}

أبعد من بارانويدي

حسام ميرو 21 مارس 2020
يوميات أبعد من بارانويدي
لوحة للتشكيلي الروسي أندريه ريمنيف
أعرف أنهم يراقبونني، يسجّلون كل حركة وكل كلمة، لقد وضعوا أجهزة تنصّت في كل مكان.

في طريق عودتي من الوظيفة، اضطررت لسلوك عدة طرق فرعية، كي أضللهم، ولا أعرف إن كنت قد نجحت، لكن ما الفائدة: أعرف أنهم يعرفون مكان سكني.
المشكلة أن أهل بيتي لا يصدقون، تقول زوجتي في سرّها إنني مجنون، وأنه لا بدّ من أخذي لطبيب نفسي، والأدهى أن أخيها المثقف الذي يضرب المثل بحكمته يوافقها الرأي.
دعاني إلى المقهى، وراح يحدثني عن أهمية الطبّ النفسي، وأن المريض النفسي ليس مجنوناً بالضرورة، بل هو شخص تعرّض لأزمات أكبر منه، وخلال حديثه كنت أقول بيني وبين نفسي: هذا الذي كنّا نعتبره عاقلاً، نسي أنني قرأت فرويد ويونغ مبكّراً، وأنه لا مشكلة لدي في زيارة الطبيب النفسي، لكنه يتجاهل كل معرفتي، وتاريخي، من أجل إرضاء أخته.
الأولاد أيضاً يصدقون أمّهم، ينظرون إليّ كمجنون، حتى أن أصغرهم "آخر العنقود" يرفض أن أعانقه، وأرى في عينيه خوفاً يفوق عمره، ولا ينبغي له أن يعيشه.
أصبحت جارتنا الجديدة ملاذي الوحيد وسط هذا الجنون، أزورها بعد عودتي من العمل، أحدثها بلا أي حرج عن كل شيء، ويعجبني أنها تؤيدني بشدة، أو على الأقل لا تتصرف كأهل بيتي.
مساءً، أغلق عينيّ، وأحلم بأنني ساهرٌ معها، نشرب قهوتنا على شرفة بيتها، ندخّن ببطء وتلذّذ، ونضحك، نعم نضحك من قلبينا، وتدمع أعيننا من الضحك.
يعجبني فستانها القصير، فستان كحلي منقّط بورودٍ ألوانها غير فاقعة، بل هادئة ووديعة كالأفق في قريتنا، تلك القرية البعيدة، والتي على الأرجح لم تعد موجودة.
أنظر إلى فخذيها الممتلئتين، ولكن غير السمينتين، والبيضاوين مثل ملاكين مرسومين على جدار كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان.
لا شهوة لدي نحوها، وأعرف أنها تعرف، فتترك فستانها يرتفع قليلاً عند جلوسها، وقد وضعت ساقاً فوق ساق، وهي تشرب فنجان قهوتها، كسيّدة من عصر النبلاء، من عصر لم يكن فيه للوقت أهمية كبيرة.
منذ عامين أقيم عندها، بعد أن تركتُ البيت، وغادرتُ زوجتي وأطفالي الأربعة، لكنني ألمح بين حين وآخر ابني الصغير "آخر العنقود" جالساً قبالتي في الشرفة، يسألني: بابا هل حقّاً أنت مجنون؟ ولكنني لا أجيبه، ولا أشرح له أي شيء، بل أتأمل عينيه، وأتذكّر كم مرّة حملته بين يديّ، وكم مرّة مسحت شعره قبل النوم، وأنا أقصّ عليه الحكايات.
هل أنت مجنون؟
ماذا أقول لك يا طفلي، لا جواب لدي.
ما أنا واثق منه تماماً أنني في مكان آمن، لا أحد يراقبني، ولا أحد يسجّل خطواتي وكلماتي، ولا أحد يتهمنني بأنني جاسوس ومتآمر.
يا طفلي: أنا هنا في مأمن، عند جارتنا، في بيتها، في شرفتها، مع قهوتها وضحكتها، مع فستانها الكحلي.

 

*بارانويدي: (Paranoid schizophrenia)، مرض فصام المطاردة.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
21 مارس 2020
قص
14 فبراير 2020
قص
17 يناير 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.