}

سليم البيك: لا أكتب الرواية ناقدًا ولا النقد روائيًا

أشرف الحساني 4 يوليه 2025
حوارات سليم البيك: لا أكتب الرواية ناقدًا ولا النقد روائيًا
البيك: تحتاج المقالة النقدية لأن تكون لمّاحة
بين الكتابة الروائية ومسالكها السردية التخييلية وبين النقد السينمائي وذائقته الفنّية، يحاول الكاتب والناقد الفلسطينيّ سليم البيك أنْ يؤسس له مسارًا مختلفًا عن باقي أبناء جيله داخل الثقافة العربية ممّن يكتبون الرواية ويجعلون منها حرفة أدبيّة، خاصّة بعد الحظوة الرمزيّة التي أصبح يتنزّلها هذا الجنس الأدبي داخل العديد من المؤسسات العالمية. فإلى جانب الرواية يعمل صاحب "تذكرة إلى صفورية" على تأسيس مشروع نقدي حول السينما الفلسطينيّة وملامسة خصائصها الفنّية وإمكاناتها الجماليّة وسياقاتها التاريخية وفق كتابة أجزم كـ "قارئ" أنّها مختلفة وترصد المكشوف والمُبطّن داخل الصورة السينمائية للعديد من الأفلام الفلسطينيّة والعربيّة والعالمية. لكنْ حين يكتب البيك عن السينما الفلسطينية، فهو يُخضعها إلى فحص نقدي أصيل وإلى معاينة دقيقة من ناحية الحفر في ذاكرة هذه السينما بهدف إنتاج خطاب نقدي عالم، لا يجري دائمًا وراء الرأسمال المعرفي فقط، بل يحفر عميقًا في فيزيونومية الصورة السينمائية، حيث تصبح الكتابة ملتصقة بمسام الفيلم وتبني شرعيته من داخل الكادر السينمائي وليس من خارجه.
إنّ أيّ رأسمال معرفي براني لا يراعي السياقات الفكرية لعملية إنتاج الفيلم يكون عبارة عن إسقاط لا يُحدث أيّ تجديد أو مغايرة على مستوى الكتابة. في حين أنّ القارئ لمؤلفات من قبيل "سيرة لسينما الفلسطينيين" و"تأمّلات في الفيلم الفلسطيني" سيجد نفسه أمام نقد يتأمل في الخارج والداخل، أيْ أنّه يستحضر المفاهيم والأفكار والنظريات والسياقات، لكنّه لا يكتفي بها كمنظار علمي يصنع خلاص الفيلم، بقدر ما يُوسّع أفق تحليل الفيلم الفلسطيني، انطلاقًا ممّا يطرحه المخرج من عناصر جماليّة ذات صلة بالجسد والفضاء والذاكرة في التاريخ الفلسطيني.
بمناسبة إصدار كتابه الجديد "سيرةٌ لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحات والشخصيات" ضمن منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة كان لنا معه هذا الحوار:

(*) بداية، بين عالم الكتابة الروائية ومتخيّلها وبين النقد السينمائي وإطاره النظري الضيّق، أين تجد ذاتك بشكل أقوى وأكثر حميمية؟
الجانبان متكاملان. لا أفكر كثيرًا في التصنيف، لصعوبة التفرقة عندي بينهما. لكني أقدم نفسي بشكل يتلاءم مع المناسبة، لا يمكن أن أعلّق على فيلم في برنامج بصفة "روائي". ولا يمكن أن أتحدث عن رواية لي مع تقديمي بأني ناقد. فلا أكتب الرواية بوصفي ناقدًا ولا أكتب النقد بوصفي روائيًا. لكن لكل من الصفتين مساحةً أقول إنها استشارية للأخرى، مساندة ورافعة، مساحة تهمس في أذن الأخرى وتلفت نظرها إلى تفاصيل هنا وهناك في العمل الكتابي الذي أمارسه في لحظتها، كان أدبًا أو نقدًا. فكما أن السينما حاضرة بشدة في النص الأدبي عندي، فالشخصيات الرئيسية في الروايات الثلاث محبة للسينما، عدا عن الجانب السينمائي المشهدي في الروايات ("تذكرتان إلى صفورية"، "سيناريو"، "عين الديك") كما سمعت وقرأت.
الأدب حاضر بالشدة ذاتها في الكتابة النقدية، وأساسًا في ناحية التقاطي للأفلام وتذوقي لها. الجماليات السردية في الأفلام مثلًا، كانت بالكلام أو بالصور، لها اعتبار خاص عندي. لكن، إن كان لا بد من إجابة حاسمة هنا، أجدني أقرب للروائي، هنا الروح تتربّع، هنا اللهفة إلى الفيلم، أما في الناقد فيستحوذ عليه الفكر والمعرفة والإدراك. أميل إلى الروائي، الحميمي. هو الملاكُ على يميني إن كان الفكر الملاكَ على يساري. بدأت أصلًا فعل الكتابة بالأدب وسأحاول البقاء مخلصًا لذلك، وإن أشغلتني في السنوات الأخيرة الكتابة النقدية والبحثية في السينما. في كتابي الأخير مثلًا، "سيرة لسينما الفلسطينيين"، يمكن قراءته، برغم جانبه النقدي والبحثي، على أنه حكاية أسردها لتاريخ هذه السينما وراهنها، من خلال أفلامها.

(*) هل يُمكن اعتبار كلّ كتابة عن فيلمٍ سينمائي تندرجُ ضمن خطاب النقد السينمائي كما يحدث اليوم في العالم العربيّ؟
أبدًا. هنالك فرق بين الصحافة السينمائية والنقد السينمائي. الاثنتان ضروريتان ولا تغني واحدتهما عن الأخرى. لكن المقابلة والتقرير والتحقيق والكثير من المقالات ليست نقدًا. توجد مقالات تكون مراجعات للأفلام، أي تقديمًا لها وحسب، وهذا كله بالمناسبة مرجعي للناقد في تأليف مقالته. النقد حالة أخرى، فهي ممارسة إبداعية وفكرية، وإن كانت بقطعة قصيرة. الإشكال الأساسي في الصحافة العربية المتناولة للسينما هو انتشار مقالة العلاقات العامة. نقرأ كثيرًا من المقالات المسماة بالنقد وهي لا تتعدى كونها علاقات عامة بين الكاتب من جهة، والمخرج أو المنتج أو الموزع من جهة أخرى. كأن الناقد هنا مسؤول الإعلام والعلاقات في شركة الإنتاج. وهذا يفسد كل الكتابة. مسافة ما يحتاجها الناقد عن كل هؤلاء. لا أطلب أنا مثلًا أفلامًا من أصحابها، مخرجين أو منتجين، إن كانت لي نية في الكتابة عنها، أترك ذلك لمناسبة حيادية أشاهد خلالها الفيلم. كما أني أحاول البقاء على مسافة ما من عموم الصناعة السينمائية الفلسطينية والعربية، لضمان حيادية ومصداقية، بيني وبين نفسي، في الكتابة.




لا ينجح أحدنا كثيرًا أو دائمًا في ذلك لكن نسبة دنيا من هذا البعد ضروري. مقالات العلاقات العامة إساءة للصحافة السينمائية والمسؤولية المتوقَّعة من الصحافي في ذلك. وهي بالضرورة ليست نقدًا.

(*) بعد كتابك النقدي الأوّل "تأمّلات في الفيلم الفلسطينيصدر لك قبل أسابيع كتاب جديد بعنوان "سيرةٌ لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحات والشخصيات". ما حدود التقاطع المعرفي والتلاقي الجمالي بين الكتاب الأوّل والكتاب الثاني؟
لكل كتاب مساحته الخاصة، الأول كتاب نقدي، الثاني نقدي وبحثي. الأول كان تأملات، وهي كثيرة وغير متلاحقة بالضرورة، كأنها إثارة لأسئلة وقضايا حول السينما الفلسطينية. الكتاب الثاني، وقد نال منحة من مؤسسة "آفاق" وصدر أخيرًا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، كتاب بحثي اشتغلتُ عليه خلال السنوات الأربع الأخيرة، على هامشه وخلال الشغل عليه، اشتغلت على الأول وأصدرته. يمكن القول إن الكتاب الأول كان مقدّمةً للثاني. الأول يطرح أسئلة ومقالات أكثر، يذهب أفقيًا في مواضيعه، الثاني يذهب عموديًا، يحفر في مسائل حددتُها في صفحاته الأولى. لا يغني كتاب عن آخر ولا يكرر ما فيه.

(*) لاحظت من خلال مقالاتك أو كتبك أنّك دائم الاستخدام لمفهوم "الفيلم الفلسطينيبدل "السينما الفلسطينيّة". ما الخلفية المعرفية التي جعلتك تستخدم في الكتاب الأوّل عبارة "فيلم" مقارنة بالمؤلّف الثاني الذي يحتوي على مفهوم "سينما" علمًا أنّ هذا الاختلاف من ناحية الاستخدام له دلالاته من الناحية الفكريّة؟
في الأول تناولت أفلامًا بعينها، انتقاءات، قراءات نقدية متفرقة، ولم أبحث في السينما بوصفها كينونة محدّدة المعالم. في الثاني تناولت السينما الفلسطينية بوصفها كينونة، واضحة المعالم ومتكاملة، بغض النظر عن الجودة والنضج للأفلام فهذه مسألة أخرى. اختيار كلمة "فيلم" في الكتاب الأولى كان بفعل المواضيع المتناوَلة، تأملات حول أفلام ونقاشات حول مواضيعها، إضافة إلى قضايا جدالية أخرى للسينما الفلسطينية. اختيار كلمة "سينما" في الكتاب الثاني كان للملامح الواضحة التي كانت لموضوعي في الكتاب، جسم متكامل اسمه سينما فلسطينية تناولت أفلامها الروائية الطويلة بمجموعها.


(*) شخصيًا كلّما قرأتُ لك مقالة نقدية جديدة أجدني أمام كتابة مختلفة، لا تلهث وراء المفاهيم والنظريات، بقدر ما تظلّ متمسّكة بطابعها الحميمي المُلتصق بالفيلم وجمالياته. كيف ترى وتُحدّد العملية النقدية كما تُمارسها في مقالاتك وأبحاثك وكُتبك؟
هذا يعيدنا إلى بداية الحوار، الأدب. بعد مئات المقالات النقدية، وكتابين، وأعمل على ثالث، سأبقى، أو أحاول البقاء، مخلًا لصفتي الأولى والدائمة، وهي الروائي. سأقول دائمًا إن طلب مني أحدهم تفصيلًا في التعريف، إني روائي يكتب النقد السينمائي، لأني في ذلك فقط وجدت العلاقة الحميمية مع الفيلم، وجدت الشغف المتسلّح بالفكر، لا المستبدَل بالفكر. الفيلم عمل فنّي، جمالي، قبل أن يكون فكريًا اجتماعيًا سياسيًا. السينما فن، وأعتقد أني كي أقدّر ذلك جيدًا، أحتاج مدخلًا فنيًا إليه، أحتاج حساسية فنية، وإلا تعاملت معه بالبلادة التقنية. أحتاج تذوقًا جماليًا ومقاربة لا تخرج عن الفنون. لذلك قلت ببداية الحوار إن النقد فن وخلق. النقد عملية إبداعية تامة، مادتها أعمال إبداعية. أفهم النقد كذلك لكن لا يعني ذلك أن ما دونه منفي. هي مقاربتي للنقد ومن خلاله للأفلام.
ولا أقلل من شأن مقاربات أخرى تغوص في تقنيات وتاريخ في الكتابة النقدية. أقرأها وأستفيد منها حتمًا، كما أستفيد معرفيًا من أي تقرير أو تحقيق، لكني أختار أن أكتب بحميمية، بخصوصية، وهي مبنية بطبيعة الحال على معارف في تاريخ السينما وفكرها. كلامي هذا لا أسقطه على المقالة العاطفية الانطباعية التي تلخّص الرأي بالفيلم الذي "أحببته" أو "لم أحبه". فهذا خارج مجال كلامي ولا أصنفه نقدًا، هو مراجعة أو منشور فيسبوكي.

(*) ثمّة فريقٌ يرى أنّ كلّ نقدٍ لا يستند على معرفة واعية بالمفاهيم الفكرية والنظريات الجماليّة لا يُعوّل عليه، أيْ أنّه نقدٌ لا يأتي بجديد معرفي على حدّ تعبيرهم. إلى أيّ حد يستطيع النقد السينمائي "العاشقالمُلتحم بالكادر السينمائي المُساهمة في إنتاج خطاب سينمائي عالم؟
لا يوجد نقد "عاشق"، الكتابة إن كانت "عاشقة" لا تكون نقدية بل تكون انطباعية، أو علاقات عامة. أنا أفرّق بين أنواع الكتابات الصحافية للسينما. لكن النقد الفعلي، مهما كانت مقاربة كاتبه، يحتاج إلى معرفة ولو بحدود دنيا، في التاريخ السينمائي والنقدي، والمرجعيات الفكرية، بل يحتاج النقد ليرتقي حقيقةً، إلى معرفة بالتاريخ السياسي، بالعلوم الاجتماعية، بالأدب والنقد الأدبي.




لا أعتقد أن الناقد السينمائي غير المتآلف مع باقي أنواع الفنون والمتذوق لها، الموسيقى ومجمل الفنون البصرية، وغير القارئ الجيد للأدب، لا أعتقد أني، كقارئ له، سأجد روحًا في مقالته. سأخمّن من بعد القراءة أن صاحبها لو كان يسمع ما يكفي من الموسيقى لما كانت مقالته بهذا الجمود. ولو كان يتردد بما يكفي إلى معارض لما كانت مقالته رمادية بلا لون. من المقالة تخمّن، مع بعض المبالغة، احتمالَ أن آخر رواية قرأها الناقد كانت في المدرسة.
الجانب المعرفي والفكري والنظري في المقالة يكون بحدود، لكن ليس في الكتب. تجد مثلًا في كتابي "سيرة لسينما الفلسطينيين"، الإحالة إلى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، في محاولتي قراءة السينما الفلسطينية، في موضوع محدودية المساحات المستعمَرة وبالتالي احتماليات الشخصيات للإنجاز. هي محاولة لقراءتها من خلال محدّدات دولوز للقطة السينمائية والتفرقة بين اللقطات الثلاث، الإدراك والفعل والعاطفة، بحسب دولوز. مبينًا تموضع السينما الفلسطينية كسينما محكومة لمساحات محدودة بفعل الاستعمار، إزاء اللقطات الدولوزية. لم أثقل كثيرًا على القارئ في ذلك لكني بيّنته في مقدمة الكتاب وذكّرت به في خاتمته. لكن هل أستطيع كتابة ذلك في مقالة نقدية؟ لا أعتقد. يكفي أن المساحة أو عدد الكلمات للمقالة لا تكفي. تحتاج المقالة النقدية أن تكون لمّاحة، ذكية في الاستعارة من المرجعيات الفكرية والاستعانة بها من دون أن تكون متكلّفة ومدّعية وثقيلة الظل، كي لا تكون إبراز معارف ويكيبيدية وحسب يتشاطر بها أحدنا على الآخر. لأن النقد عملية إبداعية يحتاج ألا يكون بليدًا وغليظًا.
أقرأ أحيانًا مقالات نقدية يملؤها كاتبها بالإحالات، لهذا الفيلم وذلك الكاتب، تكون مضحكة لشدة افتعالها، مفضوحة. والكثير من القراء قد لا يعرف مدى صحة الإحالة من عدمها فيتشكل لديهم انطباع أن فلانًا ناقد خبير وعارف. أقرأ مقالات نقدية بلا روح، مملة كأنها حصة رياضيات في مدرسة ثانوية، هذه لا أكملها. تلك السابقة كانت مضحكة على الأقل. هذه الأخيرة كئيبة. أقرأ مقالات مبنية أساسًا على معلومات، أسماء لتقنيين وتواريخ وعناوين لا تفيد، مقالات كهذه يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفعلها وبنسخة مختصَرة. هي كتابة معلوماتية لا لمعة شخصية فيها. أقرأ مقالات كارهة، تفوح منها رائحة حقد تجاه العمل، ومقالات انفعالية تفلت من صاحبها المبهور لسبب مجهول، من العمل. أقرأ مقالات تثرثر من دون أن تدرك سببًا لتبريرها موقفًا إيجابيًا أو سلبيًا، تجاه الفيلم، تنساها فور الانتهاء منها.
وأقرأ كثيرًا من المقالات عن السينما الفلسطينية، تصفّق للفيلم لكونه فلسطينيًا وحسب، وهذا أسوأ ما قد تناله السينما الفلسطينية. هي مواقف سياسية لا مقالات، هي بيانات جماهيرية، كأنها واجب وطني، تشعر أثناء القراءة بأن كاتبها سيختمها بعبارة "إنها لثورة حتى النصر". وأقرأ كذلك مقالات فيها تلك اللمعة الذكية، اللماحة والمثقّفة، أقرأها فأتعلّم منها وأستكشف مساحات جديدة في الكتابة النقدية، كما أني أقرأ كل ما ذكرته أعلاه لأتعلّم، لأعرف أكثر ما يتوجّب تجنّبه. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.