}

الحُبُّ في زمن الكورونا

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 25 مارس 2020
يوميات الحُبُّ في زمن الكورونا
لوحة للفنانة الأميركية ترينا ميري لمواجهة ذعر الكورونا
في روايته الأكثر شهرة، ربما، بعد "مائة عام من العزلة"، ينتصر الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014) في ختام "الحب في زمن الكوليرا" للحياة، يجعل من متواليةٍ كئيبةٍ كأن تظل سفينة تصل ضفة فتُمْنَع وتعود للضفة الأخرى، ثم تُمْنَع لتعود من حيث أتت، وهكذا دواليك، يجعل من هكذا بندولية، فسحة مدهشة ساحرة لِحُبٍّ جرت استعادته بعد واحد وخمسين عاماً وتسعة شهور وأربعة أيام من انتظار فلورينتينو اريثا لمحبوبته فيرمينا داثا.
من بين عشرات الرسائل التي تضمنتها الرواية الصادرة عام 1985، فإن الرسالة الأعمق والأهم والأجلّ معنى، هي رسالة الحب، الذي يستطيع التمدد والتفرد والتجدد في أي وقت وأي مكان، ويكون أكثر زخماً وإلحاحاً وجنوناً كلما كان العشاق أقرب إلى الموت.
في زمن الكورونا، حيث رائحة الموت تزكم أنوف أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية وباقي قارات الأرض، فإن رسالة الحب، حتى اللحظة، تبدو مخاتلةً خُلَّبِيَّةً وغيرَ واضحة المعالم.
يتمدد الفيروس بدل الحب، فيضطرب الكون حيرة وجنوناً وانعزالاً وتقوقعاً وانكفاء على الذات.
لعل الخيال الذي يصنع الحب ويفرش له فوق السحاب بيتاً، ويخلق للعاشقين إلى جوار النوارس والحمام الزاجل جناحين، هو أكثر ما يحتاجه العالم أمام هذه الجائحة. نعم إن الكوكب الخالي من الخيال هو كوكب عاجز عن مواجهة الأوبئة، وغير مؤهل لتجاوز محنة الواقع.
فكل مستحيل يغدو في ظلال الحب مُمكناً، وكل غمامة تحجب الشمس يحولها الخيال إلى رذاذٍ من المطر اللامع الوديع.
يكتب الصديق حسام أبو حامد، في مقال نشر له قبل أيام هنا في "ضفة ثالثة" وحمل عنوان "كورونا.. الوباء في زمن العولمة"، عن انهيار صروح العولمة التي شيّدها الكبار خلال العشرين عاماً الماضية، تحت ضربات الفيروس سريع الانتشار. ويشير في مقاله المهم إلى تنامي القلق من المستقبل، وبما يمكن أن يسفر عنه تغوّل الشائعات حول كورونا وعدم وضع الأمور في حجمها الطبيعي، مما يهدد، بالتالي، بـ"تفشي هيستيريا جماعية تصيب أفراد المجتمع وتعطب توازنهم النفسي".
فهل بغير الحب يمكن أن نحصّن مناعتنا ضد الخوف والانسحاب القطيعيّ، وضد كآبة الحيطان تحبسنا وتعد علينا أنفاسنا؟
ذاكرة القلب تمحو، كما يرى ماركيز في "الحب في زمن الكوليرا"، كل الذكريات السيئة، وتضخم الذكريات الطيبة، وترفع من قدرات تحمّلنا آلام الماضي ووباء الحاضر وضبابية المستقبل.
يرفع فلورينتينو بطل الرواية راية الكوليرا، الوباء الذي عصف بالبشرية ذات أزمنة بعيدة، يحوّل رايته في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة من نذير موت، إلى وعود حُبٍّ تَمَسَّكَ به عجوزان في السبعينات من عمرهما، هناك في القارب الخائض غمار رحلة سريالية لا مرآب لها ولا محطة أخيرة، لا يمنع الجلد الضامر الأقرب إلى جلد دجاجة (ممعوطة) الشَّعر، العاشقيْن، من بهجة العناق المستحيل.
وإن كان من معنى للوباء الذي يجوب هذه الأيام حدود العالم المعتمد في سجلات الأمم المتحدة، فإن المعنى الوحيد له برأيي، هو الانتصار لكبار السن، الأكثر ضعفاً أمام غزوه الشرس، والأكثر انهياراً أمام موجاته العاتيات.
لا بد من إحاطتهم بالحب كله، والحدب على وهن أرواحهم قبل وهن أجسادهم، فالإنسانية كالجيوش في المعركة، تقدمها مرتبط بسرعة أبطأ أفرادها، ولا خير في أمة لا يحرص صغيرها على كبيرها.
يفرد الطليان كل ليلة وكل نهار مساحة واسعة للحب رفضاً لهذا الحشد المهول من الموت الذي حملته كورونا لهم عندما حطت في بلادهم. يعزفون، يغنون، يصفقون للفرق الطبية والغوثية، فهل أحلى من كل هذا الحب في زمن الكورونا؟
لا أدري إن كان من مغزى محدد من تردادهم اليومي لأغنية (بيلا تشاو) Bella Ciao ومعناها بالعربية: "وداعاً أيتها الجميلة"؟ فعليهم رغم كل هذا الموت حولهم أن لا يفكروا بالوداع على قدر تفكيرهم بلقاء منتظر، هناك قرب الجادة المبللة بشمس الوجود، هناك عندما يشع الربيع فوق الدروب الرومانية الجميلة، حيث الأثر يبقى والحياة تبقى والمعنى يبقى والحب ينتصر.
على كل حال، رغم وجع الوداع في الأغنية الشعبية الإيطالية التي انتشرت بحماس أيام الاحتلال النازي الفاشي، وارتبطت حصراً أيامها بروح المقاومة وعظمة المقاوم، فإن فيها من معاني الصمود ضد الموت ما يكفي لأن يواصل الطليان شحن عزيمتهم بروح كلماتها:

"أدفنيني، أعلى الجبال

تحت ظل وردة جميلة

وإن مرّ، مرّ قومٌ

بيلا تشاو.. بيلا تشاو.. بيلا تشاو..

إذا مرّ، مرّ قومٌ

سيقولون: ما أجمل الوردة

تلك وردة المقاوم

بيلا تشاو.. بيلا تشاو.. بيلا تشاو..

تلك وردة المقاوم

الذي استشهد حُرَّاً"

لا أحد يستطيع تعليم الآخرين الحياة، فهي، أي الحياة، ترتقي عند بني البشر إلى حشدٍ من المعاني المرتبطة بالقيم العليا، وهي ترفض أن تتوقف عند غرائز البقاء من أكلٍ وشربٍ وتكاثرٍ وبحثٍ عن طوق نجاة، إلى مستويات فوق غرائزية إشباعية حسية أنانية عقيمة التوليد الدلالي والتوظيف المجازي.
وهي نفسها درسها، يومياتها، أبجديات الوجود والعدم، مذكرات محجورٍ قرر الكتابة عن تجربته الفريدة غير المسبوقة بالمكوث، مرغماً أو مختاراً، في منزله، لا يخالِط ولا يخالَط.
يقاوم الطليان الموت بأغنية من وحي مقاومتهم للفاشية البائدة، ويقاوم الشعراء الموت بتدوين سيمفونية الحياة، وإذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في إيطاليا فعلينا أن نعرف ماذا يجري في البرازيل (من منكم يتذكر هذا المشهد التلفزيوني للفنان الراحل نهاد قلعي (حسني البرزان)؟)، وماذا يجري في أسبانيا وإيران وأميركا والصين وألمانيا وإنكلترا وفرنسا، فالخوف واحد، والفيروس الشره واحد، وإن كانت انكشفت مع ماراثونية كورونا هشاشة العولمة الاقتصادية الاحتكارية الجائرة، فقد صار لزاماً على الشعوب أن تعيد المكانة لعولمة الحب، فهو أوسع معنى من مجرد أشواق زوج لزوجته في هذه الأيام العصيبة، يعيش صراعاً محموماً: هل يظل على مسافة منها لحين انتهاء الوباء وجفاف مختلف منابعه، أم يتهوّر ويروي عطشه الجسدي مهما كانت النتائج؟
قال لي صديق ذات جلسة في الجريدة: إن لحظة الموت المفاجئ (الموت في حادث سير أو ما شابه)، هي نفسها لحظة انثيال ماء الحياة من مكامنه، واستشهد في السياق بحادثة مورداً وقائع تؤكد فرضيته.
اليوم، وقد وصلت كورونا إلى 188 دولة، ويقترب عدد المصابين بأوجاعها إلى حدود نصف مليون إنسان، مات منهم زهاء 15 ألف بنسب تتفاوت من بلد إلى آخر، فإن نشيد الحب يصبح أكثر إلحاحاً، خصوصاً إذا صدقت تلك التنبوءات الأكثر فجائعية حول تواصل تمدده وتغوّله على أحلامنا، وبأرقام لا أجدني أملك حتى شجاعة إيرادها هنا.
يصبح الحب أغنيتنا.. نشيدنا الكوني البهيج العنيد الأكيد. وبدل أغنية "وداعاً أيتها الجميلة" ينبغي أن يوحِّد الناس لحنهم، ويهتفوا بصوت واحد "أهلاً أيتها الحياة" Welcome To The Life ونصالح الدنيا ونسامح ونصفح ونحب.. نحب في كل زمان وأي مكان.. وعلى وجه الخصوص في زمن الكورونا حيث قد تهتز موثوقية البشر بالحب بوصفه ملاذاً وعنواناً صالحاً دائماً وقادراً في كل مرّة على التجدد والتمدد، وبما لا يقوى عليه لا كورونا ولا أحفاد كورونا الذين سيظهرون لأحفادنا ذات زمان قادم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.