}

الدعم النفسي المطلوب لأطفال سورية

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 12 أكتوبر 2020
يوميات الدعم النفسي المطلوب لأطفال سورية
(علي شيخو برازي)
ما أكثر التقارير والإحصائيات عن عدد الأطفال السوريين ضحايا العنف من كل الأطراف المتصارعة في سورية، وما أكثر البرامج التلفزيونية الجذابة والتي تستند إلى إحصائيات لا أعرف دقتها عن الدعم النفسي لهؤلاء الأطفال ضحايا العنف السوري. التقرير الأخير الذي قرأته في موقع جيرون يشير إلى أن أكثر من 300 ألف طفل سوري بحاجة إلى دعم نفسي بسبب العنف الذي تعرضوا له والمجازر وتنوع أشكال العنف الذي شهدوه وكانوا ضحيته.
وتختلف نوعية وشدة أعراض وأذيات العنف الذي تعرض له أطفال سورية من طفل إلى طفل حسب شدة الصدمة وحسب المتانة النفسية للطفل ووجود أشخاص داعمين له يحيطونه بالرعاية والحب، ومن مثل الحب بقادر على الشفاء، لكنني أحب أن أقدم تجربتي المتواضعة في التعامل مع أطفال تعرضوا للعنف وكانوا من محافظات سورية عديدة اضطروا للنزوح إلى اللاذقية الآمنة نسبيًا. كنت ومن خلال التعاون مع بعض الجمعيات المدنية التي تهتم بالأطفال وبعضها يفتح لهم مدارس مجانية طبعًا، ومعظم المُدرسين فيها يعملون مجانًا عملًا تطوعيًا، ألتقي كل أسبوع مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين تسع سنوات إلى اثنتي عشرة سنة، وكانوا نازحين من مناطق سورية متعددة ملتهبة وخاصة ريف حلب وجسر الشغور وإدلب، وأقدم لهم ما يسمونه الدعم النفسي، وكنت معتمدة على قراءاتي في الطب النفسي وما درسناه في كلية الطب، وكتب علم النفس الكثيرة التي قرأتها، وكانت سياستي معهم مختلفة عن السياسة المُتعارف عليها، أي بأن نطلب من هؤلاء الأطفال أن يرسموا أو يكتبوا، ومن خلال رسومهم وكتاباتهم نقدر معاناتهم، ولا أنكر بأن هذه الطرق صحيحة علميًا، لكنني أردت أن أترك هؤلاء الأطفال يتكلمون، أن أسمع صوتهم وكيف يصوغون عباراتهم ويعبرون عن ألمهم. وكان الكلام يشجعهم ويحفزهم على إخراج ما في أعماقهم من معاناة تفوق الوصف، كما لو أن اعتراف أحدهم بمأساته يشجع الآخر على البوح بمأساته أيضًا، ويبدو أن البوح بالأحزان يخففها بل ويخلق شيئًا من الأمل بين الأطفال والمراهقين، فأحدهم أصيب بالتأتأة وكان يحس بالخجل والخزي لما يتكلم، وحدثنا (رفاقه وأنا) عن الصاروخ الذي نزل وسط الصالون في بيتهم في شارع علاء الدين في حلب وكيف شطر الطاولة لنصفين ولم يستطع أن يمد يده ليتناول نظارته الطبية، لم ينهر بيتهم تمامًا رغم اختراق الصاروخ له، لكنه شهد انهيار بيوت الجيران فوق أجساد أصدقاء وجيران العمر إلى أن تمكن من الهروب مع أمه إلى اللاذقية، وبقيا لأكثر من شهرين ينامان في مدخل بناية سمح لهما صاحبها أن يناما في مدخلها إلى أن تمكنت إحدى الجمعيات الخيرية من تأمين غرفة بسيطة تؤويهما. أحد الأطفال وعمره عشر سنوات لم يتحدث عن نفسه بل حدثني عن أخيه الذي يصغره بثلاثة أعوام والذي فقد القدرة على النطق، أصابه داء الخرس بسبب المأساة المروعة التي شهدها، فقد شاهد هذا الطفل أحد جيرانهم يُذبح وينفصل رأسه عن جسده ومن يومها أصابه داء الخرس، وسألته ألا توجد جهة مهتمة بعرضه على طبيب نفساني؟ فقال: لا.
أحد هؤلاء المراهقين وعمره 12 سنة، كان يقضي كل الوقت نائمًا هربًا من وجع الصحو، يسند رأسه على مرفقيه وإلى طاولة المقعد في الصف ويغرق في النوم. وكنت أبذل جهودًا خارقة لأجعله يصحو، لكنه يصحو لدقائق ويعاود النوم، هذا ما يُسمى في علم النفس باضطرابات ما بعد الصدمة. معظم هؤلاء الأطفال كانوا يبصرون كوابيس أثناء نومهم، ومعظمهم كانوا قد فقدوا أهلهم ويعيشون لدى عائلات تحنو عليهم أو في مهاجع تعطيها الدولة لأمثالهم. من خلال تجربتي المحدودة مع هؤلاء الأطفال الذين يمثلون عينة صغيرة جدًا جدًا من أكثر من 300 ألف طفل سوري بحاجة لدعم نفسي، بعد ما يسمى باضطراب ما بعد الصدمة والتسمم الجهادي إلى ما هنالك، أقول يمكن لهؤلاء أن يطالعوا في الكتب تلك الأعراض القاسية التي يتعرض لها أطفال سورية، أو أن يحضروا برامج وثائقية عن طرق الدعم النفسي لأطفال سورية النازحين، ولكنني أتساءل: ما فائدة تلك الطرق العلمية الحديثة في معالجة الأطفال المصدومين من هول العنف الذي شهدوه إن لم تتغير الظروف التي يعيشون فيها؟
ذات يوم حضرت برنامجًا وثائقيًا ممتازًا في دقته وتصويره، ومدته تزيد عن الساعة، يبين الوسائل والألعاب والطرق العديدة التي يستعملها الخبراء في الدعم النفسي لأطفال مخيم الزعتري في الأردن حيث كان الطمي والثلج القذر يفرش الممرات بين المخيمات البائسة المهترئة والتي تعوم الفرشات الرقيقة المخصصة للنوم داخلها فوق الماء المتسرب إلى الخيم!! بالله عليكم أي دعم نفسي يمكن أن يفيد هؤلاء الأطفال الذين يعيشون في مخيم الزعتري بعد أن يخطفهم المعالجون النفسانيون لساعات إلى عالم الأمان والخيال ثم يتركونهم يعودون إلى مخيمات البؤس الفظيعة؟ الأهم ألا يتعرضوا مجددًا للعنف، لأن الكثير منهم لا يزالون يعانون من العنف الذي ينعكس عدوانية على تصرفاتهم. إن الدعم النفسي لهؤلاء الأطفال صعب جدًا وشاق ويتطلب فريقًا متكاملًا من الاختصاصيين، ويتطلب زمنًا طويلا أو طريقا طويلا وهو العنوان الذي استعمله كاتب مبدع من سيراليون اسمه إشمائيل بيه، كتب رواية مذهلة وصادمة بصدقها بعنوان (الطريق الطويل) يحكي فيها كيف كان هو أحد ضحايا العنف وكيف استغله تجار الحروب والميليشيات في أعمال القتل والعنف، وكيف كانوا يخلطون طعامهم بالبارود المطحون وبودرة المورفين ويجبرونهم أن يحضروا كل يوم أفلامًا وحشية تصور عمليات القتل الوحشية لأكثر من عشر ساعات.

بالله عليكم أي دعم نفسي يمكن أن يفيد هؤلاء الأطفال الذين يعيشون في مخيم بعد أن يخطفهم المعالجون النفسانيون لساعات إلى عالم الأمان
والخيال ثم يتركونهم يعودون إلى مخيمات البؤس الفظيعة؟

كما يحكي كيف أن هؤلاء الأطفال الضحايا كانوا يتحولون إلى مجانين فيصرخون صراخًا وحشيًا ولا يتمكنون من النوم لمدة ثلاثة أيام. حتى أنجد الحظ الكاتب الذي قتل أكثر من ستين رجلًا واستأصل حنجراتهم وهو تحت تأثير البارود المطحون والمورفين والإشباع من مشاهد العنف، أنجدت هذا المراهق (اشمائيل بيه) إحدى البعثات التبشيرية من أميركا واصطحبته معها إلى أميركا حيث احتاج إلى ثلاث سنوات كاملة كي يكف كل يوم عن الصراخ الوحشي والكوابيس المرعبة وفزعه من نفسه ومما ارتكبته يداه الطفوليتان من جرائم، لم يكن هو سوى الأداة المنفذة لها. ثلاث سنوات من العلاج النفساني الجدي خضع له طفل من سيراليون لا تختلف معاناته كثيرًا عن معاناة أطفال سورية أو العراق أو اليمن أو ليبيا، هؤلاء الذين نسميهم ضحايا العنف، فهل يتوفر لأطفال سورية والدول العربية الملتهبة والمنكوبة من دعم نفساني جدي وبرنامج دعم نفسي كما توفر للطفل من سيراليون (إشمائيل بيه) الذي تحول فيما بعد إلى أحد أشهر كتاب أميركا حين كتب روايته الأشبه بسيرة ذاتية (الطريق الطويل) وأظن أنها تحولت إلى فيلم سينمائي.
أخيرًا فإن الدعم النفساني لأطفال سورية الذين يزيد عددهم عن 300 ألف لا يكون بمجرد قضاء بعض الساعات القليلة لنطلب إلى هؤلاء الأطفال أن يرسموا أو يكتبوا أو يلعبوا ألعابًا عديدة، ثم يعودون إلى جحيم وبؤس خيمهم وظروفهم. هذا لا يعتبر علاجًا نفسيًا بل مُسكنًا خُلبيًا قصير الأمد فيما الألم الحارق الأكال كسرطان يأكل نسيج الروح ويقضي على الأمل ورغبة الحياة لا يزال ينهش في أرواح بقية الأطفال.



كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن عددًا لا بأس به من الأطفال حاولوا الانتحار معتقدين أنهم في الجنة سيجدون الأمان والأكل والسلام. حبذا لو تُصرف تلك الأموال الطائلة في إنتاج برامج وثائقية عن الدعم النفسي لأطفال سورية، في دعمهم حقيقة بتأمين شروط حياة تليق بطفل لا ذنب له في دفع ثمن حروب الكبار القذرة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.