}

في زمن الكورونا.. ماذا يحمل السوريون في أكياسهم؟

مناهل السهوي 30 مارس 2020
يوميات في زمن الكورونا.. ماذا يحمل السوريون في أكياسهم؟
لوحة للتشكيلية اللبنانية آني كوركجيان
يبدو لي أن الإنسان أوجد المأكولات المعقدة والتي تأخذ وقتاً طويلاً في إعدادها "كورق العريش، الكبة والشيش برك.." أثناء حصار ما، أجبره على قضاء وقت طويل في المنزل، لمعت خلاله تلك الفكرة البرّاقة، بفرد كلّ ورقةِ عنبٍ على حدة، ثم وضع الأرز وسطها ولفها بطريقة هندسية، أو طحن البرغل وصناعة كراتٍ ثم تشكيل قطعة مجوفة يوضع داخلها اللحم المخلوط بنوع من المكسرات ومن ثم إغلاقها بطريقة لا تقلُّ حرفيّة عن لفّ ورقة العنب.. أفكر بذلك وأنا أحفر الكوسا لصنع المحاشي، لكنّي أثقب حبّة الكوسا، وكالعادة الأفكار تفسد الأعمال اليومية.

روائح الطهي تملأ سكون العاصمة الخائفة، وأصوات الأطفال الذين ملّوا مكوثهم في المنزل والرجال الغاضبين من حجزهم لساعات.. سندرك عند الوقوف لدقائق قرب النافذة أن قلّة هم السعيدون بوجودهم مع عائلاتهم. لم يستوعب السوريون بعد أن الحرب انتهت ولا يزالون يعانون أزمة اقتصادية تكاد تخنقهم ليأتي السيد كورونا من حيث لم يتوقعوا، كضيفٍ مفاجئ، وكسرقةٍ وسط النهار، فقدوا خلالها سعادة تكاد تتلاشى أصلاً، ومع كلّ يوم يمضي يعلم الجميع أن الأمر ليس مزحة ولن ينتهي على خير، والشعب المعتاد على الخوف سيدرك شيئاً فشيئاً أن عدواً لا يشبه آخر إلّا بزيادة القهر والخوف، خوفٌ سيتغلبون عليه  بشراء الكثير من الطعام تارة وتارة بالسخرية، فالرجل الذي سقطت بقربه قذيفة ونجا، كيف لكَ أن تقنعه أن عدواً غير مرئي يمكن أن يدخل جسده مسبباً له الانهيار؟ هل تستطيع أن تقنع امرأة فقدت منزلها وخرجت من تحت الردم حيّة وتقف الآن أمام الفرن وسط ازدحام خانق أنّها في خطرٍ حقيقي يدعى العدوى؟ كيف ستقنع هذه المرأة المسنّة أن الأشخاص الملاصقين لها أكثر خطورة من الحجارة والردم الذي كاد يقتلها منذ سنوات! المسألة تتعلق بالتجربة وبمعاينتها عن قرب، فالعبث اليوم ليس ألّا يكترث شعبٌ بإجراءات السلامة ويستمر ببصاقه على الأرض بل بإقناعه أن ما سيأتي قد يكون أسوأ من الحرب والاعتقال والقنص والقصف والقتل الجماعي!
مع بدء أول الإصابات بالظهور ذهب الجميع إلى الصيدليات، كفوف بلون أزرق للرجال وكفوف باللون الزهري للنساء، والكمامات ازداد سعرها عشرة أضعاف، لكنها في النهاية تلبس باستمرار كالأحذية والحقائب والقمصان! الجميع يتوقع الأسوأ ومع ذلك لا يكترثون، وكأنَّ تلك المرحلة من عام 2011 تعاد لكن بسيناريو مختلف، حين اعتقدنا أن حياتنا لن تصبح أسوأ، مؤمنين أنها ستتحسن.. لطالما خان المستقبل السوريين، لكنه هذه المرة يُشرك العالم معنا، إذاً حربٌ عن حرب ربما تبدو مختلفة!
وفي الحقيقة إن أردت معرفة شعب راقب ما في أكياسه خلال أزمة أو وباء ما، الشعوب تُعرف من مخاوفها، ومن أكياسها نستشف ألمها وذعرها والحدود التي يسمح بالوصول إليها، ألم يكن الخوف لأغلب شعوب أوروبا على شكل (ورق تواليت)! أمّا بالنسبة للسوريين فالخوف له شكل الخبز، بجميع أنواعه (وبحسب طبقة المشتري)، فهناك الصمون وهناك خبز الفرن الأرخص والخبز السياحي والذي كما قالت لي جارتنا: "لا يشترونه على الإطلاق، يحتاج زوجها إلى ربطة كاملة منه ليشبع!". إذاً فالاحتياج الأساسي أن يشعر الجميع بالشبع، لكن الفرق الواضح أن السوريين يريدون الخبز وحسب فإن كانت ثلاجاتهم مليئة به فهم شباعٌ حتى لو لم يقدروا على شراء الخضار والفواكه واللحوم، لذلك فكلّ الأكياس كانت مليئة بالخبز والسكر والأرز.. إذاً كلُّ السوريين سيلتهمون الخبز بكميات كبيرة ويشربون خلفه كأس شاي حلو، لا حلويات أرخص من كأس شاي ولا طبق أرخص من رغيف خبز ساخن.
لكن الخبز ليس المعضلة الوحيدة أمام الشعب المولع باللمس، والذي تبدلت أحواله، فاليوم هو يعلم أنه سيموت بلمسة أو قبلة بدل الموت بقذيفة.. سيختبر السوريون الموت بطرقٍ أخرى فالشعب الذي اعتاد الأحضان والقبلات والمصافحة بحرارة يدرك اليوم أن يد الآخر خطر وقبلاته قد تكون قاتلة، ماذا يفعل شعب عُزلت عنه كلّ أنواع الحياة وأشكالها حتى اللمس. أتتخيل للحظة أنك وسط بلد لا يحق لك فيه الحصول على شيء ولا حتى على عناق!
سيكتفي السوريون بأنفسهم وبأحزانهم، وقليلون يأخذون فيروس كورونا على محمل الجد والباقون لا يريدون أن يجوعوا فحسب! فبعد أن انتهت الحرب لا خوف أكبر من الجوع، للآن لم يشعر (كوفيد – 19) بأهميته أو أنه صاحب تأثير، فعلى عكس الصين وأوروبا لم يتمكن من جعل الناس ترتعد خوفاً، وأظنه الآن جالساً في إحدى الساحات يراقب الشعب السوري اللامبالي متسائلاً إن كانت الحرب هي من كسرت هيبته وأنه كان يجب أن يأتي قبل الحرب ليحقق انتصاره المنشود!
نعم حرب عن حرب تختلف! والعطسة قد لا تشبه طلقة الرصاص، والسعال قد لا يشبه سقوط منزل، والإنتان الرئوي قد لا يشبه الاختناق بغاز سام! لكن السوريين اعتادوا الموت ولا يمكن لأحد إقناعهم بغير ذلك، ويكفي أن ترى التزاحم على فرن الخبز وفوقه لافتة بوجوب ترك مسافة أمان بين شخص وآخر لتعرف أن المصائب ما عادت تعني هذا الشعب، وحصوله على ربطة خبز يضعها تحت إبطه بطمأنينة الشبعان في الليل ستنسيه كلّ فيروسات العالم! يملأ أكياسه ويمضي إلى الموت أو الحياة، لا فرق، لا فرق حقاً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.