}

نداء يونس: التحدّي الأكبر أن تظلّ الكتابة صادقة وحرّة

أوس يعقوب أوس يعقوب 19 يوليه 2025
حوارات نداء يونس: التحدّي الأكبر أن تظلّ الكتابة صادقة وحرّة
نداء يونس
تعتبر الشاعرة والباحثة والمترجمة نداء يونس (1977)، من أبرز الأصوات الأدبية النسائية بين مجايليها في فلسطين، ببصمة واضحة في مجال الشعر؛ ذلك أنّ "شِعرها يغالب طغيان العالم" بحسب تعبير أدونيس.
صدرت لها حتى الآن، سبع مجموعات شعرية هي: "أن تكون أكثر" 2014، و"بروفايل للسيد هو" 2019، و"أنائيل" 2019، و"ليس إلّا" 2022، و"امرأة عمياء تقود الحافلة" 2022، و"يأتي متأخّرًا" 2023، و"احتفاء باللاشيء" 2024. إضافة إلى مجموعات شعرية مختارة ومترجمة: هي "كتابة الصمت"، و"تأويل الخطأ" التي أعدت للنشر بتقديم كتبه أدونيس عام 2019، لكن بسبب تفشي "فايروس كورونا" تأخّر نشره ورقيًا حتى عام 2022، و"كمثل السحب لا أعرف أين أقف" (ضمن سلسلة "شعر المرأة العربية أنت هي")، و"احتفاء باللاشيء" (ضمن مشروع "إشراقات") كما صدرت لها مجموعة شعرية مترجمة للفرنسية بعنوان "لا أعرف الشعر" Je ne connais pas la poésie بتقديم كتبه أيضًا، أدونيس، ترجمة الجزائري محمد قاسمي، ورسومات الفرنسية كولييت دوبليه.
كذلك صدرت لها على هامش مشاركتها في فعاليات "سوق الشعر" في باريس أخيرًا، مجموعة مختارة بعنوان "على حواف حادّة" Sur des bords tranchants قدّمت لها الشاعرة الفرنسية Florence Pazzottu وترجمة المغربي محمد العمراوي، عن "دار لانسكين" في فرنسا، تزامن ذلك مع صدور مجموعة ثنائية اللغة (إنكليزي/ ألماني) بعنوان "لي جسدان" Two Bodies / Zwei Körper ترجمة أنتي مانها وويندي مارث، ورسومات اليابانية الفرنسية ليا كاشيدي، عن دار النشر الألمانية koenigshausen-neumann. وصدرت مجموعة من قصائدها في أنطولوجيا شعرية صادرة عن "مهرجان سيت" عام 2023.
تمّت ترجمة قصائدها إلى الإنكليزية، والفرنسية، والإيطالية، والإسبانية والألمانية.
قامت نداء يونس بإعداد وتقديم أنطولوجيا الشاعرات الفلسطينيات التي صدرت بجزأيها: الأوّل بالعربية تحت عنوان "تلك الكلمة المقدّسة" 2024، عن "دار مرفأ" في بيروت، وبالفرنسية تحت عنوان "أرض متشظّية"، 2025، وهي تعمل على الانتهاء من إعداد وتقديم الجزء الثاني من الأنطولوجيا تحت عنوان "العالم كله فلسطين"؛ وتعمل بالتزامن على إعداد أنطولوجيا الشعراء الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
في حقل الترجمة، عملت نداء على ترجمة ديوان الشاعرة الصينية الألفية لي تشينغ تشاو (1084 - 1155م)، التي عاشت في عهد "أسرة سونغ" في القرن الثاني عشر ميلادي، وتُعدّ واحدة من أبرز الشاعرات في تاريخ الصين، وعلى قدم المساواة مع شكسبير، ونُشر الديوان تحت عنوان: "بحث، صيد، رغبة، تلَفُت". إضافة إلى ترجمتها للعديد من القصائد لشعراء عرب وفلسطينيين إلى الإنكليزية، وتعمل حاليًا على ترجمة مختارات للشاعرة الألمانية الموريشيسية الجنوب أفريقية تانيا هابرلاند. فضلًا عن كتابة العديد من المقالات النقدية في الرواية والشعر، والبحوث المحكمة في الإعلام والاتصال والدبلوماسية الرقمية.
لنداء مشاركات في عدّة مهرجانات أدبية عربية ودولية، مثل "مهرجان جرش" الأردن، و"مهرجان توزر" تونس، و"مهرجان الإيسيسكو في يوم الشعر العالمي" المغرب، و"مهرجان سيت" فرنسا، و"برنامج شعراء من القارات الخمس" فرنسا، و"أمسيات بيت الشعر" باريس، وأخيرًا، فعاليات "سوق الشعر" في باريس.
حازت نداء يونس في عام 2013 على درع "مهرجان القدس للشعر والأدب والفنون" في دورته السابعة. وكانت ضيف شرف في ندوة "جامعة لارينيون" حول "الشعر الفلسطيني الذي تكتبه الشاعرات". اختارت مجلة La Poesie الفرنسية قصائدها للنشر في أعدادها (167 و177 و186).
"ضفة ثالثة" كان لها مع نداء يونس هذا الحوار لتقرّبنا من عالمها الشعري، ومنجزها الإبداعي في البحث والكتابة والترجمة.

(*) بداية، كيف ترسمين صورتك من منظارك الخاصّ؟ وكيف تقدّمينها لقرّائنا؟
ما زلت أبحث عن صورتي في الكلمات وفي التجربة وفي الأسئلة الكثيرة التي ما زلت أطرحها وفي التدريب المتواصل على الإصغاء.
أحبّ أن أتحدّث عن الآتي، مشروعي الشعري. أكتب لأفتح مساحة توتّر، لا لتقديم أجوبة، بل لطرح الأسئلة. أؤمن أنّ الشعر ليس انعكاسًا للواقع، بل انكشافًا عليه، ووسيلة للنجاة بقدر ما هو مواجهة أعمل على استعادة الجسد بوصفه لغة، وعلى مساءلة المفردات التي ورثناها، وإعادة تعريفها من زاوية أكثر حميمية وإنسانية، داخل أبعاد عالمية.





أكتب لا لأتصالح مع العالم، بل لأقول ما لا يُقال. هذا المشروع لا يسير في الطرق المؤسّسية السهلة: لا يسترضي الخطاب السائد، ولا يساوم على الشكل أو اللغة من أجل الاعتراف. هناك دومًا مقاومة مضاعفة، ليس فقط لواقع الاحتلال، بل أيضًا لما تفرضه المؤسّسات الاجتماعية والأدبية.
التحدّي الأكبر أن تظلّ الكتابة صادقة، ومتورّطة، وحرّة، وفيّة للجمال كطقس وغاية للشعر في آن... حتى حين لا تجد منصتها.

(*) ماذا تخبرينا عن مشاركتك مؤخّرًا، في الدورة الثانية والأربعين من "سوق الشعر" في باريس، إلى جانب عدد من شاعرات وشعراء فلسطينيين من الوطن والشتات، وعن أهمية مثل هذه المشاركات خدمةً للقضية الفلسطينية، لا سيّما وحرب الإبادة الإسرائيلية الانتقامية المسعورة مستمرّة بلا هوادة ضدّ قطاع غزّة المحاصر المنكوب؟
تجربة عميقة ومركبة. كان هذا الحضور تمثيلًا رمزيًا لشعب كامل، نوع من الاعتراف بالوجع والوجود، وبالصوت الفلسطيني الذي غالبًا ما يُهمّش أو يُساء تمثيله في السرديات السائدة.
كانت إصغاءً لهذا الشعر الذي ينطلق من موضوع الحبّ كقناع للرفض الناعم، لتفكيك العنف عبر الحميمية، لاستعادة الوجه الإنساني للفلسطينيين، والذي يقدّم استعارة للحياة في وجه الموت، ومساحة للتأمّل الأخلاقي، وتحويل المظلومية التاريخية التي وقعت على الشعب الفلسطيني إلى أسئلة حول العدالة.
لقاؤنا له جانب مؤلم. إذ صارت كل البلاد أرضًا ممكنة للقائنا عدا فلسطين. لكنّنا شكّلنا معًا خريطة حيّة للهوية الفلسطينية الممزّقة والممتدّة في آن. كل صوت فينا حمل تجربة مختلفة، لكنّنا اجتمعنا على حقيقة واحدة: أن نُسمع في هذا الفضاء الثقافي هو خطوة مهمّة لخلق فهم أعمق لتجربتنا الإنسانية.

(*) حدثينا عن مجموعاتك الشعرية الجديدة الصادرة بالفرنسية والإنكليزية والألمانية، والتي رأت النور في الأسابيع القليلة الماضية؟
لم يكن هذا مخطّطًا له، لكنّه خطوة في اتّجاه توسيع الجغرافيا الشعرية التي تتحرّك فيها كلمتي.
تزامن الإعلان عن صدور "على حواف حادة" (Sur des bords tranchants)، عن دار LansKine الفرنسية، مع التوجّه لإصدار الطبعة الثانية من "لا أعرف الشعر" Je ne connais Pas La Poesie، الصادرة عن "دار المنار" بفرنسا. ليس الأمر مسألة ترجمة فقط، بل اختبارًا للغة كأرض ثالثة، وتواجدك في محيط لا يعرفك لكنّه يصغي إليك. هذا شعور لا يشبه شيئًا.
أما المجموعة الثانية، "لي جسدان– Two Bodies – Zwei Körper"، فهي عمل ثنائي اللغة (إنكليزي – ألماني)، صدرت عن دار Königshausen & Neumann، يحمل الغلاف تعليقًا غير مألوف في الساحة الأدبية هناك: "يواجه منجز الشاعرة نداء يونس الإبداعي قوّتين متعارضتين: الاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى منذ زمن طويل إلى السيطرة على فلسطين وشعبها، والنظام الأبوي المتجذّر بعمق، الذي يصادر حياة النساء وأجسادهنّ ويمنعهنّ من التمتّع بالسيادة على أراضيهنّ الخاصّة".
يشكّل هذا اختراقًا رمزيًا لمساحات الخطاب السياسي والثقافي الأوروبي. أشعر أنّ هذا الكتاب، بهذا الشكل، استطاع أن يخلق فجوة في جدار السردية النمطية عن فلسطين، وعن الفلسطينيات، وعن الشعر بوصفه فعلًا وجوديًا مقاومًا.

(*) ماذا عنى لكِ التوجّه إلى القرّاء الغربيين؟ وهل يراودكِ كشاعرة فلسطينية عربية قلق العالمية؟ وكيف ترين تجربتكِ الإبداعية في سياقها الفلسطيني والعربي والعالمي؟
هي تجربة متبادلة في الاصغاء العميق: العالم لي أنا لإيقاعي فيه.
لم أولد لأحبس داخل جغرافيا، يكفي أن أكون تحت احتلال وأيديولوجيا لم أخترها. تنتمي تجربتي إلى طبقات متداخلة: هي ابنة الأرض الفلسطينية، تنمو في مناخ تحوّلات قاسية، لكنّها في الوقت نفسه تحمل عناصر تجعلها قابلة للحوار مع العالم. لا أفصل بين المحلّي والإنساني. فأكثر اللحظات صدقًا في الشعر، هي تلك التي تعبر من الخاصّ إلى الكوني بدون أن تفقد جذورها.

(*) كيف تنظرين إلى جغرافية الشعر الفلسطيني الآن؟ وهل ترين أنّ الترجمات الكثيرة التي حظيت بها بعض التجارب الشعرية قادرة على فتح المجال صوب كونية قصيدتها؟
خارج الآني الذي شكّلته الحروب - والذي حول كل نصّ فلسطيني إلى ممكن للترجمة لأنّ العالم يرغب بأن يصغي الآن، فإنّ كونية القصيدة لا تأتي من الترجمة وحدها، بل من جوهر النصّ نفسه، من قدرته على حمل أبعاده المحلّية، وفي الوقت نفسه، على فتح أبوابه لأسئلة الإنسان الكوني: الحبّ، الفقد، الحرّية، الزمن، الجسد، والحقّ في التمثيل والسرد.

(*) ما تفسيرك لظاهرة إلغاء الحضور الفلسطيني في فعاليات أدبية وثقافية أوروبية كبيرة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مثلما حدث العام الماضي حين ألغيت دعوة فلسطين لسوق الشعر؛ وهو ما كان سيحدث هذا العام أيضًا، لولا التراجع عن القرار بعد الضغوط من مئات الشعراء والمثقّفين الفرنسيين ومن مختلف أنحاء العالم. قبل ذلك، على سبيل الذكر فقط، إلغاء فعالية تكريم الروائية عدنية شبلي في معرض فرانكفورت للكتاب 2023؟
هذا الإلغاء امتداد لسياسات الإقصاء والاستعمار الرمزي ومنع التمثيل والسرد، ونفي الفلسطيني من الحضور لا فقط في الأرض، بل في الذاكرة أيضًا – وهو جزء من آليات الهيمنة.
هؤلاء يحاولون إلغاءنا لأنّنا نحمل حقيقتنا معنا، التحريض والتشويه ضدّ وجودنا متجذّران في الثقافة الصهيونية منذ ما قبل النكبة. يمكن العودة لأبحاث المحاضرين الإسرائيليين دانيال بار تال، ونوريت بيلد إلحنان، وآخرين. يتساوق هذا مع حملات "الهاسباراه"، الانحياز وتزوير الواقع وتقييد وجود الفلسطينيين على مواقع التواصل وحتى استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج التضليل.
في المقابل، يُثبت التضامن الثقافي العالمي أنّ الفضاء الثقافي ليس حكرًا على قوى الضغط، وأنّ العالم يفهم أنّ هذا المنع امتداد لرفض إنساني للإبادة والاحتلال. هذه الضغوط ليست مواقف آنية، بل إعادة ترتيب لموازين القوّة داخل الحقل الثقافي العالمي.

(**) بالعودة إلى بداياتك، كيف كان جوّ البيت والمكان الأوّل، وهل هناك عوامل دفعتك إلى الشعر؟
لم يكن الأمر سهلًا. كثير من الصمت المفروض ورفض الأسئلة والتحدّيات. كنّا دفنا مكتبة العائلة في التراب خوفًا من مصادرة جيش الاحتلال لها في الانتفاضة الأولى وأتلفها المطر، ثم كان المجتمع ضاغطًا. قوالب وأنساق غير منطقية تريد إنتاجنا كنساء، نسخًا واحدة، في ظل غياب أي حوار مجتمعي أو تفكير نقدي، وخوف كبير من السؤال وضغط هائل لارتداء الأحجبة وإنكار حتى أبسط الحقوق: الصراخ والضحك.
مطالبةً بالامتثال، كنت أدرك أنّني روح مختلفة واحتجت للتعبير في ظل تخوّف يتزايد من والدتي التي كانت تريدني نسخة أخرى، وتشجيع أبي لي على أن أكون أنا.
كنت بحاجة إلى حامل لكل هذا، جاء الشعر حينها بدون قصد، نتيجة لكل هذه التراكمات.

(*) من هي الأسماء الشعرية سواء الفلسطينية أو العربية والعالمية التي شكّلت ذائقتك وحِرفيتك في الكتابة؟
حفظت مبكرًا جدًا 1500 بيت من الشعر العمودي، ثم قرأت كتب الفلسفة والفكر. وفي مرحلة متأخّرة الشعر المعاصر. ولكي أكتب، كان لزامًا عليّ أن أنسى كل ما قرأت.
أعتقد أنّني كنت أكتب (نداء) لا الآخرين، كنت أفكر فقط هل يمكنّني أن أجعل الحبّ والشكّ والجنون والثورة والخوف والتحدّي والتوتّر والشروخ والندوب والجروح والرغبة شيئًا علنيًا يقف وحده في مواجهة العالم.
تقول الشاعرة والناقدة التونسية الفلسطينية كوثر الزين: "أوّل الرأي الأصالة الملفتة... لم أعثر على آباء لقصيدتك في أي سطر. ماؤك من نبع بكر. لا تشبهين سوى نفسك وتلك دهشة المدهش. صفة لا يمتلكها غير نوابغ الشعراء".
هذا رأي اشترك فيه نقاد كثيرون. رغم ذلك، أؤمن بمقولة إنّ "الشعر هو كتابة على كتابة". إذًا لا بدّ من أبٍ لهذا كله وأعتقد هنا أنّها المعرفة والفلسفة وليس الشعر أقصد ما يكتب من شعر، كما هي تجربتي: "أنا الطائر الذي يحلّق/ وقدماه في قيد".
هذا أنا، أتحرّك هكذا وأريد أن أكون هكذا. كنت في البداية أحمل المطرقة، الآن جسدي هو المطرقة. شعري فعليًا مُنتَج لحركة جسدي في العالم.

(*) متى تولدُ قصيدتكِ؟ وما هي المنابع التي تولّد نصوصك الشعرية؟
ربما أدركت مبكرًا أنّه في مسألة الأبوة الكتابية، يجب أن أكون هناك، في رأس الينبوع، في فم الشلال، في اندفاع الماء وفي ارتطامه الأوّل في الصخور، إن لم أكن أنا ذاتي الماء. عليّ أن أكون في أي مكان، لكن ليس في المصبّات. أن ألعب بالزمن والمعرفة والمكان والماضي والمستقبل والعناصر كالدمى، مؤسّسة هذا اللعب على الخلفية المعرفية والتجربة واتّجاه الحركة.
هنا أيضًا يقف الشاعر جلال الدين الرومي وابن عربي وابن سينا الذي لم يكن عالمًا فقط، بل شاعرًا مذهلًا والمتنبي وغيرهم. كثيرًا ما أرى ظلًا كثيرًا على الشعر خارج تجربتهم الشعرية التي تلهمني بعلوها ووقوفها حيث يجب من كل شيء، كما يلهمني إحساسي بأنّني يمكن أن أوقّع اختلافي معهم أيضًا من خلال الشعر.

نداء يونس في سوق الشعر في باريس 


أعتقد أنّني أحببت الشاعرة الصينية المتمرّدة لي تشينغ تشاو التي عاشت قبل ألف عام، وكتبَتْ الشعر في أثناء العواصف على أسوار مدينتها لدرجة أنّني عملت على تقديم ترجمة أولى لشعرها المذهل إلى العربية.

(*) أعود معك للحديث عن كتابك "تلك الكلمة المقدّسة: أنطولوجيا معاصرة لشعر المرأة الفلسطينية"، كيف تبلورت فكرة الكتاب؟ وما الذي قادك نحو الموضوع؟ وكم من الوقت استغرق إنجازه؟ وماذا يتضمن تحديدًا؟
ما دفعني لإعداد هذه الأنطولوجيا هو شعور عميق بوجود أصوات شعرية فلسطينية كُتبت من الهامش أو دُفعت إليه، رغم ما تحمله من كثافة لغوية، وجرأة فكرية، وتجربة إنسانية ووجودية جديرة بالإنصات. رأيت أنّ من الضروري تقديم هذه الأصوات في إطار نقدي جديد لا يحصر الشاعرة في صورة الضحية أو الرمز الوطني، بل يعترف بها كذات فاعلة، خالقة للمعنى، قادرة على تفكيك اللغة وإعادة إنتاجها.

(*) تقومين حاليًا بإعداد أنطولوجيا موسّعة تحت عنوان "العالم كله فلسطين"، والتي ستضم قرابة 128 شاعرة خلاف الـ 23 شاعرة اللاتي ذكرتهنّ في أنطولوجيا "تلك الكلمة المقدّسة"، هل من تفاصيل أكثر عن هذا العمل؟ وماذا ستضيف هذه الأنطولوجيا عن التي سبقتها؟
هي توثيق أنطولوجي نقدي للشعر غير الكلاسيكي الذي كتبته الفلسطينيات منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عام 2025 من فلسطين قبل النكبة أو بعدها. تقدّم هذه الأنطولوجيا 49 شاعرة فلسطينية من الشتات والمنافي مثلًا، وتضئ على تجارب حديثة لم تصدر لها أعمال شعرية وتشي بمستقبل شعري مختلف، إذ تفتح الأنطولوجيا مساحة للقصيدة القادمة من الشقوق، من الحياة اليومية.
هذا المشروع ليس أرشيفًا، بل هو فعل مقاومة جمالي ومعرفي ضدّ الذائقة المكرّسة والمنظومات التي تمنح الاعتراف بناءً على أدوات السلطة لا على قوّة التجربة. من خلال احتضان أصوات بعيدة عن المؤسّسية،
هو أيضًا بيان ضدّ الحذف وتهميش التجارب التي لا تُكتب بلغة المركز، أو لا تمرّ عبر مسارات الوجود الثقافي المألوفة. ومن هنا، فهي دعوة لإعادة التفكير فيمن يُسمح له أن يُعدّ شاعرًا، وأي قصيدة نختار أن نُنصت لها.

(*) انطلاقًا من اشتغالكِ على هاتين الأنطولوجيتين ما هو تقييمك للمشهد الشعري الأنثوي أو النسائي الفلسطيني الراهن؟
هو مشهد غنيّ بالتنوّع والدهشة، تتقاطع فيه تجارب فردية وأساليب فنّية ولغات متعدّدة، من الوطن المشظّى والمنافي، في تعبير عن وحدة الوجع وتشظّي الجغرافيا. تكتب الشاعرات من عمق التجربة، في مواجهة حقيقية مع الجسد، والمنفى، والحبّ، والأمومة، واللغة.
لم يعد هذا الحضور هامشيًا، بل في قلب القصيدة الفلسطينية، بإنتاج شعري متنوّع يتأرجح بين الاعترافي والتجريبي، المحلّي والكوني. تتنوّع أصوات النساء، اللاتي يكتبنّ من عنف مفتوح ضدّ الجسد، ودفع للأشياء كي تختفي في الضفة الغربية وقطاع غزّة في ظل حرب الإبادة والاستيطان والسجون المفتوحة والجدران العازلة؛ نظام عنصري تمييزي يهدف إلى محو الهوية في الداخل المحتل عام 1948؛ فقدان المعنى وتفكّكه في الشتات - في ظل هشاشة الهوية واللغة، في المنافي والشتات؛ وتهديد متواصل للجسد/ البيت في القدس المحتلّة.

(*) كيف تقرأين قصائد ونصوص شاعرات غزّة التي كتبت "تحت النار" والحرب الإبادية الإسرائيلية الوحشية مستمرّة؟
تُفلت نصوص شاعرات غزّة المكتوبة "تحت النار" من التصنيف، وتُقارب لحظة الحياة والموت. إنّها وثيقة وشهادة وارتجاف ذاتي يُواجه العدم وتُدافع عن الحياة في أكثر ظروفها استحالة. الجسد فيها ليس رمزًا، بل مادّة يومية تتكسّر، تنهض، وتحمل بيتًا أو طفلًا أو فقدًا... هذه القصائد تُنزف لا تُكتب، وتُمارس مقاومة جمالية وأخلاقية، تُعيد تعريف دور الشاعرة كشاهدة.

(*) بتقديرك، ما الذي قدّمتهِ أنتِ وبنات جيلك من إضافة للشعر الفلسطيني، وما هي ملامح تجربتكنّ؟
أعتقد أنّني - ومعي كثير من شاعرات جيلي- قدّمنا للشعر الفلسطيني ما يمكن تسميته بـ "الانزياح الضروري" - انزياح عن مركزية الخطاب الذكوري والمكرّس، وعن قصيدة الموقف الجاهز، وعن التصنيفات الصلبة للهوية، نحو صوت أكثر تشظّيًا، وأكثر جرأة في مساءلة الذات، الجسد، والمقدّس السياسي والثقافي معًا.
نحن جيل لا يرى القصيدة سلاحًا فقط، بل ملاذًا، ومختبرًا للغة، وأحيانًا فضاءً للشفاء والاستعادة أو الاحتجاج. ملامح تجربتنا تتجلّى في تعدّد الأصوات، وفي تفكيك المفردة الفلسطينية الكلاسيكية، وإعادة كتابتها من زوايا أكثر حميمية وتشظّيًا. دخلت الجغرافيا إلى أجسادنا، وخرجت الذاكرة من الخُطب إلى الهمس، صارت القصيدة أرضًا نزرع فيها الأسئلة لا الشعارات.
ربما أجرؤ على القول إنّ ما أضفناه هو استعادة حقّنا الكامل في الصوت، لا بوصفنا موضوعًا شعريًا، بل كفاعلات شعريّات يُعدنّ إنتاج اللغة من موقع هشاشتهنّ وقوّتهنّ معًا، خارج الكليشيه، وخارج الحاجة إلى تقديم أنفسنا كـ "استثناءات" في المشهد.

(*) هل أعطى النقد تجربتكِ الشعرية حقّها؟ وإلى أي حدٍّ أسهم هذا النقد في تطوير مشروعكِ الشعري؟
أكتب لأبني مساحة هشّة ومنفتحة على الاحتمالات. لذلك أرى النقد الحقيقي رفيقًا لا وصيًا. تأثّرت بقراءات نوعية كثيرة ومتنوعة داخلية - أعمقها ما جاء من أسرى كتبوا عن تجربتي من سجون الاحتلال، ومن الغرب من أجانب وعرب. لم يقف الأمر عند حدِّ القراءة والتقديم، بل تحوّل إلى تبنٍ كامل للنشر والترجمة والترويج.
لكن، رغم ذلك، أقول بأنّ مشروعي الشعري لم يحظَ بنقدٍ عربي معرفي عميق أو مستمرّ، ربما بسبب جغرافيا النشر، أو بسبب توقّعات نمطية تُلصق بالكتابة النسوية العربية عمومًا، أو تقليدية الأدوات النقدية لا تكشف أو تقف قاصرة عن تفكيك هذه الكتابة التي تمثّل توجّها لدى عدد من الشعراء والشاعرات الآن، وأسميها "كتابة الجسد"، أي كتابة التجربة، الكتابة من مسافة صفر.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.