}

زينب السعود: العنوان عتبة هامة من عتبات الرواية

أحمد طمليه 4 يونيو 2025

 

أحيانًا، بل غالبًا، يكون عنوان الرواية دالًّا على شخصية المؤلف، إضافة إلى كونه يشكل مفتاحًا لمضمون الرواية، أي أنك تتلمس شخصية الكاتب من وحي العنوان الذي اختاره. الأمثلة كثيرة على ذلك، أكتفي منها بعنوان رواية الروائي الأردني تيسير سبول "أنت منذ اليوم" (1968) التي جاءت في أعقاب نكسة 1967 ليدل العنوان على أن الكاتب خلص إلى نتيجة ما، وللأسف فقد كانت النتيجة هي يأس الكاتب من الواقع العربي المؤسف، بسبب الهزيمة المذلة، التي لم يستوعبها عقل الكاتب، فكان أن انتحر بعد سنوات معدودة (1973)، بعدد سنوات عمر محدود، بالكاد يزيد عن الثلاثين بقليل، علمًا أن روايته المشار إليها ما زالت تحظى باهتمام النقاد، وقد حظيت باهتمام بالغ. هذا مثال، ويمكن للقارئ أن يشاركني استعادة عناوين لمبدعين آخرين ليلاحظ أن لشخصية الكاتب علاقة بعنوان مؤلفه.

أقول هذا كتمهيد  للحوار مع الروائية الأردنية زينب السعود. ففي عام 2022 صدرت لها رواية بعنوان "الحرب التي أحرقت تولستوي" عن دار "الآن ناشرون وموزعون". وقد أثار العنوان الاهتمام، فهو يدل على ثقة ما بالنفس، فأن تكتب، في أول عمل روائي لك، عنوانًا على هذا النحو فيجب أن تكون مطلعًا، وقارئًا، ومدركًا للتحدي الذي وضعت نفسك به.

قد تكون هذه أول إشارة أطلقتها الروائية السعود للفت الأنظار إليها. بعد عام واحد أصدرت روايتها الثانية "العبور على طائرة من ورق" عن  دار النشر نفسها. وبعد عام في 2024 وعن الدار الأهلية في عمان صدرت روايتها "نطفة في قلب غسان كنفاني" لتكون العناوين التي اختارتها محفزًا لإجراء هذا الحوار.

زينب السعود روائية وكاتبة أردنية مقيمة في الكويت، عضو رابطة الكتاب الأردنيين، وعضو رابطة الأدباء الكويتيين. تعمل في المجال التربوي. لها إضافة إلى الروايات الثلاث، العديد من المقالات النقدية والاجتماعية. مهتمة بمجال التدريب اللغوي والتدريب على الكتابة الإبداعية. وهي المشرف العام على "نادي إنسان الثقافي" في الكويت، وكاتبة عامود ثابت في مجلة "النيل والفرات" المصرية، وعضو أندية "توستماسترز" العالمية لمهارات الخطابة والارتجال.

هنا حوار معها:

(*) عناوين رواياتك لافتة، فهي تجذب القارئ لمعرفة ما تقصدينه. في ذهني وأنا أسأل عنوان "الحرب التي أحرقت تولستوي". ما رأيك؟

العنوان عتبة هامة من عتبات الرواية عليه أن يكون قادرًا على حمل انشغالات النص. وعادة أختار عناوين الروايات في المرحلة الأخيرة من الكتابة عندما تتضح خيوط السرد وتكتمل حركة الشخصيات وسير الحدث الروائي. أراهن كثيرًا على عناوين أعمالي الروائية لتكون متسقة مع الفكرة العامة وجاذبة ومدهشة، ومتسقة أيضًا مع فكرة الإبداع التي أراها ما يميّز كاتب عن آخر. "الحرب التي أحرقت تولستوي" عنوان ألهمتني به أحداث الرواية التي تتناول قصة مراسل صحافي عربي وجد نفسه في أتون الحرب الروسية الأوكرانية فجاء العنوان يحمل أبعادًا رمزية وتناصًا على فكرة الحرب والسلم التي خلّدها تولستوي في روايته الشهيرة، وربما عنوان روايتي جعلني في مرمى بعض النقاد خاصة الذين لم يقرؤوا الرواية، واعتبر البعض أن استخدام اسم روائي شهير في العنوان هو محاولة لاستدراج القارئ، أنا لا أنكر نيتي في استدراج القارئ أبدًا، لكنني راهنت على أن من يقرأ الرواية سيشعر أن العنوان لم يكن عبثيًا بل كان جائزة القراءة الممتعة التي سيخرج بها من يقرأ النص.

(*) حدثينا عن غسان كنفاني كما قرأتيه، أو كما تشكل في وعيك؟

لقائي الأول مع غسان كنفاني كان عبر روايته "عائد إلى حيفا" وبعدها توالت القراءات. قرأته كما قرأه الكثيرون قلمًا فلسطينيًا مثقفًا ومقاومًا ومنافحًا عن الوطن الذي هُجّر عنه قسرًا. من رواية "عائد إلى حيفا" تشكلت نظرة الوعي إلى نوع الأدب الذي تبناه كنفاني، أدب يقاس بمسطرة النضال من أجل وطن سليب والنضال من أجل توضيح ما حدث لفلسطين والسؤال الأكبر: لماذا حدث؟ كنفاني ظل بالنسبة لي رمزًا للأديب الذي عرف أن سلاحه في يده وحاول استخدامه بكل قوته وتوجيهه نحو العدو فقط وذلك ما أودى بحياته. وفي النهاية أنا جزء من وعي عربي ثقافي عام تربى على أن فلسطين قضية، وكل قضية لها من يحملونها ويدافعون عنها. والعالم مليء برموز النضال الذين خلّد التاريخ أسماءهم وخلدتهم أعمالهم وبطولاتهم. وإذا كان السؤال يشير إلى روايتي الأخيرة "نطفة في قلب غسان كنفاني" يمكنني القول إن الرواية سردية موازية لسيرة غسان من جهة ومفككة لنمطية الصورة التي اعتدنا عليها في كل من يكتب عن فلسطين من جهة أخرى.




(*) لك رأي يقول: يظل الكاتب محل ريبة لدى القارئ إلى أن يثبت النص عكس ذلك. ما الذي تقصدينه؟

الحديث عن العلاقة بين القارئ والكاتب شغلت الكثير من النقاد والمثقفين وربما ساهم النقد الحديث بمدارسه ومذاهبه المختلفة في تأزيم العلاقة أو تصويرها كأنها صراع بين القارئ والكاتب. أعتقد أن من حق القارئ أن ينظر بعين الريبة إلى أي نص إبداعي بين يديه فالنصوص في النهاية ليست منزهة. ويأتي دور الكاتب في إزالة هذه الريبة بجودة ما يقدمه في نصه، فالكاتب عليه أن يكون حذرًا ومحتاطًا ومتقنًا للعبة الحكائية التي يقدمها للقارئ، وأن يكون مقنعًا وناقلًا القارئ من مستوى شعوري إلى آخر أعلى وأكثر إدهاشًا. ربما مفهوم الريبة أفسره بعلاقة التوجس التي تصاحب القارئ مع كل نص جديد، هذا التوجس يزيله مضمون النص بعناصره مجتمعة أو يؤكده. لذلك أضم صوتي إلى صوت أحمد خالد توفيق: "الكتابة عمل شاق" وعلى من يتصدى لها أن يكون متيقنا من جودة أدواته وبراعة قلمه وأن يعتني بحرفية النص ليرتقي بذائقة المتلقي.

(*) هل مهمة الروائي أن يقنع القارئ أن ما تضمنته الرواية هو حقيقة، وليس نسيجًا من الخيال؟

أتعامل مع الرواية على أنها مقطع عرضي من حياة ما يصنعها الكاتب في خياله ثم يجرب أن يجعلها حقيقية على الورق. والعالم المصنوع في الخيال عادة يخضع لقواعد التخيل الذي يجعل المستحيل ممكنًا. لذلك عندما يخرج النص من عقل الكاتب إلى صفحات ورقية مطبوعة فإنه يتعرض غالبًا وعند كثير من الكتاب إلى موازنات وإعادة ضبط الأفكار والعناصر التي تمسك بالسرد. وربما لو أجرينا اختبارًا لعدد كبير من الكتّاب لوجدنا معظمهم يتفق على وجود تلك العمليات التي تشذب النصوص. وأعتقد أن الهدف الرئيس من عمليات التشذيب تلك هي محاولة إقناع القارئ وإتقان الإيهام الذي يمارسه الروائي. قد لا تبدو كلمة الإقناع منصفة في هذا الموضع، وأميل إلى تسمية الأمر بمحاولة الكاتب لخلق حالة التصديق التي تجعل القارئ يسير مع الحكاية متتبعا لها وكأنها حقيقة. وأضرب مثلًا روايات نجيب محفوظ التي لا يشك أحد في أنها من نسج خياله ولكن واقعية الملامسة التي تحدثها للبيئة الاجتماعية جعلتنا نصدق تمامًا مهران سعيد وأحمد عبد الجواد.



(*) الأدب النسوي، ما رأيك بهذا المسمى، هل هو موجود، أم أن الأدب هو الأدب بصرف النظر عن جنس كاتبه؟

هناك إشكالية كبيرة في عالمنا العربي تتمثل في المسميات وخاصة التي تتحول إلى مفاهيم اصطلاحية وأعتقد أن وصف الأدب الذي تكتبه المرأة بالأدب النسوي أو الأدب الذي يركز على قضايا المرأة بأنه أدب نسوي فيه نوع من القصور والإجحاف. الأدب لا تصح نفعيته إلا إذا كان إنسانيًا يعالج المشترك الإنساني. والإنسان لفظ يجمع الذكر والأنثى. لا أميل كثيرًا إلى تسمية الأشياء التي عليها أن تتصف بالمرونة والقدرة على الاستيعاب باسم ملاصق ثابت. الكتابة خصيصة تعتمد على الملكات والمواهب ومدى ما تلقاه الشخص من معرفة وثقافة وهي تنسحب على كلا الجنسين، وإذا سلمنا بدقة مصطلح الأدب النسوي فهل هذا يعني أن هناك أدب ذكوري؟ برأيي أن الأدب الإنساني هو المسمى الأصح لكل ما تكتبه المرأة أو يكتبه الرجل سيما أن إطلاق مصطلح النسوية واكب تقلبات اجتماعية ليست بريئة تمامًا وهذا لا ينفي أن كتابات المرأة قد يجمع بينها مشترك خاص بالنساء ولكنني أنظر إليه من منظار الإنساني الشامل أكثر من كونه مرتبط بجنس الكاتب.

(*) قد تكون الرواية هي المجال "الأخطر" للروائية العربية التي تعيش في مجتمع شرقي، ذلك أن القارئ يخلط أحيانًا بين ما جاء في الرواية وما بين شأنك الشخصي. ما رأيك؟

نعم، هذا صحيح إلى حد كبير، وهذا برأيي ليس له علاقة فقط بمجتمعاتنا العربية بل أراه سمة عامة تنسحب على عينة كبيرة من شعوب العالم. لو قدّمت نصيحة في أمر ما لشخص لتساءل مباشرة عما إذا كان الأمر قد حدث لك، فكيف بعالم الرواية الذي قد يتقن الكاتب حبك خيوطه ورسم تفاصيله الدقيقة وسبر عمق المشاعر الإنسانية إلى عمق يجعل القارئ يصدق ويقتنع، وهذا غالبًا يثير تساؤلًا ما إذا كانت قصة الرواية هي واقع عاشه الكاتب. سُئلت كثيرًا عن هذا الموضوع ولا أجد غضاضة في القول إن ما أكتبه نتاج التقاطات من الواقع قد يكون جزءًا منها، من واقعي الخاص، ولكنني أبدًا لا أكتب الخصوصيات الشخصية كما هي، وهذا هو محور عمل الروائي أن يعيد إنتاج التجارب الشخصية لتبدو بعيدة كل البعد عن ذاته. وربما تتعرض المرأة الكاتبة للخلط بين واقعها الشخصي وما تكتبه أكثر من الرجل بحكم كثير من الأعراف الاجتماعية أحيانًا وبحكم بعض التجارب غير الناجحة لكاتبات كرّسن ذاتهن وهمومهن وعالمهن الشخصي في كتاباتهن.

(*) أنت قارئة نهمة. ما الذي استوقفك في قراءاتك، ومَن أكثر الكتّاب الذين تأثرت بهم؟

بدأت القراءة باكرًا جدًا منذ مرحلة الدراسة الابتدائية يوم كانت المكتبة المدرسية وجهتنا الأجمل والأكثر إدهاشًا. ومن أكثر ما حفر عميقًا في شخصيتي الكتب التي اطّلعت عليها بحكم الدراسة والأبحاث الجامعية ومشروع التخرج. ومعظمها كتب في علوم اللغة وفقهها والبلاغة والصرف والقليل من كتب الفلسفة والمعارف العامة. لكنني مدينة دائمًا للأدب الذي لمع في مصر في الثلاثينيات من القرن الماضي: المنفلوطي والعقاد والزيات وغيرهم. وأما الكتّاب الذي ترك بصمة في لغتي فهو "وحي القلم" لمصطفى صادق الرافعي. وإذا تحدثنا عن عالم الأدب فالكتاب الروس استحوذوا على اهتمامي وبقيت مدة طويلة أسيرة لكتب دوستويفسكي وتولستوي إلى جانب ما قرآناه من كلاسيكيات عالمية. والآن أجدني منجذبة إلى قراءة الدراسات النقدية والمواضيع الفكرية. وبالمجمل، القراءة كانت الإبرة التي حفرت بهدوء ومثابرة في جدار الوعي لدي حتى كوّنت مع الزمن طاقة النور التي أطل برأسي منها إلى العالم. ودائمًا أنصح جيل الكتّاب الصغار الذين يريدون أن يقفزوا درجات السلم أن يتأنوا وأن يدخلوا عالم الكتابة من بوابة القراءة والمطالعة المتنوعة لأن القراءة الجيدة هي الأساس.

(*) حدثينا عن اللغة العربية وأنت الدارسة لها، أين ترين أهميتها؟

من نافلة القول عند الحديث عن اللغة العربية أنها هوية لغوية للناطقين بها، بل هوية ثقافية تحتضن أصول الفكر والوعي عند العرب. وهي وسيلة لفهم الإنسان ذاته أولًا وما يحيط به ثانيًا. والعربية لغة التراث الذي نطل منه على كتاب الله والسنة النبوية وبها نتداول الشعر والنثر وعموم ما أبدعه القلم العربي. لكن هذه اللغة تتعرض الآن لمعضلة كبيرة وتحديات كثيرة ويُشار إليها بالقصور والعجز عن مواكبة المستحدث والمستجد ولا أراه إلا تقصيرًا من أبنائها وعقوقًا في حقها. وقديمًا قال الجاحظ إن اللغتين إذا اجتمعتا في عقل المتعلم أدخلت إحداهما الضيم على الأخرى. فاللغة العربية تعيش ضيمًا، بفعل العناية بتعلّم وتعليم اللغات الأجنبية، بل ويتم إهمالها والاستهزاء بها ووصمها بالجمود والصعوبة. وكمعلمة للغة العربية، أعتقد أن الخلل الذي تعانيه لغتنا اليوم يقع معظمه من طريقة تدريسها للجيل حيث تدرس بطريقة جامدة منفرة بعيدًا عن الاستخدام المباشر. ومع ذلك أنا متفائلة بمستقبل اللغة العربية لأنها تملك مكونات البقاء والثبات خاصة مع تمسك الكثير من أبنائها البررة بتعلمها وتعليمها والتغني بها.

(*) عدد الروائيات الأردنيات يكاد لا يذكر أمام عدد الروائيين الذكور. إلى ماذا تعيدين ذلك؟

أعتقد أن هذه ظاهرة عامة في الوطن العربي كافة وليس فقط في الأردن. لا أستطيع أن أعطي أسبابًا دقيقة لها لكنني أعزو ذلك إلى أن الكتابة ليست بالعمل السهل. وتحتاج إلى تفرغ ذهني ووقت يسمح بممارستها. ربما أنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى مختلفة تتمحور حول الصورة النمطية السائدة حتى في الأوساط المثقفة عن المرأة الكاتبة والمتمثلة في كون ما تكتبه المرأة لن يعدو التنفيس عن مشاعرها تجاه الرجل وسطوة المجتمع. وأبرر وجهة نظري أن الأعمال الروائية لكثير من الكاتبات قل أن تلقى ترويجًا أو قراءة متمعنة، حتى من يكتبون عنها تظل آراؤهم تدور حول النظرة الانطباعية التي يجللها الكثير من المديح بعيدًا عن النقد. إذًا غياب النقد الحقيقي لرواية المرأة ساهم أيضًا في ضمور الأعمال النسائية، ناهيك عن النظرة السطحية للمرأة الكاتبة التي غالبًا تنظر إلى نصها باستخفاف وتقليل من قدرتها وثقافتها. هذا حدث معي عند ظهور رواياتيّ: "الحرب التي أحرقت تولستوي"، و"العبور على طائرة من ورق"، حيث تلقيت كثيرًا من التساؤلات عن كمية الوعي والمحاكمات العقلية والنفسية والاجتماعية فيهما.

على المرأة الكاتبة التي تؤمن بقلمها وتؤمن بإبداعها أن لا تستسلم إلى محاولات التقليل والانتقاص فإن الجيد يثبت نفسه في نهاية المطاف. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.