّة النسخة العربيّة من الكتاب، والتي وقف فيها عند اللحظة الراهنة لمجريات حرب الإبادة التي يشهدها قطاع غزة "مهما تكن نهاية هذه الحرب في غزة ونتيجتها، لا أحد يجب أن يروي شهاداتها غير الفلسطينيين. علينا نحن أن نحكي قصصنا بأنفسنا، لأننا إن لم نفعل، سيختلق الطرف الآخر قصته كما كان يفعل كل الوقت منذ عام 1948 ــ بل وحتى قبل ذلك". ويؤكد أبو ستة على أهمية قصص الجيل الأول "الذي حال دون محو الفلسطينيين من خلال أعمال فرديّة من الشجاعة والحب والتضحية. ليست التضحية من أجل القضية السياسيّة فحسب، وإنما أعمال التضحية الفرديّة التي اجترحتها العائلات لضمان بقائها".
كتاب "فلسطين: ذاكرة 1948" ليس تاريخيًّا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هو بحسب كريس كونتي "تدوين لما حدث بلسان شخصيات فلسطينيّة صنعت من المأساة شكلًا جديدًا للحياة. وهو ليس موجّهًا للفلسطينيين وحدهم، بل للعالم كله من أجل أن يعرف حجم المعاناة التي فُرضت على الشعب الفلسطيني جراء جرائم الاحتلال الإسرائيلي منذ النكبة وحتى اليوم".
إبقاء ذاكرة النكبة حيَّة وفاعلة، وتعزيز الهويّة الفلسطينيةّ أمام المزاعم والمرويّات الصهيونيّة القائمة على محو الآخر ونفيه من الجغرافيا والتاريخ، هو ما تُفضي إليه الشهادات بين دفتي الكتاب، والتي تؤكد على تجدّد "الفينيق الفلسطيني" وانبعاثه المتواصل من بين الرماد.

***

تاليًا، هنا نص حوار مع الباحثة والصحافيّة التشيليّة المتخصّصة في دراسات الذاكرة وضحايا الحروب والتمييز، كريس كونتي، الذي ترجمته إلى العربية الباحثة الإسبانية، آنا جيتانا.
تستعيد كريس كونتي، مع زميلها المصور ألتير ألكانتارا، الذاكرة الشفوية للنكبة الفلسطينية، لتعيد إحياءها من جديد مع الإنكليزيّة والإسبانيّة والفرنسيّة، وأخيرًا اللغة العربيّة، وذلك بعد مرور 77 عامًا على النكبة، والمتزامنة مع وقع حرب الإبادة على قطاع غزة المتواصلة منذ أكثر من عشرين شهرًا.

غلاف الطبعة الإنكليزية من كتاب كريس كونتي وزميلها المصور ألتير ألكانتارا بعنوان "فلسطين: ذاكرة 1948"


(*) أكثر من سبعة عقود مرت على النكبة الفلسطينية التي يُعاين كتاب "فلسطين: ذكريات 1948" القصص الشخصية لعدد ممن عايشوها. ما هي الدوافع التي جعلتك تتوجهين مع زميلك ألكانتارا، لتتبع تلك الذكريات وتوثيقها في هذا الكتاب؟ وما الذي يمكن أن يضيفه بعد مرور تلك العقود من عمر النكبة؟
لنقل، بدايةً، إن الشروع بنشر ذكريات شخصيات ممن عايشت النكبة عام 1948 اتخذ طابعًا رمزيًّا. عندما فكرت مع زميلي ألكانتارا بمشروع الكتاب كان قد مضى 70 عامًا على النكبة، وهو ما يعني انحسار أعداد الشهود عليها شيئًا فشيئًا. الكتاب بهذا المعنى جاء التزامًا ووفًاء لذاكرة أولئك الشهود، والوقوف معهم على مروياتهم الشفويّة، وتثبيتها باللغات الأكثر انتشارًا في العالم بين دفتي الكتاب.




دعني أشرْ في هذا المستهل إلى أن ما لفت انتباهي خلال مقابلاتي مع الذين عايشوا النكبة؛ إنهم يحوزون ذاكرة نشطة وواضحة عن مجريات الأحداث في فلسطين قبل النكبة وخلالها، وما تلاها من صعوبات وتحديات ما تزال قائمة حتى اليوم، لأن الذكريات التي تخلّفها الصدمات، في اعتقادي، دائمًا ما تترك آثارها العميقة التي لا تُمحى. جلّ أولئك الأشخاص الذين قابلناهم يتذكرون تفاصيل كثيرة عن فلسطين أيام الانتداب البريطاني، الذي كان يقدّم الدعم للجماعات الصهيونيّة بعد وعد بلفور، وما تلاه من تقسيم فلسطين، وإقامة الدولة الصهيونيّة بقرارٍ مجحفٍ من الأمم المتحدة. وإذا ما تفحّصنا التاريخ المدوّن للنكبة سنجد أنه كُتب من دون أن يأخذ بعين الاعتبار القصة الحقيقية للشعب الفلسطيني الذي تمت التضحية به من قِبل الأوروبيين المُدانين بـ "الهولوكست". وإجمالًا، يهدف الكتاب إلى وضع شهادات من عايشوا النكبة بين يدي الأجيال القادمة لكي تحميها من الضياع، أو النسيان. ودعني أشرْ، أيضًا، إلى مسألةٍ أخرى لم أكن أعرفها من قبل، وهي أنني، خلال إقامتي في الأردن، أدركت أن كثيرًا من الأردنيين من أصل فلسطيني لا يستطيعون أن يقطعوا نهر الأردن باتجاه ضفته الأخرى، حيث تقع بيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم، وبالتالي هم محرومون من إعادة إحياء ذاكرتهم عيانيًا، أو التعرّف على ما تبقى من جذورهم على أرضهم.

(*) هنالك عدد من الشهادات والمرويات التي توثّق ما حدث مع الفلسطينين إبان النكبة وما بعدها. ما الجديد الذي يضيفه الكتاب بهذا الشأن؟
طبعًا، هنالك عدد من الشهادات الذاتية لفلسطينيين مكتوبة بشكل رئيسي باللغتين الإنكليزيّة والعربيّة. لذلك، حاولنا في هذا الكتاب أن نقدّم شيئًا مختلفًا، فكوّنا فريقًا من المهنيين والصحافيين والمترجمين والمصوّرين، إضافة إلى إعادة قراءة تلك الفترة من قِبل مختصين في "الإثنوغرافيا" والتاريخ والسياسة في المنطقة. ولكننا قررنا بشكلٍ أساسي التركيز على الشهادات التي تسمح لنا بفهم ما حدث في الماضي، لأنك إذا أردت أن تفهم ماذا يحدث اليوم في فلسطين، فلا بدّ أن تعرف ماذا حدث في الماضي منذ عام 1948. علينا، بدايةً، أن نفهم كيف تم إنشاء غزة في عام 1948، إنها من دون شكٍ اختراع إسرائيلي بامتياز. قبل عام 1948 كانت غزة مدينة صغيرة فيها جماعات مسيحيّة ومسلمة ويهوديّة تعيش في أمن وسلام. وعندما تم تهجير الفلسطينيين إلى لبنان وسورية والأردن، قامت مصر بإغلاق حدودها. حينها قرّرت "إسرائيل" عدم احتلال غزة لجعلها مخيمًا للاجئين، حيث كانت تزجّ بمئات آلاف الفلسطينيين النازحين من وسط وجنوب فلسطين، وسجنهم في غزة تحت السيطرة المصرية. ازداد وضع غزة سوءًا في عام 1967، وبعد ذلك في عام 2007، مع حصارها وقصفها جوًا وبحرًا وبرًا. وما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لم يكن سوى نتيجةً لغطرسة الاحتلال طوال تلك العقود.
علاوةً على ذلك، يمكن القول إنه على الرغم من تعلّق الأجيال الجديدة من الفلسطينيين بوطنهم التاريخي، إلا أنه ينقصهم الاطلاع على كتب المختصين والتفاصيل الزمنية المتعلقة بالقضيّة الفلسطينيّة، وهذا ما يمكن أن يساهم فيه هذا الكتاب، آخذين بعين الاعتبار أن هناك شتاتين، واحدٌ في الوطن العربي يتيح للفلسطينيين معرفة كثير عن تأريخهم وشتاتهم، وشتاتٌ آخر موزّعٌ في قارات العالم وبلدانه، مثل أميركا اللاتينية. كان هدفنا من الكتاب التعريف بالقضيّة المحوريّة في الشرق الوسط التي تمثلها القضيّة الفلسطينيّة، وإشاعتها بين الجميع، لهذا السبب جاء الكتاب باللغات الأكثر انتشارًا في العالم، الإنكليزيّة والإسبانيّة والفرنسيّة والعربيّةّ.
بناءً على ذلك، لم نختر قصةً واحدةً لتروي لنا ما حدث، بل اخترنا عشرين قصة لأشخاص من خلفيّات اجتماعيّة ودينيّة ومهنية وجغرافيّة متنوعة. ومن خلال هذه القصص يستطيع كل قارئ أن يعيد صياغة "البانوراما" الخاصة به، والتي تمكنه من إعادة تشكيل قصته والتاريخ الخاص بقضيته. جميع القصص التي تناولها الكتاب جاءت بصيغة ضمير المتكلم، والتي تطلّبت كل واحدة منها مقابلة تراوحت ما بين 10 و15 ساعة، لتتبعها بعد تدوين المقابلة لقاءات أخرى للتأكد من دقة التفاصيل الواردة فيها.

(للحديث صلة).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.