(*) بعد مرور أكثر من سبعة عقود على النكبة، يواصل الاحتلال الإسرائيلي ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في مختلف أنحاء قطاع غزة. كيف تقاربين بين هذه الجرائم وتلك التي ارتكبها الصهاينة إبان النكبة؟
حدثت النكبة عام 1948 في سياقٍ محددٍ بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد سنوات قليلة من "الهولوكوست"، حيث استخدمت الجماعات الصهيونية أولًا، وإسرائيل لاحقًا، جميع الوسائل للتخلّص من الفلسطينيين وسرقة أراضيهم وإثارة الرعب بينهم حتى يغادروا أراضيهم. غادر البلاد نحو 750 ألف شخص (أي ثلث السكان) ولم يتمكنوا من العودة أبدًا. وكان التطهير العرقي حينها "غير مرئي" لأنه جاء على نحوٍ مفاجئ وغير موثّق. وفي وقت لاحق تم العثور على دليل على ما حدث عام 1948، والذي جاء ضمن سياق أهداف الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر، والمتمثلة بتوفير الأمن والحماية لليهود المضطهدين في العديد من البلدان الأوروبية. ومن ثم شرعوا باحتلال أكبر عدد ممكن من الأراضي الفلسطينيّة التي تفوق تلك التي أقرتها الأمم المتحدة: 54.5% من أراضي فلسطين الانتدابية.
لقد سرق الصهاينة الأراضي الفلسطينية واشتروها بشكل غير قانوني لتحقيق رؤيتهم التوسعيّة آنذاك. في عام 1948 عزّزت الصهيونية وجودها الاحتلالي في سياقٍ محددٍ قائم على الادعاءات والأباطيل؛ زعمت أنها قادرة على جلب الحداثة إلى منطقة ادّعت أنها متخلّفة ومهجورة، وطرحت عبارات دعائية مثل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وهو ما تفنّده شهادات كبار السن من الفلسطينيين، والتي تؤكد أن فلسطين كانت قبل النكبة حافلة بمظاهر الحياة المدنية والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. وما يقوله الفلسطينيون ويؤكدونه بهذا الشأن، يتيح لنا فهم التداعيات الهائلة التي صاحبت الدعاية الصهيونيّة في ذلك الوقت. فقد حظيت دولة الاحتلال بدعم واسع من الغرب، وتلقت منه الأسلحة والمساعدة والمساندة على نحوٍ غير محدود. لفد تمت التضحية بالشعب الفلسطيني بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه. وبعد عام 1948، راح الكيان الاستعماري ينظر إلى الفلسطينيين نظرةً دونيّة مصحوبة بسعيه المتواصل لتهجيرهم واجتثاثهم من أرضهم.
حرب الإبادة المتواصلة الآن في قطاع غزة يتم تنفيذها بأسلحة أكثر تطورًا ووسائل تدمير متفوقة من جانب إسرائيل. هناك 2.3 مليون شخص محاصرون في القطاع (نحو ثلث الفلسطينيين، إذا أخذنا بعين الاعتبار الضفة الغربية والفلسطينيين داخل الخط الأخضر). ما نراه جميعًا على شاشاتنا هو مذبحة منظّمة ومخطّط لها بشكل مسبق، إنها إبادة جماعيّة مكتملة الأركان بحق الفلسطينيين المسجونين والمحاصرين داخل القطاع. وهي علاوةً على ذلك، إبادة مقرونة بخطاب "إسرائيلي" يبرّر كل شيء بلغةٍ تجرّد سكان غزة من إنسانيتهم، وهي لغة لا يمكن قبولها أو احتمالها. إنهم يصوّرون لنا أن كل شيء قد بدأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ويظنون أننا نجهل حقيقة المشهد. وليس من قبيل الصدفة أن نرى العديد من الناجين من المحرقة يقولون إن إسرائيل تستخدم المحرقة كذريعة لنشر التطهير والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. إنه الرعب الذي لا نستيقظ من أهواله. لا شيء يبرّر ما يحدث. لا شيء على الإطلاق.
أضف إلى ذلك، إن ما حصل في عام 1948، لم ينتقده العالم الغربي، بشعوبه ودوله المستعمِرة. واليوم، تحظى "إسرائيل" بدعم الحكومات الغربيّة، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والمستعمرين السابقين، إضافة إلى بعض دول الخليج. كل ذلك يحدث بسبب الانتهازيّة أو الخوف؟ وربما لكلا السببين. لقد كان الاتهام بمعاداة السامية أحد أكبر مخاوف طلاب الجامعات ورجال الأعمال والمهنيين في المجالات كافة. الخوف من السمعة السيئة، وفقدان المنصب حاضران على الدوام في سلوك الكثيرين في الغرب.
|
لم يكن التطهير العرقي غريبًا عن تربته الصهيونيّة، بحسب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه الذي أكّد على جذوره العميقة والراسخة في علم النفس الصهيوني |
(*) إذا كانت جرائم التهجير والتطهير التي مارستها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين قبل أكثر من سبعة عقود، جرائم "غير مرئيّة" للعالم، فإن حرب الإبادة التي ترتكبها دولة الاحتلال الآن بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، تتم على مرأى ومسمع العالم. كيف تفسرين الصمت الدولي إزاء هذه الجرائم غير المسبوقة في التاريخ الحديث؟
نعم، كانت عمليّة التطهير والإبادة في عام 1948 مخفيّة ومفاجئة، أما الآن، فإن الناس في جميع أنحاء العالم يمكنهم رؤية ما يحدث. ليس فقط بسبب الصور التي يرسلها الفلسطينيون في غزة على شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن أيضًا بسبب الجنود الإسرائيليين أنفسهم الذين يسخرون علنًا من قتل الفلسطينيين، بل ويدْلون بتعليقات صادمة. اليوم، الإبادة الجماعية صارت "إبادة مرئية" وموثّقة بكل الوسائط، وهذا بحدّ ذاته مرعب، لأنه يدعو إلى التشكيك في المؤسسات الدوليّة التي تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية لتلافي ما يحدث الآن. لذا فإن السماح لأي دولة بعدم الالتزام بالقوانين الدوليّة التي يلتزم بها الجميع، يعني كسر هيبة تلك المؤسسات، والتقليل من قيمة مواثيقها وتفريغها من مضامينها. القوى العالميّة الكبرى تراقب اليوم بعضها بعضًا إزاء ما يحدث في قطاع غزة. لقد بات الكثيرون يعلنون اليوم، أنه إذا كانت الولايات المتحدة، والتي هي أصل الأمم المتحدة والنظام الدولي كما نعرفه، تنتهك القواعد الخاصة بالأمم المتحدة، وإذا سمحت القوة العالميّة الرائدة لنفسها بإدارة ظهرها للشرعية الدوليّة، فلماذا يجب على الدول الأخرى احترامها؟ وإذا تجاوزت "إسرائيل" القوانين الدوليّة بفضل الولايات المتحدة، فإن الأمر في غاية الخطورة، لأن المثال غير الأخلاقي، المتمثل في الإبادة الجماعيّة دون أي عواقب، يدخلنا في فترة من الفوضى المعولمة.
لم يكن التطهير العرقي غريبًا عن تربته الصهيونيّة، بحسب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه Ilan Pappé الذي أكّد على جذوره العميقة والراسخة في علم النفس الصهيوني. فالتطهير وفق ما يقول "أصبح اليوم إبادة جماعية". وأكد في مقابلة مع قناة "الجزيرة" في 25 شباط/ فبراير 2024 أن ما يحدث اليوم في غزة أسوأ بكثير مما حدث خلال النكبة. وما تزال اللامبالاة من جانب الحكومات الغربية، هي التي تسمح لإسرائيل بتنفيذ عملية الإبادة. في عام 1948 لم يكن هناك تلفزيون أو إنترنت، اليوم الإبادة الجماعية على الشاشات مباشرة، ولا تريد أي حكومة إجبار إسرائيل على وقف إطلاق النار، ناهيك عن الولايات المتحدة التي تمتلك هذه القدرة.
التطهير الذي ترتكبه "إسرائيل" اليوم، أكثر شراسة وهمجيّة مما كان عليه إبّان النكبة، لأنه ينطوي على إفلاس أخلاقي لا يمكن السكوت عليه. وهو إفلاس يثبت أن تربيتهم على مدى عقود، جعلتهم ينظرون إلى الفلسطينيين بوصفهم حيوانات وليسوا بشرًا. لقد خلقت تربيتهم أجيالًا من العنصريين، وهذا بالضبط ما فعله النازيون. وهذا أيضًا ما سعت الأمم المتحدة وجميع وكالاتها إلى تجنّبه على مدار ثمانية عقود.
أما المقارنة بين النكبة بالأمس، والإبادة في قطاع غزة اليوم، فإنني لا أميل للمقارنة بين كارثتين. فالمقارنة ليست مفيدة دائمًا. كل تطهير عرقي، وكل إبادة جماعية لها سماتها الخاصة. لكن ما نراه في الحالتين هنا، هو اشتراكهما في هدفٍ واحد، وهو استئصال الشعب الفلسطيني من بلاده. الفرق الجليّ الذي نلمسه هنا، هو أن "إسرائيل" تستثمر 7 أكتوبر كذريعة لارتكاب المذابح الجماعية.
(*) يواصل الاحتلال الإسرائيلي، منذ النكبة وحتى يومنا هذا، محاولاته الرامية إلى طمس الذاكرة الفلسطينيّة. إلى أي مدى يساهم كتاب "فلسطين: ذكريات 1948" في بقاء ذكرى النكبة حيّة وفاعلة في مواجهة الرواية الصهيونية التي تحاول محو فلسطين من الخريطة والذاكرة معًا؟
الدور الذي ينبري له الكتاب هو إبقاء الذاكرة الشفويّة حيّة. ولن أعطيه دورًا آخر. لا يحتاج الفلسطينيون إلى تفعيل أو إعادة تأكيد هويتهم. إنهم لا ينسونها أبدًا، هذا ما رأيناه ولمسناه في كل القصص التي قمنا بجمعها وتوثيقها. فهويته حاضرة على الدوام، وهي لا يمكن أن تتعرّض إلى خطر الإمحاء أو التذويب، بل على العكس تمامًا، إنها تزداد ترسيخًا وتأكيدًا كل يوم. وليس هناك فلسطينيون يجرّدون أنفسهم من هويتهم، إلا ما ندر. على العكس من ذلك، نرى أن الفلسطينيين في الشدائد يحرصون على التشبّث بهويتهم والدفاع عنها بكل الوسائل.
يُعدّ الكتاب وسيلة من وسائل عديدة لحفظ الذاكرة الشفويّة، مثل التسجيلات الصوتية، والفيديوهات، والمقالات وغيرها من الوسائل. وعلى الرغم من أن القراءة لم تعد اليوم جزءًا أساسيًّا من التعليم كما كانت عليه في القرن الماضي. فاهتمامات الشباب بالقراءة باتت اليوم للأسف، أقل بكثير مما كانت عليه في الماضي. جاء الكتاب في سياقه الخاص، للوقوف على ذكريات الأشخاص البسطاء، وليست الشخصيات البارزة. بمعنى آخر، يمتلك هذا الكتاب بلغاته الأربع بصمته الخاصة والمتواضعة. ونأمل أن يحظى مع نسخته العربيّة بطيفٍ واسعٍ من القراء العرب. وعلى أي حال، يبقى هذا الكتاب ملكًا للفلسطينيين، لأنه جزء لا يتجزأ من ذاكرتهم.
(*) عادةً ما يكشف التاريخ الشفوي للأحداث والوقائع عن العديد من الحكايات التي لا يسجلها التاريخ الرسمي. هل وجدت مثل هذه الفجوات خلال معاينتك القصص التي تختزنها ذاكرة من عاصروا النكبة، مقارنةً بالتاريخ الرسمي الذي دوّنه مؤرخون فلسطينيون وعرب وأجانب؟
بالتأكيد، الكتاب مليء بتلك القصص اليومية الصغيرة، بما فيها من دموعٍ وضحكٍ، ومن مقاومةٍ وأمل. وهي بمجملها قصصٌ لا يتوقف عندها التاريخ الرسمي دائمًا. يتكون الكتاب من تلك القصص الصغيرة ضمن القصة الكبيرة. وهذا هو بالضبط محطّ اهتمام الكتاب.
(*) الشهادات التي تضمنها الكتاب تعود إلى أشخاص ولدوا قبل النكبة وتتراوح أعمارهم اليوم بين 85 و95 سنة. كيف كنت تتحققين من حكاياتهم المرويّة التي قد تكون عرضةً للنسيان وعدم الوضوح بفعل الفاصل الزمني الطويل الذي حمل ذكرياتهم إلى مطارحها الأولى؟
أولًا، أمضينا وقتًا طويلًا مع كل شخص تراوح بين 10 و15 ساعة كما أسلفت. وتطلّب الأمر صبرًا وحوارات ولقاءات عديدة مع كل الذين قابلناهم. وبعد أن قمنا بكتابة الشهادات وتحريرها، قمنا بعرضها على كل واحد منهم للتحقّق منها وتثبيتها.
الوقت الذي منحناه للناس ليراجعوا ذكرياتهم بروية هو ما صنع الفارق. ولم يحدث أن غاب عن أحدهم تّذكر الأماكن أو نسي ما حدث معه. أتذكّر أنه في إحدى الحالات، اعتقد ابن إحداهنّ أن الأم خلطت في ذكرياتها وهي تسرد الأحداث، ولكن عندما قمنا بعمليات التحقّق (وهو جزء مهم من عمل الكتاب: كل شيء موثَّق ومرتبط بمصادر يستطيع القارئ الرجوع إليها) اكتشفنا أن كل ما روته جاء في تقارير ورسائل للأمم المتحدة عام 1948، وحتى في رسائل لجنود إسرائيليين لم يحتملوا ما فعلوه، فقاموا بتدوينه ونشره.
لم يكن الأمر سهلًا دائمًا، فهي مهمة طويلة جدًا وتتطلب أناةً وصبرًا. إنها ليست استبيانًا جاهزًا، وليست شكلًا من أشكال الأسئلة التي تمرّرها إلى الشخص لتستلم أجوبته، بل تتركه يختار موضوعه ويتحدّث بحريّةٍ تامة. يبدأ الحوار عادةً بشكلٍ ودّي، ثم يصبح حميميًا مشوبًا بالألفة والتعاطف.
(*) اشتمل الكتاب إلى جانب المادة النصيّة، على الصورة الفوتوغرافية التي غطّى جانب منها صورة فلسطين منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فيما تناول الجانب الآخر مدينة القدس في راهنها المعاصر. هل جاءت الصورة هنا، بوصفها وثيقة بصريّة، لتدعيم الذاكرة الشفويّة، أم كانت بمثابة وثيقة بصريّة لدحض المزاعم الصهيونيّة بأن فلسطين "بلد فارغ من السكان"؟
في البداية، سافر المصوّر عبر فلسطين التاريخية، محاولًا العثور على أماكن تحظى بأهميتها في الذاكرة الفلسطينيّة. لكن أثناء تجواله في شوارع يافا، وبعد أن عرف أن العديد من معالمها وشواهدها التراثيّة قد تعرّض للتغيير، قام بالبحث عن بدائل لتلك الفكرة. على سبيل المثال، تم تحويل نافورة عثمانية إلى محطة وقود. فيما تم تحويل مكان ولادة إحدى شخصيات الكتاب إلى مكب للقمامة، ومنزل شخص آخر تحوّل إلى معرض فني، وتعرّضت أماكن أخرى للتدمير. ولذلك كان عليه أن يبتكر طريقةً أخرى لإبراز فكرته عن ذاكرة المكان، فكانت صور مدينة القدس بديله في معاينة ذاكرة المكان وهويته.
وبعد سماعه العديد من الشهادات المختلفة حول القدس، أدرك أن المدينة كانت تحتلّ مكانةً مركزيّة بالنسبة للجميع. ورغم أن أصحاب تلك الشهادات لم يكونوا من القدس، إلا أن المدينة بالنسبة لهم ظلّت تمثّل إلهامًا لـ"هويتهم الفلسطينية". هكذا ولدت فكرة إنشاء ألبوم فوتوغرافي رمزي عن القدس. فكانت المدينة بطابعها الرمزي بديلًا عن أماكن الذاكرة المدمرة. إضافةً إلى ذلك، أدرك المصوّر أن العديد من الفلسطينيين لا يستطيعون الذهاب إلى القدس، لأن "إسرائيل" تمنعهم من الوصول إليها. فيستعيضون عن ذلك، بأن يطلبوا من أصدقائهم التقاط صور بأسمائهم حتى يشعروا أنهم زاروا المدينة المقدسة، حتى وإن كانت زيارة "افتراضيّة".
ثم بحث المصوّر عن صور قديمة للقدس تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي وجدها في أرشيف المدرسة الفرنسية للآثار والكتاب المقدس بالقدس. منها على سبيل المثال، صورة لموقع النبي صموئيل وهو أكثر من مجرد مكان للذكرى، فروح المكان تكمن في تلك الكلمات التي جاءت على لسان امرأة عاشت في المسجد الذي بني فوق القبر مباشرةً. إن نشر مثل تلك الصورة القديمة يحمل معاني كبيرة في ذاكرة الناس ووجدانهم.
باختصار، انطلقنا من الذاكرة الشفويّة للذين عايشوا النكبة، لننجز هذا الكتاب الذي يخصّ الذاكرة الفلسطينيّة، ولم نكن نسعى أبدًا في هذا المُنجز إلى الرد على الرواية الإسرائيلية، بقدر ما كان مسعانا هو تعميم تلك الذاكرة على نطاق واسع.
(*) العديد من الشهادات التي تضمّنها الكتاب، تُعد أمثلةً ساطعةً على مواجهة الفلسطيني لتحديات ما بعد النكبة، والتي صنع منها حضوره ونجاحه الساطعين في ميادين الحياة كافة، رغم تعرضه لأكبر مظلمة في التاريخ المعاصر. فهل يمكننا اعتبار كتاب "فلسطين: ذاكرة 1948" شهادة على تجدّد "الفينيق الفلسطيني" وانبعاثه في كل مرةٍ من بين الرماد؟
هذا ما يؤكده الواقع الفلسطيني، وليس مستلًّا من الأسطورة. فالكتاب يعاين القدرة على المقاومة، وعلى الإبداع اليومي في اختراع أساليب من المقاومة والتكيّف مع الراهن. وهو ما يسمّيه الفلسطينيون "الصمود". الصمود هو أسلوب وفعل ونمط حياة، وهو يعني عدم السماح أبدًا للتسليم بدور الضحية، وهو إلى جانب ذلك أيضًا، يُفضي إلى التصدي للظلم أينما كان.
في عام 1984، أكّد إدوارد سعيد على ضرورة ابتكار روايات قادرة على استيعاب الحقائق واستدامتها وتعميمها ودمجها في التاريخ لاستخدامها في تحقيق العدالة عبر السرد التاريخي. والشهادات الواقعة بين دفتيّ الكتاب تدخل في صميم ما ذهب إليه سعيد. إنها روايات تحارب النسيان، تُبقي الذاكرة الشفوية حية كي لا يُمحى تاريخها، خاصة مع محو إسرائيل أسماء القرى الفلسطينيّة وإزالة آثار سكانها. الذاكرة الشفوية تشبه شجرة التين التي تنبت من حيث لا يتوقعها أحد.