}

لنحاول أحبتنا صناعة الحياة!

سمير الزبن سمير الزبن 18 أبريل 2020
سير لنحاول أحبتنا صناعة الحياة!
لوحة للفنان الإنكليزي بريتون ريفيير (Getty)
لن يعطل كورونا احتفالي بعيد ميلادي اليوم، لأني ببساطة لا أحتفل به. هناك إنجاز ناقص للفيروس النذل، فهو لن يستطيع أن يُفشل احتفالاً لن أقيمه. لكن للأسف هذا الفيروس الانتهازي بنذالته استطاع إطفاء المدن وتحريرها من روادها بإخلاء شوارعها وتكنيس سكانها إلى بيوتهم، وحبس الجميع في سجن بلا قضبان، ليدمر حياة المحبوسين لضيق من أحبتهم صنعة العيش الطويل معاً في العزلة هرباً من الفيروس، فقد استطاع على تفاهته بث الهلع بيننا وبذلك حطم حياتنا.
كيف استطاع هذا الكائن التافه تدمير حياتنا، هل هي قوته أم هشاشتنا؟ داهمنا هذا النذل عندما لم نكن مستعدين له، فحطمنا. ولكن كيف نكون مستعدين له، كيف نكون مستعدين للمجهول؟ واحدة من أقذر الأشياء التي صنعها الفيروس، أنه أفقدنا اليقين تجاه كل شيء، حياتنا، مستقبلنا، مجتمعنا، شكل العلاقات بيننا، إمكانية الخروج، حقنا بالقبل، حقنا بالاحتضان، وعدم اليقين بإمكانية استعادة الحياة الطبيعية مرة أخرى. حتى أنه أفقدنا اليقين بالطب والمخابر، لا أحد يعرف العدد الحقيقي للمصابين أو حاملي الفيروس ومن هم، حوالي ربع الاختبارات التي تجري للمصابين تأتي بنتائج غير صحيحة. يأتي عند الكثيرين بأعراض تافهة، يتخفى بأجسادهم ليقتل الأضعف بيننا، أحبتنا، كبار السن، عنوان الحكمة التي نملك وبناة حياتنا الذين يستحقون التقدير.
ماذا علينا أن نفعل لحمايتهم؟ الجواب، أن نحبسهم انفرادياً، أي أن نقتلهم بحبسهم لحمايتهم، هؤلاء الذين لم يبقَ لهم الكثير من الوقت، علينا حبسهم، عليهم أن يخسروا ما تبقى لهم من وقت بالعزل. عليهم الموت أحياء ليتجنبوا الموت بالفيروس. أي بشاعة نعيش، أليس ما نفعله بأحبتنا لخوفنا عليهم، يساوي بشاعة ما يفعله الفيروس نفسه فينا. وإذا أصيبوا بالفيروس علينا أن لا نودعهم وأن لا نلمسهم لمسة التضامن وهم يحتضرون خوفاً من انتقال العدوى إلينا. في نقاش مع صديقي الطبيب، قلت له "لو كانت أمي حية، وأصيبت بالفيروس لما استطعت تركها تموت دون لمسة تضامن، لأني أكون قد قتلتها مرتين". بعد هذا النقاش قلت لنفسي انتظر، سهل الكلام عليّ لأن أمي متوفاة، لكن ماذا لو واجهت هذا الموقف حقيقة؟ وماذا سيكون موقف أمي؟ وهي تحبني كما أحبها، هل تقبل أن أحتضن مرضها. بالتأكيد، لا. عندما سألت نفسي «هل سأسمح لأولادي بلمسي، لمسة التضامن، لو أصبت بكورونا ودخلت مرحلة الاحتضار؟» الجواب بالتأكيد «لا»، وأمي لا تختلف عني.
يخاف أولادي عليّ من الفيروس النذل، أختبر حبهم بخوفهم، إنها القسوة بأبشع صورها، أن يكون تعبيرك عن الحب بنبذ من تحب لحمايته. كلما اقترب أولادي من شخص مصاب أو شخص على صلة بمصاب يصيبهم رعب من أن يكونوا سبباً في نقل العدوى إليَّ، خاصة وأنا أعيش هذه الأيام عزلة طبيعية، لأسباب لا علاقة لها بالفيروس. أول إجراء يفكرون به، عند اتصالهم بمشتبه بإصابته، كما حصل بالأمس، هو الابتعاد عني خوفاً عليّ ومحبة لي. اليوم قرّر ابني وزوجته أن لا يروني لأسبوع، لأنه اتصل بشخص والده شخصت إصابته بالفيروس. ومن سخرية الحالة أنه طلب مني تأجيل عيد ميلادي للأسبوع القادم. طبعاً، أنا أحترم خوفهم عليّ. لكن عندما حصل هذا، شعرت تماماً بما يشعر به كبار السن، وشعرت كيف يحطم النبذ حياتنا ويقتلنا، وهذا ما نفعله اليوم مع كبار السن حباً وحماية لهم.
منذ بدء الأزمة فإن أعيننا لا ترى سوى عدّاد الموت، حاصرنا أنفسنا فوق حصار الفيروس لنا، توقفنا عن الحياة لأننا قد نكون في عداد الموتى بسبب كورونا، هذا التحديق في عدّاد الموت شل قدرتنا على صناعة الحياة.
هل انتصر الموت على الحياة، هل انتصر الفيروس علينا؟
لا يكفي النظر إلى عدّاد الموت، فعلى الجانب الآخر ثمة من يهزم الفيروس، ليس من الأصحاء فحسب، بل من المرضى وكبار السن. وإذا كان من الصحيح أن كورونا قد وضع أمامنا معادلة الموت والحياة بشكل حاد، ووجوب توخي الحذر، فإن من الصحيح أيضاً أن لا يشلنا عدّاد الموت ويردعنا عن الحياة، رغم مخاطر الموت، التي كانت دائماً قريبة منا ومع كورونا باتت أقرب. لذلك يجب التفكير بطريقة أخرى لحماية أحبتنا دون نبذهم.
لن أغير عاداتي وأحتفل بعيد ميلادي تحدياً لهذا الفيروس القذر. لكني في مثل هذا اليوم أحب لقاء أولادي، وهي أجمل هدية يقدمونها لي. لكنهم قرروا أن لا يروني لحمايتي، وليس عليّ سوى الإذعان. فلا أحد يستطيع تعليم الآخرين طرق الحب، لأن كل واحد منا يحب بطريقته الشخصية.
إذا امتد بي العمر لأروي لأحفادي شيئاً عن حياتي، سأقول لهم: في كل مراحل حياتي حاولت صناعة حياتي، نجحت أحياناً وفشلت في أغلب الأحيان، في جميع الحالات كان لي شرف المحاولة. أما في زمن كورونا، فكلنا لم نحاول صناعة الحياة، وكل ما قمت به، هو ما قام الآخرون به، انتظرت الموت، لكنه لم يأتِ.

مقالات اخرى للكاتب

شعر
5 أبريل 2024
شعر
29 يناير 2024
يوميات
13 سبتمبر 2023
شعر
7 أغسطس 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.