سارة شمة فنانة تشكيلية سورية الولادة، ونالت جوائز عالمية. في عام 2010 تم اختيارها كشخصية فنانة مشاركة في البرنامج الغذائي العالمي للأمم المتحدة. وكانت قد فازت بـ"جائزة البورتريه" عام 2004 من شركة النفط البريطانية في لندن. وفي ذات العام أصدرت دار النشر الأميركية (كيون برس) كتابًا عنها بعنوان "الفن عند سارة شمة: عشرات المعارض والجوائز".
في بيروت كان لنا معها هذا اللقاء:
(*) "تدخُّل أخضر" هو عنوان معرضك الأول في بيروت بعد عشرات المعارض في غير عواصم ومدن. الأخضر رسالة لمن؟ إحياء لأي عالم، ومن أي مَوَات ينبثق هذا التدخُّل الأخضريّ؟
منذ طفولتي بدأت الاهتمام باكتشاف الألوان في الطبيعة. وفي لندن قبل ثماني سنوات بدأت أتأثر بهذا اللون وبات من أهم الألوان عندي مع مندرجاته، ربما لاختلاف انعكاسات الشمس في لندن عنها عن بلادنا. هناك ترى اللون أحمرَ عندما تفتح عيونك ثم مع طلوع الشمس يصبح اللون الأخضر أقوى. كل الألوان موجودة ولكن اللون الأخضر بالذات وإسمه "انترفيرنس كرين" فقد تعرفت عليه من سنتين في لندن، وهو لون جديد في الأسواق. وهذا اللون لا يظهر إذا وضعناه على سطح أبيض وإنما يترك أثره على اللون الغامق، وبالتالي يترك عدة انطباعات من عدة زوايا. أيضًا أنا والدتي لبنانية، ولبنان أخضر، ومثله في سورية وفي لندن، ولكن لكل بلد أخضره المختلف. لا ننسى أن اللون الأخضر هو لون الضوء البعيد، وهذا يثير انتباه الرسام في عالمه الفني التشكيلي والإبداعي.
(*) هل أنتِ رسامة علم نفس أو اختصاص علم نفس الفن التشكيلي؟
علم النفس أحد حقول اهتماماتي منذ بداية الوعي. قرأت كثيرًا في هذا المجال لأن الإنسان محور اهتمامي في كل حالاته النفسية. أقرأ التعابير النفسية في وجوه الناس وأيضًا في حركة أيديهم. حركة الأيادي تشبه العيون وأرسمها كما البورتريه. اليدين تحكي كما العيون تمامًا.
(*) أزمة القيم الإنسانية التي نعيش، أين وضعت ريشتك عليها؟ خاصة أن عناوين معارضك السابقة كـ"الغباء الجماعي"، "العبودية الحديثة"، "الحرب والأطفال والشتات"، كلها عناوين تدل على إحساسك المرهف بأحوال الإنسان وقد جسدتها بريشتك ماديًا، ولكن القيم، من غياب الضمير، غياب العدالة، بطش الفاسدين، كل هذه القيم غير المادية، أين صببتها بصريًا؟ أين سترسو ومتى على أقمشة لوحاتك؟
أزمات القيم الإنسانية هي مصدر للإلهام. مصدر حقيقي للإلهام. أنا جسدتها بلوحاتي بشكل لا واع. مثلًا الحرب من المواضيع التي تركت تأثيراتها بي. وكما قلت فالشتات والعبودية الحديثة وإلى آخره طبعًا كلها مواضيع لم أخترها أنا، وإنما عشت هواجسها وبأشكالها المختلفة من الزواج المبكر إلى عبودية أصحاب العمل لموظفيهم إلى غيرها من أنواع العبودية الحديثة. وبالتالي يكفي أن أرسمها كي أعلن أنني ضد الظلم والكذب ولكل ما هو سيئ في هذه الدنيا. وهذا الأمر يشكل مادة إلهام للفنان ويضعه في دائرة التأمل والتفكير وكيفية استخراج هذه الأحاسيس والرؤى من داخله مضيئًا عليها لتكون لوحات تشكيلية فيما بعد.
(*) أنت رسامة بورتريه بجدارة، وعملت على إبراز الوجه الإنساني بأشكال متعددة، العيون حاضرة كأنما مليئة بالنبض الأبدي، الأصابع المتدلية تتلاشى ولكن بحيوية، إضافة إلى عدد من لوحاتك جسدت فيها أعضاء بشرية كاملة كالمخ، والأكباد المعلقة والمشروخة بالحديد، الأطراف المبتورة... هل هذا جمال القبح أو قباحة الإنسان وقد تجلّى بضربات ريشتك؟
هو ليس جمال القبح بالنسبة لي، هو الجمال الحقيقي، هو الحقيقة. والحقيقة فيها جمال، والإنسان بكل أشكاله الظاهر منها والباطني يمثل الحياة بمفهومي. والدم له لون ساحر وأرى فيه جمالًا لأنه رمز للحياة. الأعضاء التي رسمتها كانت بفترة الحرب وقد اشتغلت عليها خلال 2014 و2015. كنت في لبنان يومها بعد أن غادرت سورية. ولشدة اهتمامي ومتابعتي الداخلية والتأملية تعاونت مع قصّابي لحوم البقر. راقبت عملية إعدادهم لذبح هذا الحيوان، ودققّت بمحتوياته الداخلية. فأنا عندي حشرية إبصار ما في داخل جسم الإنسان منذ كنت في كلية الفنون، أو في ذهابي إلى المشرحة في كلية الطب. كنت آخذ مواعيد من اللحام (القصّاب) للتعرف على تقطيع أعضاء الحيوان. معرفة الجسم البشري عندي إنما هي خوض في الحقيقة وقبول لكل شيئ موجود. الجمال أمر حقيقي وجميل.
(*) وصلت إلى العالمية، ونلت جوائز عديدة وذات قيمة. عن أي عالم تود سارة شمة أن تضع إصبعها على جراحه؟
كما قلت لك يثيرني الغوص بالحقائق، واكتشاف النفس البشرية وسبر غور لاوعي هذه النفس. ما يهمني هو أن اكتشف أمرًا ما يزال مجهولًا، وأن أرسم اللوحة التي لم أرسمها بعد.
(*) هذا الإحساس العالي الشفافية عندك وقد نقلته بصريًا على مساحات الكمفاس الأبيض، أهو من عمق روحك الإنسانية أم نتاج مشاهد أو حالات عشتها؟ وهل عشت الحروب، التنقل، التشرد؟
طبعًا أنا عايشت الحرب وعشت التنقل، ولم أعش التشرد. ولم أفقد حبيبًا أو أصابتني أضرار كبيرة كغيري من الشعب السوري، خاصة أؤلئك الذين فقدوا أحبتهم وأرزاقهم وقاسوا النزوح والتشرد بسبب الحرب. وشعوري معهم ومنهم، ألجأ إلى القماش الكمفاس أنقل معاناتهم.
(*) لماذا ذهبت سارة شمة باتجاه الخوض في عوالم النفس البشرية؟ كأنه حالة من النذور، من "الرهبنة"، من تكريس الوقت الذي يصير ماضيًا وتحويله إلى مستقبل يقرع الرؤوس الحامية الملتهبة بأنواع الشرور؟ أصحيحة مقاربتي؟
أشرت آنفًا إلى "حشريتي" منذ الطفولة في السعي لاكتناه النفس البشرية والحالات النفسية الإنسانية سواء عندي أو عند الآخرين. صحيحة مقاربتك حول طقوس الرسم عندي. ولا ضير أن تسميها بـ"الرهبنة"، فأنا أعيش الاسترخاء عندما أبدأ بوضع لمساتي على الكمفاس. أنسى التفكير والتأمل، ويبدأ اللاوعي يبث مخزونه على اللوحة. هذا نوع من الارتفاع النفسي، أو من السمو الروحي. حالة من الصفاء الذهني، لأن العقل يحكي الكلمات ولديه قدرة على المعرفة، ولكنها محدودة، أما اللاوعي فمنه تنبع المعرفة الحقيقية والإبداع. طقوسي في المرسم تقتضي الغوص في اللاوعي كي أكتشف مكامن نفسي، فيكون الإبداع حرًا متماهيًا مع ريشتي إلى حين الانتهاء من تجسيدها على القماش. بصراحة، عندما أنتهي من اللمسات الأخيرة أشعر بالاندهاش. هذه الدهشة تعني اكتمال اللوحة وأصبح مشاهدة لها، أنفصل عنها، وأنتقل إلى مرحلة ثانية كمكتشفة لنواقص فيها بعين الناقدة.
(*) عندما تضع سارة شمة الريشة جانبًا وتنظر في عيون وضّاءة بالتعابير، حمّالة تفاسير لأنواع النزعات النفسية هل تتبادل الأحاديث بينك وبينها؟ بينك وبينك؟ بين ريشتك وصمتك؟!
صحيح، كما قلت لك تصبح اللوحة كيانًا آخر مختلفًا عن الكيان الذي كانت فيه تحت ريشتي. في حالة طقوس الرسم أنا نفسي أتحوّل إلى شخص آخر غير الشخص الذي يرسم. وهذه الحالة تخلق حالة حوار غريبة وممتعة بشكل غريب بيني وبين اللوحة، وبيني وبين الذي عمل اللوحة. "أخرج من حالي".
(*) تُشكّل مجموع ضربات ريشتك معنى ما تجسدينه كلوحة ناجزة. هل هي مدرسة خاصة بك؟ ما هو اسم هذا النوع من الضربات الحرة؟
إنها طريقتي في العمل الذي أرسمه. لا تسمية خاصة لها. ولكن في طريقتي هذه هناك مزيج من السوريالية التي تركّز على اللاوعي "الهايبر رياليزم"، يعني الواقعية المفرطة لأنها تترك تأثيراتها بي. إذ تتيح لي الغوص في تفاصيل العيون مثلًا. هي نوع من التجريد، وشيء من التعبيرية. إنها ضربات ريشة مجردة تجمع بعضها ثم تؤول إلى ما صارته.
(*) أي وجه إنساني لم تطرقه ريشة سارة شمة بعد؟ ومن هو هذا الوجه الذي تود رسمه؟
أنا دايمًا أتوق لما هو غير موجود، أو مجهول. أعمل على تأليف واختراع وجوه أشخاص. لا أدري من هو الوجه الذي لم أرسمه بعد، لكن يوميًا أحاول أكتشاف أمور كتيرة من خلال عيون شخص لا أعرفه وأنا بصدد رسمه باللوحة. حالة ممتعة إلى أبعد الحدود، وتعطيني شعورًا بالرضى والاكتفاء بشكل غريب.
(*) سؤال بسيط، من يقتني لوحات وفيها هذه الأكباد البشرية المعلقة بالسلاسل المعدنية والدم ينزف منها؟ هل لتذكير البشر فقط بقُبح ما يفعلون؟ وأين تبقى هذه اللوحات إذا لم تحظ بالبيع؟
هناك من يقتني من لوحاتي، ومن هذه اللوحات، وإن كانت اللوحات التي فيها أكباد وأعضاء تلاقي صعوبة في البيع. هناك من يحبون اقتناء لوحة من كل معرض أقيمه، أي من مراحل عملي. أما اللوحة التي تبقى فتكون لي في إطار الاحتفاظ بمجموعة خاصة لمستقبلي.
(*) إلامَ يرمز هذا الخيط الرفيع الذي يبرز في كل لوحة من لوحاتك وكأنه صار شريكًا لإسمك في التوقيع على هذه اللوحات؟
هذا الخيط الذي أرسمه دائمًا، وهو خط رفيع جدًا، غالبًا ما أخطّه بمشرط حاد بعد أن تنشف اللوحة. هذه الطريقة حالة مغرية في عملي بالنسبة لي. لأنها عكس الرسم تمامًا، ويخلق حالة عكسية ومختلفة عن الألوان في اللوحة. كما أنه يمنحني شعورًا بوجود فراغ بينه وبين اللوحة، وهذا يعطي بُعدًا آخر للوحة، وأنا أجده مثيرًا للاهتمام.
(*) سارة شمة ابنة الشام، متى الياسمين الدمشقي منثورًا بريشتها؟
سؤالك في مكانه. ولكن أنا أتأثر بالروائح والأصوات والموسيقى. فأينما ذهبت تكون روائح الشام معي، وملهمتي بشكل غريب. في لندن عشت ثماني سنوات، وكنت في الصباح أشم رائحة ياسمين الشام، فيعطيني شعورًا حلوًا. رائحة الياسمين هي رائحة الشام. أحب رائحة "الغبرة تبع الشام"، أحب رائحة المازوت المنتشرة بالطرقات. شيء كتير خاص عندي. الشام ملهمتي، وإن كانت غير موجودة في لوحاتي لكنها موجودة بشكل غير مباشر. في لوحاتي ترون سماء الشام، وطرق تدرج الألوان، وبعض الرماديات الموجودة بكثرة.


تحميل المقال التالي...