}

فلسطين المُعلّقة بسلسال صديقتي

وداد نبي وداد نبي 17 أكتوبر 2020
يوميات فلسطين المُعلّقة بسلسال صديقتي
قد يموت كل شيء، لكن الحكاية وحدها تستمر

كان ذلك عام 2006، حين فاحت رائحة الورد الجوري من الحقول المجاورة، ونحن نقترب بالميكروباص الصغير من مخيم النيرب للاجئين الفلسطينيين في حلب. انحشرنا، صديقتي الفلسطينية الترشحاوية وأنا، في زاوية الميكروباص المزدحم.
كان السائق يشتم كل عدّة دقائق من سوء وضع الطريق، بينما تردّد صديقتي بصوت عال لأمها على الهاتف: "نحن جايين من البلد". حينها فكرت: "أليس المخيم جزءًا من البلد، أي حلب؟".
كان ينبغي أن أصل للمخيم حتى أدرك أن صديقتي معها حق، فالمخيم لم يكن حقًا جزءًا من حلب، بل كان بلدًا لوحده، بأعلام وشعارات وصور مختلفة عن تلك المنتشرة في شوارع وساحات حلب. لقد دخلنا فلسطين، أو جزءًا من فلسطين التي بناها اللاجئون قرب حلب على أرض سورية. في ذلك اليوم فهمت سبب استياء صديقتي هند اليومي من الطريق، كانت تعتبره سفرا يوميا، فهي تستقل يوميًا الميكروباص لتقطع الطريق شبه الصحراوي لأكثر من ساعتين ونصف الساعة، ذهابًا وإيابًا، للوصول للجامعة. لقد كانت فدائية. تلك كانت المرة الأولى التي زرت فيها المخيم، مخيم النيرب، حيث شرحت لي قبل دخول الميكرو للمخيم بخجل: "إنه صغير... شعبي وضيق".
لكنني كنت مستعدة لأمسّ بسحر المخيم، إذ سرعان ما أحببت زواريبه الضيقة، وتلك الطريقة الحميمية التي تجلس فيها وبها النسوة في زواريب ضيقة أمام بيوتهن في الخارج، تحياتهن للجميع، فضولهن، حديثهن اليومي عن قراهن في فلسطين، عن المفاتيح وصكوك ملكية الأراضي. قالت لي صديقتي إنه هذا يكاد يكون حديثهن الصباحي اليومي عن الأمكنة التي غادرنها، والتي تعيش معهن داخل هذا المخيم الفقير والبائس.
مخيم النيرب، الواقع بالقرب من مطار حلب، كان في البداية عبارة عن ثكنات عسكرية للجيش الفرنسي، تم إيواء اللاجئين الفلسطينيين فيه عام 1948، حيث قسّم الناس المساحات بينهم من خلال الملاءات وألواح الخشب والطوب. بعد ذلك تم البناء كما قسّموه في البداية. الفوضى العمرانية مذهلة، بيوت مسقوفة بالتوتياء، زواريب ضيقة بالكاد تتسع لمرور شخص، ساحة فارغة، أخبرتني هند أنها كانت فيما سبق حمامات عمومية يستخدمها جميع سكان المخيم، ففي ذلك الوقت لم تكن هناك حمامات لكل بيت. الساحة كانت فارغة حين زرتها، لكنني شعرت للحظات أنني أسمع أصوات النساء، وهن واقفات في طابور طويل يشتمن حظهن والعالم الذي أوصلهن لهذا البؤس.

رغم تلال المعلومات التي حُشي بها رأسنا في المدارس والكتب القومية والتاريخ عن فلسطين، إلا إن تلك الطريقة لم تساعدني أبدًا في حب تلك البلاد
المسروقة من أهلها، أحببتها فقط حين تعرفت على هند.


أحببت المخيم وذاكرة نسائه عن حياتهن القديمة في فلسطين، وتلك اللكنة الفلسطينية المحبّبة بسبب صديقتي. رغم تلال المعلومات التي حُشي بها رأسنا في المدارس والكتب القومية والتاريخ عن فلسطين، إلا إن تلك الطريقة لم تساعدني أبدًا في حب تلك البلاد المسروقة من أهلها، أحببتها فقط حين تعرفت على هند. أكملنا الزقاق الضيق لزقاق أعرض ووصلنا لبيتها، وحين شاهدت درجًا يصعد للأعلى، أردت الصعود ورؤية المخيم من هناك، كانت هناك غرف إضافية على السطح أيضًا. فعرفت أن والدي صديقتي بنيا الطابق الثاني لاعتقادهما أن ابنتيهما الاثنتين إذا تزوجتا ستقيمان لديهما بالطابق الأعلى. ورغم أن ثقافة بناء البيوت للأولاد الذكور هي التي كانت سائدة، إلا أنهما فكرا بابنتيهما الوحيدتين. لم يكونا يدركان أن صديقتي هند وأختها ستكملان مسيرة جديهما بالهجرة وتصبحان لاجئتين ببلاد أخرى وحدود أبعد من الحدود التي قطعها أجدادهما. أحلامهما ذهبت أدراج الرياح برؤية أحفادهما يكبرون بالقرب منهما، فيما هما الآن بعيدان عن ابنتيهما وأحفادهما آلاف الكيلومترات.
قطعت هند البحر مثلما قطع أجدادها الحدود هاربين. كانت ستغرق في بحر إيجة، بقيت في السجن التركي لأيام، خرجت وكرّرت محاولتها بالعبور ونجحت بالوصول إلى ألمانيا. وما إن استقرت حتى كانت أول فكرة تداعب مخيلتها هي الحصول على الجنسية الألمانية لتتمكن من زيارة فلسطين وزيارة قرية أجدادها ترشيحا. ولعلها ترى قرية جدها الآخر الراعي البسيط من قرية الزنغرية الذي كان يرعى الماعز في سهول ومروج فلسطين، مقابل أن يعلمه صاحب الماشية القراءة والكتابة، ثم بدأ يقرأ كل ما تقع عليه عيناه. وحين أتى عام 1948 انضم للثوار وحارب، لكنه رحل بخفي حنين لسورية والتحق بعائلته التي سبقته. كانت غرفته في بيته بمخيم النيرب المكان المفضل لصديقتي في ذلك البيت، غرفة مليئة بالكتب، كتب في كل مكان. ولشدة حرصه ألا تعيش بناته تجربته، علّم بناته الخمس في المدارس حتى أصبحن معلمات، وكانت فاطمة أم صديقتي هند معلّمة أيضًا. تحلم صديقتي اليوم، بتتبع خطا جدها الراعي، المحارب والعاشق الذي حين أحب صبية خطفها وتزوجها.
حين زارتني الصيف الماضي في بيتي ببرلين، كانت ترتدي في عنقها سلسالا ذهبيا معلقا فيه خريطة فلسطين مع صورة حنظلة. سألتها: هند أنت ولدت في حلب، وعشت كل حياتك هناك، لماذا ترتدين خريطة فلسطين؟ ردت لأنها تعتبر نفسها فلسطينية رغم حبها لحلب وسورية.
لم أفهم الأمر في تلك اللحظة بوضوح، فمفهوم الانتماء والهوية كان مرتبطًا لدي بالمكان الذي نولد فيه، المكان الذي نفتح أعيننا فيه لأول مرة، نكتشف الحياة والهواء ونجرح أنفسنا ونعرف من نحن من خلال احتكاكنا بتلك الأرض. لكن مع صديقتي كان الانتماء يذهب لمكان آخر له علاقة بذاكرة الآباء والأجداد، بتجاربهم عن حيواتهم وطفولتهم بمسقط رأسهم في فلسطين. هذا الحلم بالعودة لمسقط رأس الأجداد كان الفلسطينيون يتوارثونه بدل صكوك الأراضي والأملاك.
عدت بذاكرتي لبدايات صداقتنا، كانت خجولة وقليلة الكلام. لكن أذكر حين كنا نمشي مرة من الجامعة للبيت، الطريق كان طويلًا، مرصوفا على جانبيه بأشجار الكينا والزيزفون. كان الخريف في نوفمبر/ تشرين الثاني يوشك على المغادرة، حين انتبهتُ أن نبرة صوت صديقتي قد اختلفت وهي تتحدث عن فلسطين التي خسرها أجدادها واضطرارهم لمغادرة ترشيحا. سمعت من فمها أسماء المدن الفلسطينية بطريقة مختلفة عن تلك التي كنت أسمعها في الاخبار: حيفا، عكا، ترشيحا، الصفصاف، عين الغزال. طبريا.. إلخ.



مع صديقتي كان الانتماء يذهب لمكان آخر له علاقة بذاكرة الآباء والأجداد، بتجاربهم عن حيواتهم وطفولتهم بمسقط رأسهم في فلسطين. هذا الحلم بالعودة لمسقط
رأس الأجداد كان الفلسطينيون يتوارثونه بدل صكوك الأراضي والأملاك.


كانت تتحدث بغضب وحماس عن الحركات الفلسطينية المسلحة التي لم تستطع أن تنقذ وطنها وتعيد جدتها لهناك.
منذ ذلك اليوم أحببت فلسطين، بل وقعت في غرامها. أحببتها من خلال صوت صديقتي الترشحاوية، من خلال حكاية جدتها وجدها الراعي، من خلال نساء المخيم وجلوسهن أمام بيوتهن يعدن سيرة مسقط رأسهن كل صباح، من خلال فهمي لمفهوم الهوية التي تتشكل أحيانًا في ذكريات من نحبهم، فنصبح جزءا منهم ومن ذكرياتهم/ن من كثرة ما يتداولونها.
متلازمة زيارة فلسطين/ مسقط رأس الآباء والأجداد رافقت صديقا آخر لي، صديقي الكاتب حسين شاويش، فطوال المرات التي كنا نلتقي فيها في برلين، لم يتحدث مرة عن فلسطين بلد آبائه. حسين كان حاصلًا على الجنسية الألمانية التي منحته تحقيق ذلك الحلم بزيارة قرية عائلته القباعة في قضاء صفد. أرسل لي نصه عن زيارته لفلسطين عبر الإيميل، وحين قرأت نصه، شعرت أنني ولدت في قباعة قرية والديه، شممت رائح الزعتر البري والميرمية وأكلت من شجر التين والرمان وحقول اللوز التي كانت هناك. وفي اللحظة التي استند فيها لشجرة التين الضخمة قرب البئر وجلس ليبكي بعد أن رأى بعينيه اختفاء كل معالم قريته، البيوت والقناطر والمعاصر والشجر، بكيت معهُ في بيتي في برلين على بعد آلاف الكيلومترات من فلسطينه وقريته.
صديقتي الترشحاوية وصديقي حسين فتحا عيناي على مفهوم آخر لفكرة الهوية، لا تلك التي تولد معنا لحظة نغادر أرحام أمهاتنا فقط، ولا تلك التي نكتسبها خلال مسيرتنا في الحياة، بل يضاف لها أيضا تلك التي تستند لذكريات وذاكرة من نحبهم، وحكايات الآباء والأجداد والجدات، الحكاية المرتبطة بالمفاتيح التي لم يتخلوا عنها، تلك الهوية التي لا تنسى حتى بعد انطفاء الذاكرة ووصولها للشيخوخة البعيدة.
ربما لا يصبح المرء فلسطينيًا أو كرديًا أو عربيًا بالولادة، إنها حكايات الجدات والأجداد، الحرز الثمين الذي يتوارثونه شفاهيًا عن طريق نقل ذاكرتهم للأبناء والأحفاد.
قد يموت كل شيء، لكن الحكاية وحدها تستمر حتى تجد من يرويها مرة أخرى.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.