}

عامر الطيب: ينبغي أن نؤمن نحن الشعراء بتحرير فلسطين

دارين حوماني دارين حوماني 3 يوليه 2025
حوارات عامر الطيب: ينبغي أن نؤمن نحن الشعراء بتحرير فلسطين
عامر الطيب
في هذا الحوار العميق والممتد، يكشف الشاعر العراقي عامر الطيّب عن رؤيته للكتابة والحياة والبلاد، متناولًا تأثيرات الحروب على الإنسان العربي والسكوت الإعلامي المُطبِق عن الجرائم الإسرائيلية، وتحولات العاطفة واللغة والهوية في ظلّ واقع سياسي واجتماعي مضطرب. يتأمل الطيّب في دور الشاعر العربي، وفي الثقافة الانهزامية التي يتبناها المثقفون العرب في عالم يتآكل فيه المعنى. ويناقش العلاقة المعقدة بين الطائفية والانتماء في العراق. إنه حوار لا يخلو من الألم، لكنه ينطوي على شغف بالشعر بوصفه وسيلة لمقاومة الخوف.

أصدر عامر الطيّب 8 مجموعات شعرية، بدأها مع "أكثر من موت بإصبع واحدة" عام 2018، ثم أصدر مجموعته الثانية "يقف وحيدًا كشجرتين" التي فازت في المسابقة الأدبية للاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق لعام 2018. وترجمت مختارات من قصائده إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والكردية والفارسية.

آخر مجموعاته الشعرية هي "قصائد الثلاثاء الفائت من كل عام" التي فازت عام 2023 بـ"منحة مفردات" في بلجيكا للكتابة الإبداعية، وصدرت قبل فترة قصيرة عن "مرفأ للثقافة والنشر" في بيروت.

هنا حوار معه:

(*) ثمة غزارة إبداعية نشهد عليها عبر حسابك على فيسبوك، غزارة غير مقترنة بالتكرار، بل مقترنة بكثافة لافتة، وبأفكار جديدة في كل مرة. أريد أن أعرف منك: من أين يأتي كل هذا الشعر الذي تنتجه بشكل متواصل؟

هذا شيء لا يمكنني الإجابة عليه بطريقة دقيقة. على العموم، في الشؤون الشعرية لا نتوخى الدقة، لأن كل شيء قابل للانقلاب والتغيير. لكن بما أني لاحظتُ تلك الغزارة بالمقارنة مع ما ينشره رفاق مجايلون كُثُر، فإني أُحيل ـ من باب الإحساس الذاتي ـ تلك الغزارة إلى ثلاثة أسباب. لعلها الإخلاص للشعر، والفراغ المعقول، والعزلة الاجتماعية إلى حد ما، أو لأكن دقيقًا: العزلة التي تعني النأي عن الأجواء الثقافية والفعاليات والطقوس التي تشحن المرء باليأس من نفسه، والإحباط من دور موهبته في إحداث أي أثر.

لقد أخلصتُ للشعر منذ طفولتي إخلاصًا لا أجد له مبررًا الآن. غامرتُ ذات مرة بامتحان مصيري للغة الإنكليزية من أجل عيني أبي العلاء المعرّي، بغية إكمال قراءة ديوانه "سقط الزند". كانت متعة لا تُقدّر بثمن، وكنتُ أظن أن ما أفعله هو المنطقي. تلك هي الكارثة، أليس كذلك؟ الكارثة، قلتُ الكارثة. ولعل من أسباب غزارتي الإحساس الأليم بالكارثة التي نعيشها بخزي، كما لو أننا أحد أسباب الدمار العربي المتواصل منذ قرون.

أما الأفكار الجديدة واللافتة، فلعل ذلك نتيجة حتمية للاستمرار في الكتابة، إذا صاحب ذلك الاستمرار حبٌّ وارتياحٌ وشعورٌ بالعطش. وما الكتابة إلا شعورنا بالعطش وبالخوف من أن نرتوي مرة واحدة وإلى الأبد.

(*) تقول الشاعرة الأميركية ترايسي ك. سميث: "يمكن للشعر على وسائل التواصل الاجتماعي أن يكون وسيلةً لاستعادة الصوت والظهور، خاصةً لمن هم خارج نطاق النشر التقليدي". كيف تنظر إلى دور مواقع التواصل الاجتماعي في إبراز شعراء شباب لم يعودوا بحاجة لانتظار أسابيع، وأحيانًا أشهر، كي تنشر لهم الصحف والمجلات قصائدهم؟ مع الحديث المتواصل عن طفرة "القصيدة الفيسبوكية"، وهناك من يقارنها بثقافة البوب، كما أنها تعزّز من السرقات الأدبية؟

ما تقوله تلك الشاعرة الأميركية يبدو شائعًا وغير مفيد، إذ إن فيسبوك أتاح بالطبع تلك الفرصة لشعراء كُثُر بالتعبير متى ما أحبّوا وكيفما أحبّوا. لكن لم يعد لقصيدة الفيسبوك أي أثر، ولم تعد لنشرها تلك اللذّة التي كان الشعراء يستعذبونها حين تنشر لهم الصحف والدوريات. الإنسان، بالطبع، لا يتعجّل بحبّ الأشياء المتاحة، وفيما لو اقتنعنا بأن الفيسبوك خدم الشعراء، فينبغي ألا نغفل عن أنه أضر بالشعر نفسه. يمكنك النظر إلى ابتذال قصيدة النثر حدّ الاستغراب والاستهجان، هذا بالإضافة إلى عدم العناية الكافية باللغة؛ اللغة، تلك الديباجة التي تهبك القدرة على مواصلة القراءة أو تطردك ما أن تطأ عتبة النص.

قد أكون متشائمًا على نحوٍ ما، لكني أشعر دائمًا أن القصائد الجيدة تصل، سواء انتظرت أسابيع طويلة أو نُشرت بضغطة زر. وأعني أنها تصل إلى المستقبل، لا إلى المتلقّي الآني. وإن تأملتِ تاريخ القصائد العظيمة والشعراء الغنيين بالفعل، فإن أشدّهم إحساسًا بالكلمة البشرية لم يصلوا إلا بعد أن تحوّلوا إلى رماد. حتى إنّي أكاد أشعر أن الكلمات الحقيقية ألمًا وإبداعًا لن تُكتَب إلا لزمن قادم، والله العالم.



بيروت مثلنا محترقة القلب

(*) صدرت لك مؤخرًا مجموعة شعرية في بيروت، وفي إحدى قصائد المجموعة تكتب عن بيروت: "حبّ بيروت/ يندفع صافيًا كالضوء في الفراغ/ فتقطعه الأيدي". هي صورة كثيفة تحمل الكثير من التوتر بين النقاء والانكسار. ما الذي تمثّله بيروت لك شخصيًا وشعريًا؟ هل هي مكانٌ للحبّ أم ساحة للفقد؟ وهل قطع الأيدي هو انكسار داخلي، أم قوى خارجية؟

زرتُ بيروت مرة واحدة، ولم تستغرق إقامتي بها سوى أيام. وبالطبع لا يسعني ذلك الزمن للحديث عن بيروت، إنما عن حبّها فقط. إذ كنتُ منذ سنوات بعيدة مغرمًا بتلك المدينة التي حوّلها الشعراء إلى فتاة شقراء لا تنتمي عميقًا إلى الزمن العربي. خلال تلك السويعات القليلة، بدا لي أن بيروت أقرب إلى نفسي مما وصفها الشعراء. رأيتُ أنها بيروت الأليمة والخائفة، المجنونة والمُحطَّمة. وحتى شارع الحمرا: فهناك الفنانون والشعراء، وهناك اللصوص والمتسوّلون، وهناك من لا يمكنك التمييز بينهم. على أية حال، أهم اللصوص أم الفنانون؟ الشعراء أم المتسوّلون؟

وهنا تقطع ذلك الضوء الذي كنتُ أحمله داخلي طيلة هذا الوقت، قطعته الأيدي؛ أيدي الناس في بيروت، الغرباء وأبناء أحيائها. وإذا بي أشعر أن بيروت، مثلنا، محترقة القلب، تقف على ماضٍ تمّ نسفه، وحاضر غير أكيد، ومستقبل مرهون بقضايا سياسية معقّدة، لعلنا لم نصل إلى نهاية هذا المشهد القاتم حتى الآن.

(*) في مجموعتك هذه، وهذا ينطبق على أغلب قصائدك، ثمة سوريالية حادّة ومفاجِئة: "يقشّر رجلٌ قلبًا... ليقوم بعد ذلك بثقبه... غير أن الرجل يستخدمه كمصفاة، ثم أغيّر رأيي بعد مئة عام، فأقول إن الرجل يستخدمه للصيد"، "أتأمل فمك كأنه كان فيما مضى درجًا/ تتدحرج الكلمات..."، "في الدموع يعلق البشر كأجنحة براغيث"، وغيرها الكثير. هل السوريالية بالنسبة إليك عملية إنتاج الصور من قلب العبث وغير منفصلة عن الألم والذاكرة، وبالتالي زاوية تهرب بها من الواقع؟

السوريالية أو الغرائبية في الأدب جزء أصيل من الأدب نفسه، وليست تيارًا غربيًا - هكذا كنا نظن على أية حال- وأعني أن تلك الإحالات التي نشعر بالغرابة إزاءها ليست هروبًا من الواقع، بقدر ما هي انتماء إليه أو محاولة فاشلة لتمثّله ومجاراته. فإذا أنا وأنتِ دققنا في أي خبر عاجل من أخبار الحرب في غزة، أو المجازر في الساحل السوري، أو في مكان آخر، سنرى أن ما كتبناه من شجن مأساوي وغرائبي يبدو باهتًا إلى حدّ كبير.

أحاول أنا، ويحاول أي شاعر آخر، الوصول إلى فهم عصره، والعيش مع تحولات عصره ونكباته. بشكل أو بآخر نُطوّر مناعات شعرية لنستمر عائشين في عصرنا. لكن المحاولات تبدو مختلفة، وهذا الأمر يخدم الفن نفسه، إذ ينحو شاعرٌ ما إلى تبسيط الأحاسيس لتصل إلى قدر أكبر من البشر، فيما يرى شاعر آخر أن تعميق تلك الأشياء، وجعلها تبدو أشد جنونًا وغرابة، سيجعلها تصل إلى عدد قليل من القرّاء، لكنه عدد أعمق وعيًا وإحساسًا.

الغرابة في العين التي ترى، لا في اليد التي تُترجم وتحوّل تلك الصور الملتقطة إلى كلمات عذبة أو رديئة. والشعر أكثر الفنون التصاقًا بالعين كآلةٍ للبصيرة، لا للنظر فقط. أرجو أن يكون هذا الشق الصغير مفهومًا، ولا يُعزى إلى تفلسف فارغ.



(*) تعود إلى المرحلة الداعشية في نص شعري يحمل هواجس الحروب وتلك المرحلة: "إن كبرتَ وصرتَ عضوًا/ في منظمة إرهابية/ أرجو ألا تخطف ابني/ وإن خطفته أود ألا تعذّبه..."، وتكتب: "المدافع تدوي خارج البلدة/ لكن أصواتها تشغلنا عن موتنا الطبيعي/ عن فراخنا التي لم نطعمها/ ضربات قوية دون أي لطف/ وموت خفي". هل ترى أن الرعب في العراق تحوّل من كونه حدثًا طارئًا خارجيًا إلى قلق داخلي عميق يسكن الإنسان العراقي؟

الرعب العراقي رعب تاريخي موغل في القِدم، رعب لا ينفصل عن الأزمنة، كما لو أنه يشغلها كلها. وهو، بالطبع، كما عبّرتِ أنتِ، قلق داخلي يسكن الإنسان العراقي، وليس ذلك القلق سوى انعكاس لتاريخ طويل من العذابات والانقلابات والمجاعات والاحتلالات. ولعلكِ تدركين أن المأساة تنعكس في الفنون والأخلاق البشرية أكثر مما تنعكس في أي نشاطات أخرى.

وهذا الرعب الذي نتحدث عنه جعل العراقيين يبحثون عما يوازيه من بكاء أو صراخ، يعيدون إنتاج المأساة والكارثة. ولك أن تتأملي الآن الطقوس العاشورائية، وتلقي نظرة على ذلك البكاء المصحوب بحرقة، ألا يبدو ذلك شعورًا بالرعب من المصير نفسه؟ ألا يبدو أنهم يعيشون ذلك الرعب كل عام بدون كفاية؟ ولا شيء يقرّبهم من فهم تلك الحادثة سوى الرعب الذي تحمله: تقطيع الأجساد بالخيول، وسبي النساء، ومنعهن من شرب الماء. ذلك القصّ الكربلائي المليء بالرعب لم يعد فصلًا تاريخيًا عابرًا، بل صار أشبه بالوجهة. وبالتالي، فإن الصراخات العراقية واحدة: من جلجامش، إلى الحسين، إلى السيّاب، إلى أي عراقي يصرخ الآن. ينبغي التدقيق في كل صراخ، لفهم ذلك الرعب، وإعادة نسج قماشته بطريقة أقل تهويلًا.

ربما نعيش مرحلة تدهور المعنى...

(*) تبدّل الإنسان العراقي بفعل الحروب، كما هي حال اللبناني، والسوري، والفلسطيني. ثمة أمور قاسية مرّت علينا جميعًا. هذا التبدّل تعبّر عنه في قصيدة لك في هذا الكتاب
: "بالأمس كان المارّة/ جميعًا حنونين/ والآن بدا أن كل شيء وجه شاحب/ كالجدار المحفور/... لقد تحجّر كل شبر من الغيوم/ وزاحمنا موتى لا نعرفهم/ في حبّ الموت". إلى أيّ مدى ترى أن الحرب لا تغيّر ملامح المدن فقط، بل تعيد تشكيل العواطف، والذاكرة، وحتى الحواس؟ وهل ترى أن هذا التحوّل الجذري في الإنسان العربي خلال الحرب وما بعدها، يشبه تلك التحولات التي حدثت للإنسان الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية وأنتجت ما أنتجته من تدهور في المعنى؟

لأكن دقيقًا، لا يمكنني بأي حال مقارنة التحولات لدى الإنسان العربي بتحولات إنسان آخر، وليكن الإنسان الأوروبي. بالطبع، آلام البشر تتشابه إلى حدّ كبير، لكن لفظة "تحولات" تشير إلى محاولات جديدة للتعرّف على العالم وعلى موقعنا فيه. لا أمتلك اطّلاعًا على تحولات الإنسان الأوروبي، غير الجزء اليسير الذي نُقل إلى لغتنا من شعر وأدب وسير، وهذا بالطبع غير كافٍ لإعطاء انطباع موضوعي. في المقابل، لا يبدو الإنسان في محيط واسع من العالم العربي اليوم إنسانًا ذا تحولات جادة، إنه ربما إنسان متفاعل أو لديه إحساس أعمق باليأس والإحباط، لكنه حتى الآن لم يفعل شيئًا ذا شأن غير صبره العجيب على ما يعاصره.

وإذا جئنا إلى قضية مصيرية مثل قضية فلسطين، فقبل نصف قرن كان بالإمكان لأي خطيب أو عسكري أو شاعر عربي الحديث عن تحرير فلسطين كاملة بدون أن يُتّهم بالتخريف والتجويف. الآن لم يعد هذا الأمر ممكنًا، حتى شعريًا، مع أنه أمر حتمي بالنسبة إليّ، وأقترح العودة إليه والإلحاح عليه بشكل أو بآخر.

ينبغي أن نؤمن نحن الشعراء بتحرير فلسطين، وينبغي أن نظل وثيقي الصلة بهذا الحلم. أحيانًا يغدو من الجبن والترَف أن تكون مفرطًا في الواقعية. أنا كإنسان عربي شعرتُ بالأسف والنقمة من تلك النظرة التي كنتُ أحملها للحضارة الأجنبية، أو لعلي صرتُ مقتنعًا بأن العالم تقوده توازنات القوى والمصالح الضخمة، وأن شيئًا مثل الفلسفة أو الشعر أو الأدب، أو حتى الفكر السياسي نفسه، ليس سوى هوامش، عندما ينزلق العالم أمام قرارات مصيرية.

لنتأمل هذا السكوت المُطبِق عن الجرائم الإسرائيلية، حتى في إعلامنا العربي. سكوتٌ متعمّد أو مهين، وحتى لو تابعنا الإعلام الذي يُركّز على المجازر الصهيونية، فإنه إعلام مغرض ومليء بالفبركة والخداع.

كل هذا يقودنا إلى المفهوم الذي طرحته أنتِ، وهو تدهور المعنى. هذا لأننا أشدّ تفاؤلًا، وهذا ما ينبغي علينا. وإلا، فإننا أمام تشويه للمعنى، أو انهزام. والكارثي أن المثقف العربي، إلى حدّ ما، هو أكثر المواطنين العرب انهزامًا، بل أحيانًا هو من يتبنى الثقافة الانهزامية ويدافع عنها، ويتهم من يختلف معه بالدجل والهمجية وغياب الوعي.


(*) ثمة صورة شعرية تقول فيها عن حبّك للحشود في المقهى، وتنتهي بالقول
:
"
أحبّ الحشود لأنهم خفيّون/ بفعل اعتدادي بوحدتي/ فحين يفرغ المقهى/ يعرّضني للسخرية الأليمة، إذ أبدو مرئيًا". في هذا المقطع يظهر تعلّق مزدوج بالوحدة وبالحشود، يذكّرني بقول الشاعرة جويس كارول أوتس: "على الكاتب أن يتعلم كيف يكون وحيدًا مع العالم". هل "الحشود الخفية" انعكاس لشعورك بالوحدة، على حدّ قول الشاعر عباس بيضون: "أعيشُ محاطًا بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيدًا"؟ وما طبيعة هذه العلاقة بين الشاعر الذي فيك والوحدة؟

كلمة بيضون دقيقة جدًا، ولم أرَ كلمة أخرى تعبّر بجمالية وشجن عمّا أعيشه بشكل شخصي. ولا يعني هذا أن الآخرين لا يمثلون أي دور إيجابي في حياتي، بالعكس، أبدو أكثر انتماءً لأصحاب النشاطات الأخرى من الناس، وأشد ابتهاجًا بهم. لكن شعوري بالوحدة يزداد مع التقدّم عمرًا ووعيًا، ومع الإحساس بما يحدث من حولنا. هذا الشعور كأنه إشارة إلى أن كل شيء لم يعد مجديًا، لا عزاء حتى بما نكتبه. لكن هذا الإحباط يُغذّي الشعر، وقد يُنتج شعرًا أكثر انفتاحًا على المستقبل، بما أن الشعر، في جانب منه، يتغنّى بالمجهول.

أنا أميل إلى العزلة بشكل ممنهج وتدريجي، مثل انطفاء زهرة في كوب الماء. تعمّدتُ عدم الاشتراك في الفعاليات الثقافية، وعدم إبداء أي رأي سلبي أو إيجابي، اللهم إلا إذا كان ضمن فضفضة مع صديق قريب. وقد يبدو موقفي سلبيًا للعديد من المبتهجين، لكني أعدّه موقفًا ثوريًا بدون مبالغة شديدة، فعندما لا يعود بوسعك منع الأشرار من تلويث حياتك، ينبغي عليك أن تُبقي يديك نظيفتين على الأقل. إحدى أهم المباهج التي ستُسعدنا إلى وقت طويل، هو ذلك الانكفاء الذي اخترناه، والذي كلّفنا شيئًا من التهميش المعتمَد إلى حدّ ما.

 (*) عباراتك الشعرية، بشكل عام، تقترب من الأسلوب السردي، وهو ما يجعلنا نفكّر بك كروائي. هل تفكّر في الرواية؟

أشتغل على اقتحام فن الرواية منذ سنوات، لكني ما زلتُ مترددًا بشأن جديّتي وقدرتي على صنع عمل روائي يشعرني بالرضى الكافي. كتبتُ رواية عرضتها على دار نشر ورفضتها، فركنتها. قلت: حسنًا، ربّ ضارة نافعة، ينبغي أن أتروّى في الكتابة الروائية. منذ أشهر، انغمستُ في كتابة عمل روائي آخر، أعتقد أني سأُكمله، وأعرضه عليكِ، ثقةً بإحساسكِ ونُبلكِ.

(*) "كيف يمكن للعراق تجاوز أيام الطائفية المريرة" عنوان مقال لك في صحيفة "العرب"، تقول فيه: "تبدو نظرية المؤامرة جوابًا جاهزًا لمشكلة الطائفية، بدلًا من الذهاب أبعد نحو إعادة تعريف الهوية الطائفية، بغية كشف هشاشتها وبدائيتها، والتركيز على قيم المواطنة، أو تحويل المواطنة إلى سلوك راسخ". لكن أليس من اللافت أن نموذج تقاسم السلطات الطائفية فُرض أولًا في لبنان، قبل أكثر من قرن بدعم غربي، مما جعل الطائفة هي المعادل الوحيد للوطن، وهو ما جرّ البلد إلى حروب لم تنتهِ! ثم جاءت الولايات المتحدة وطبّقت النموذج ذاته في العراق بعد 2003، ما ساهم في إضعاف الهوية الوطنية وتعزيز الانقسام المجتمعي. في ضوء ذلك، هل يمكن تجاوز الطائفية فعليًا بدون مراجعة البُعد الخارجي في نشأتها وتعزيزها؟ وهل تكفي دعوات المواطنة وحدها، في ظلّ بنى سياسية تقوم على المحاصصة والانتماء الطائفي؟

الطائفية لم تنشأ بفعل هذا النموذج الأميركي الذي فُرض على العراق. من المؤكد أنها كانت نسخة مزيفة من الديمقراطية، لكن تاريخ العنف الطائفي في العراق موغل في القِدم. لعل التقسيم الطائفي الأميركي للمكونات أُريد منه دفن الشعور القومي، على اعتبار أن الأغلبية الشيعية على الدوام كانت تُغْمَز بنقص العروبة. وهو، بالطبع، اتهام شعبوي قومي منفعل، لا أساس له من الصحة. وعلى أية حال، فإن الأميركيين آنذاك استطاعوا أن يُكافئوا المعارضة الشيعية بهذا العُرف الشفوي، وأن يمنحوهم رئاسة الوزراء، وهو المنصب الأكثر أهمية في صنع قرار الدولة.

بعد ذلك، انفجرت الطائفية بنحو كان متوقّعًا. كانت تجربة مريرة، لكنها لم تُقدّم درسًا وطنيًا شاملًا، لأن السلطة في العراق لم تغادرها، باعتبار أنها مكسب مضمون لأصوات القاعدة البسيطة. فلا شيء يدفع غالبية الناخبين العراقيين نحو صناديق الاقتراع أكثر من الخوف من ابتلاع السلطة من قبل المكوّن الآخر. هكذا يشعر غالبية المواطنين الشيعة والسنة على حد سواء. وباعتبار أننا أمام مشكلة داخلية، حتى لو كانت ذات مسبّبات خارجية، فإن المعالجة ينبغي أن تبدأ من الداخل، من العطب الملموس. وهنا يقع على عاتق المفكرين، والأدباء، ورجال الدين، أن يُرسّخوا وعيًا مغايرًا، وفهمًا مغايرًا للقضايا الدينية الحساسة. ينبغي، على أية حال، أن نُوقن بأننا قادرون على مغادرة هذا الجرح الطائفي، الذي يسبب لنا التهابات مميتة بين الحين والآخر. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نشعر بالحاجة إلى هوية واسعة، تنطوي تحتها كل تلك الاختلافات المذهلة. ذلك ليس متاحًا الآن، لكنه ليس صعبًا على الإطلاق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.