الساعة أيضا منحت عقاربها إجازة فكفَّت عن الدوران الأعمى؛ انتهت وظيفة الساعة. فلم يعد هناك معنى للوقت؛ كل شيء متوقف، الأيام أيضا محجوزة في يوم واحد طويل، لا ليل ولا صباح ولا مساء، تشابهت كل الأوقات واتخذت لها صفة واحدة، ما عاد أحد يهتم، ولا أحد معنِيٌّ، بالغد ولا بالأمس والحاضر ليس سوى ظلال انتظار مسكون باللاشيء، الزمن سائل، لا حدود له، هو اللازمن،

"الحاضر ليس سوى ظلال انتظار مسكون باللاشيء، الزمن سائل، لا حدود له، هو اللازمن"

 وليس الآن سوى التشيوء وانفجار البياض الكلي، بياض الأشياء في صفاتها الأولى، هو العدم يتجلى في عز الحياة، أين هي الحياة الآن وقد تخلت عنها مفرداتها الأساسية وصارت أشبه بقوقعة تتردد داخلها أصداء الترقب لما هو غير متوقع.
لحظة فالتة، متمددة لا رأس لها ولا ذيل، لحظة كلها تحرر من كل قيود الزمن واشتراطات الحياة العادية؛ التحرر الكلي من ضوابط العيش اليومي، بالإمكان الآن الصراخ بأعلى صوت، وبالإمكان التعري نهائيا، بالإمكان الآن هسترة أعضاء الجسد، تسريحها كما تشاء تفلى في الرقص والغناء والأكروباتيات الأشد تطرفا والقههقهة بصوت لا بحة فيه؛ بالإمكان الآن اكتشاف تفاصيل كانت مهملة في الأركان وعقد صداقات مع ما لا يُرى وهو الوقت المناسب لإعلان حروب داخلية مؤجلة منذ أزمنة بعيدة، كل شيء ممكن في هذا التحرر المحبوس بين الجدران. هي اللحظة التي تمتزج فيها النهاية بالبداية، سائبة؛ لا شيء يشبهها لا الموت ولا لحظة الولادة.

"الآن؛ لن يتعب الجسد من الوقوف أو الجلوس أو الاستلقاء سوف يتعب من كونه جسدا بلا مهام ينجزها"

الآن؛ لن يتعب الجسد من  الوقوف أو الجلوس أو الاستلقاء سوف يتعب من كونه جسدا بلا مهام ينجزها، كل شيء داخله في عراك همجي متصاعد لا نهاية له، لا خاسر فيه ولا منتصر.
غير أن الآن هو فرصة الغياب في الداخل، داخل الذات، وفرصة لابتكار مسافات للفناء داخلها، فرصة تجربة المشي عموديا ببطء شديد فلم يعد هناك ما يستدعي الاستعجال، ولم يعد هناك ما قد يُولّد الندم النذل.
هو فرصة للامتلاء بالفناء، تصديق الغياب بالإمساك بكائنات البياض وتكثيف حضور اللامرئي في الدواخل..
مطاردة الوهم بتمزيق أقنعة الحضور الزائف وتعرية الأسطح الهشة؛ كل هذا لن يمنع من ارتكاب الحلم، وتسريح المخيلة والركض في براري الأمل المتسعة رفقة كائنات البياض.

24/3/2020

*شاعر ومترجم تونسي