}

حاكِمْ فيها ربّي

عبد الله جنّوف 10 أبريل 2020
سير حاكِمْ فيها ربّي
رجل يدفع عربة طفل أمام غرافيتي كورونا في غلاسكو/اسكتلندا(4/4/2020/Getty)

كان أهلنا إلى عهد قريب يعيشون حياتهم بلا حماية من أحد، ولا ضمان من أحد. لا يعرفون مِنَن الحكومة، ولا يزورون المؤسّسات الاستشفائيّة القليلة جدّا. يتعاونون على بداية الحياة في حفلات الزواج، وبناء البيوت، وفلاحة الأرض، ويتآسوْن في المصائب. فيقدّم كلّ واحد نصيباً من الفرح والبهجة في المسّرات، ويأخذ نصيباً من الحزن في الأحزان. وتصبح حياتهم مشتركة تتقلّص مساحة الخاصّ فيها لحفظ أسرار صغيرة، أو حسد مكتوم لا ينفصل عن طينة الإنسان. وكان أهل الأرياف والبوادي يسيرون الليلَ والنهارَ حفاة وهم يعلمون أنّ أرضَهم عقاربُ وحيّات وثعابين، ويرون ضحاياها منهم. قاعدتُهم في عدم المبالاة مبدأ قدَريّ لا يقبل النقاش: "حاكِمْ فيها ربّي". فإذا لُدغ امرؤ ومات قالوا "حُكْم ربّي"، واستمرّت طمأنينتهم إلى القدَر وثقتهم بـ"ربّي". وعاشوا مطمئنّين إلى مستقبلهم، دليلُهم في استكشافه شعائر وعبادات وطقوس طفوليّة في قطف أوراق زهرة، أو مراقبة حركة طائر، أو تتبّع اتّجاه دويبة.
وقل ما شئت في تخلّفهم وأمّيتهم وجهلهم بالقياس إلى تقدّمك وثقافتك وعلمك، ولكنّك لن تنعم بذرّة واحدة من طمأنينتهم، ولن تصل إلى علاقة بـ"ربّي" نقيّةٍ صافية كعلاقتهم، ولن تستطيع الخروج من أنانيّتك، وأنت المتعلّم المثقّف كما خرجوا وهُم الأمّيّون. ولا شكّ في أنّك تسخر، في قمّة نشوتك بنفسك، من محادثتهم الهلالَ والقمر، وتكليمهم الشمسَ، وعطفهم على الدوابّ اتّقاءً لشرّ ممكن، وفعلهم الخيرَ وأدائهم الأمانةَ دفعاً لعقاب متوقّع. ولكنّك، أنت النهم الأثِر الفتّاك المستبيح، لن تدرك محبّتهم للكون، وعشقهم للأرض، وشدّة إيمانهم بأنّ الحياة أمانة، والطبيعة وديعة إلى أجل، وأنّ الانتفاع بهما محكوم بالقناعة، محدود بالحاجة. فإذا زاد على ذلك أصبح إيذاء واعتداء وجوراً.
أحطت نفسك بترسانة من الأسلحة العقلانيّة، إحصاء ودراسة واستشرافاً، وشرّحت ماضيك وحلّلت حاضرك وحاصرت مستقبلك قبل ولادته، واعتقدت أنّ كلّ شيء في العالم صار تحت إرادتك، وطوْع يدك، وفي مرمى عقلك ودائرة توقّعك، وأنّك سدَدت منافذ المفاجأة والصدفة، فلا يقع في حياتك إلّا ما خطّطت لوقوعه، وتأهّبت للدخول فيه والخروج منه، واستيقنت أنّ وقائع وجودك مترابطة مضبوطة بعقل مبدع وآلة دقيقة. وفي أشدّ ساعات إيمانك بعقلك وعلمك وقوّتك اكتشفت أنّك عاجز عن توقّع ما سيحدث لك، والاستعداد لمواجهة ما يهدّد حياتك. خذلك عقلك الجبّار، واضطربت آلاتك المتقنة، وتوقّفت مؤسّساتك الهائلة، وتخلّى عنك حليفك القريب، ولم يغْنك مالك المكنوز، ووقفت مرتجِفاً أمام مفاجأة ليست في ميزان الكون إلّا حدثاً تافهاً لا يُكترث له. وعدت إلى تمائم الأجداد، وردّدت بلا حياء تمتمات الدراويش، وانحنيت في صلوات كنت تسمّيها خرافة، ولبدت بين جدران بيت كنت تتأفّف من دخوله، ونبشت ركام خيبتك عن إنسانيّتك وروحك وتواضعك وحدودك وطمأنينتك.
أنت المقيّد في عقلانيّتك الجافّة، المضمون من قبل الدولة، المعالَج في المؤسّسات الاستشفائيّة الحديثة، الغارق كلّ يوم في إجراءات التوقّي والحذر من كلّ شيء: من انهيار السقف في زلزال لا يستأذن أحداً، ومن سيّارة مجنونة في الشارع، ومن لصّ تتوقّعه في كلّ مكان، ومن مؤسّسة تراقبك لتقطع عنك الماء والكهرباء والهاتف إذا تأخّرت في الدفع، ومن جواسيس يراقبون جوّالك، ومن رسالة غرام تتسلّل إلى شريك حياتك، ومن منافس في العمل، أو في الحصول عليه، ومن جار أغنى منك وأنت أحْسَد منه، ومن وباء فتّاك لا تراه إلّا بأثره في جسدك، ومن أجل أن لا تعرف موعده، ولا تستطيع دفعه، ومن ربّ توهّمت أنّه لا يشغله إلّا إحصاء خطاياك لإدانتك وإلقائك في النار.. أنت لا تتوقّى عقلَك الجافّ المكدود المحبوس في أوهام تفوّقه، ونفسَك المتقلّبة القلقة، ونهمَك في كلّ شيء، واستباحتَك كلّ شيء.
لن تستطيع اليوم العودة إلى طمأنينة البادية، ولن تنفعك العودة إليها، ولكنّك تستطيع الخروجَ من سجنك الذي صنعته لنفسك، وإحياءَ طمأنينتك وثقتك.. حينئذ، لن تنتظر بلاغاً مطمئناً من حكومة قد لا تثق بها، ولن تفعل قبل ذلك ما يجعلك حذراً مرعوباً.

مقالات اخرى للكاتب

قص
2 يونيو 2020
سير
10 أبريل 2020
سير
8 فبراير 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.