}

لأشياء تَنساها الفراشة؛ خوارزما الصُّدفة الاستثنائيّة

أنس إبراهيم 21 مايو 2020
سير لأشياء تَنساها الفراشة؛ خوارزما الصُّدفة الاستثنائيّة
الفراشات الزرقاء- عمل فني للفنان الفرنسي جيروم هوادك (AFP)
عزيزتي؛

أنا في انتظار صدفةٍ، صدفة استثنائيّة منْ تَدبيرِ إلهٍ مرحْ، إله استثنائيّ ولا يملُّ مِن الابتِكار، ولا يتحرَّجُ، في حالة عجزه، عن الاقتباس من آخَرينِ عايشوا تجربتنا الإنسانيّة البائسة وتجاوزوا حُدود عاديَّتها برياضيّاتٍ وُجوديّة غايَةٍ في الجمال كصُدَفِ كونديرا الهزلية، أو صُدَفِ تولستوي الرومانسيّة، أو شيئًا فيكتوريًا، سيَكونُ في غاية الابتذالِ صحيح لَنا الذين نعيشُ ما بعدَ الحداثة، ولكنِّي سأقبَلُ بأيّ شيءٍ، أيِّ صُدفَةٍ لعينة، سأقبَلُ بها وأعدُّها استثنائيّة لا تُقاوَمْ.
البعضُ يَعيشُ على أمَلِ صُدفةٍ مستحيلةٍ كهذه ولو لمرَّة في حياةٍ بأكمَلِها؛ ويبدُو أنَّني اخترتُ ومنذُ وقتٍ لا بأسَ بهِ، اخترت الانتظار أنا أيضًا، لأنضمَّ إلى جُموعِ البائِسِين الملولِينَ الضَّجِرينَ من الحياة وعاديّتها، من العلاقات العاطفيَّة التي لا وقتَ فِيها لحبٍّ استثنائيّ ما دامَتْ القنواتُ العاطفيَّة تمرُّ عبرَ الأسلاكِ النُّحاسِيَّة وخوارزما العصر الإلكترونيّ. ولا وقتَ فِيها للانتِظار أيضًا؛ في بضعِ سنواتٍ، بل في بضعةِ شهورٍ، تنتهي الدّهشة، ينقَضِي الشُّعُورُ الحارِقُ لجسَدٍ في ليل تمُّوزِيّ، لا امرأة تشنُقُ رغبَتِي لأموتَ كالأمم القَديمةِ على حدّ قول الشّاعِرْ وأعودُ أبعَثُ من رَمادِ الشّهوة صَباحَ اليَومِ التّالي، لا شَيء بالمطلق، ضجَرٌ كامِلُ التَّكوين.
قد تكونُ الصّدفة دقائق معدودة، أو لقاءً يستمرُّ وقتًا طَويلًا لا يبلُغُ منتهاهُ أبَدًا، إلى أن ينقَضِي ولا يتكرَّرُ مرّةً أخرى. وربَّما تَكونُ لقاءً عابِرًا، يستمرُّ ما بين الدّقائق، وما بينَ الطُّولِ النسبيّ؛ كلقاءٍ في مطارٍ في طريق العودة إلى بلَدٍ كما في رواية "الجهل" لكونديرا، أو كلقاءٍ على قارعةِ طريقٍ وبضعُ كلماتٍ معدوداتٍ تُقالُ ببلاهةٍ ثمَّ الوداع كرواية "التربية العاطفية" لفلوبير، أو ربَّما تكونُ أشدُّ تعقيدًا وتحتاجُ وقتًا طويلًا، فيها القليلُ من الصُّدفة والكثير من الانتظار وموت يأتي قبل فواتِ الأون؛ كما في رواية "الحب في زمن الكوليرا"، فحتّى إن تزوَّجتِ، سأظلُّ أنتظر صُدفةً استثنائيّة، تشمَلُ موت الزّوج أو خيانته، لا أكتَرِثُ حقًا لحياتهِ أو موته، أكتَرِثُ فقَطْ لشيءٍ واحدٍ؛ لحظَةَ من الدّهشة.
الآنَ؛ وبعد أن عاشَ العالَمُ دهشتَهُ الأولى من الفيروس، سُرعانَ ما اعتاد هذا العالم القبيح الأمر ويستعجِلُ زواله. طبعًا لن ينتهي الأمرُ سريعًا؛ فما بعد الموجة الأولى ثمَّة ثانية، ثمّ أخرى فأخرى، وإن كان البشَرُ محظوظين ولو قليلًا، سيموتُ أقلَّ من عشرة ملايين ولا أقلَّ من مليون. ولأنَّني في سفَرٍ، فكُلَّما سعَلتُ أو ارتفعت درجة حرارتي بفعل البرد، أظنُّني التقطت الفيروس، وأعودُ أفكِّرُ بالموتِ على هيئة امرأةٍ تنتظرُني في سامرّاء، المدينة الموعودة في القصَّة القديمة.
والقصّة أنّ خادمًا أرسله سيّده إلى السوق لشراء بعض الحاجيّات، فرأى الموت على هيئة امرأة تنظُرُ إليهِ بغضَبٍ ودهشةٍ، فارتعبَ وعاد مُسرعًا إلى سيّده ليطلب منه إعارته حصانه حتّى يهرب من المدينة إلى سامرّاء ليتجنّب مصيره. أعطاه سيِّدهُ الحصان وامتطاه مُسرعًا إلى حيثُ لا يُمكِنُ للموت إيجاده. ولمّا دخل سامرّاء ليلًا، وجد الموت على هيئة المرأة في انتظاره، فاستسلم واقتربَ قائلًا حسنًا، ولكن، لماذا كنت غاضبًا هذا الصّباح ومندهشًا؟ فأجابت المرأة: استغربتُ رؤيتك في بغداد لأنّ لديّ موعدًا معك الليلة في سامرّاء.

تبدُو المُدُنُ جميعها الآن، سامرّاء بالنِّسبة لِي وربّما لنا جميعًا. أفكِّرُ في سامرّاء بينما أتأمَّلُ سُخفَ الموت بالكُورونا؛ إن سألَ أحدٌ والِدي، أينَ هو؟ قال ماتَ بالكورونا، عندها، عدا رَحِمهُ الله، ماذا يُمكِنُ أن يُقال أو يُحسّ؟ لا شيء. سُخْفٌ مُطلق. مرَضٌ بلا هويّة، بِلا ملامح، بِلا أيّ معنى ثقافي؛ يُشبِهُ عصرُنا إلى حدّ بعيد، يُشبِه، في الواقع، كلّ مكوّنات عصرنا؛ سَريعةُ الانتِشارِ فارغةً من أيّ معنى ثقافيّ وعلى الأغلَبِ سيكونُ الفيروس مثلها أيضًا، سَريع الزّوال.
للسَرَطانِ ألَقٌ هويَّاتي ثقافيّ لا يُمكِنُ التفوَّق عليه؛ وبما أنَّني سأموتُ عاجِلًا أم آجِلًا، أفضِّلُ الموت بالسَّرَطان، أو بنوبةٍ قلبيّة؛ قَلبٌ مُجهَدْ، قَلبٌ أسوَدْ، قَلبٌ مُتوتَّر؛ شيء يحملُ معنى ثقافيًّا، ألا تُوافقين؟ ولكنِّي، دائمًا، سأختارُ السّرطان طريقًا إلى العدَمِ المُطلقْ، سأحبُّ أن أرى جسَدِي، أو بعضًا منه، ينقَلِبُ عليَّ، وسأحبُّ، إن كنتُ لا أزالُ أحتَفِظُ بحسِّي العدميّ السّاخر من الحياة، سأحبُّ أن أرفُضَ علاج الكيمو منذُ البداية، على أن لا أوافق عليه لاحِقًا كما هي عادة مرضى السّرطان، على الأقلّ في الرّوايات والأفلام. وإن كانَ ثمّة احتِمالٌ لقبولي للعلاج – ها أنا بدأت أفاوضُ موتي المتخيَّلُ منذُ الآن- فذلك أن العلاج الكيميائيّ في مراحله الأخيرة، يقضِي على الإدراكِ تمامًا، ستكُونَ شَبَحَ إنسانٍ يعيشُ لحظاته الأخيرة عاجزًا عن التعرُّف على أيّ شيءٍ أو أيّ أحَدْ؛ تشعُرُ، فقط تشعُرْ، غرَقْ تامْ في اللاوعي المجبول بالذّكرياتْ – التي أنا على ثقَةٍ لن تكون إلّا كابوسيّة في حالَتي، ولكنّك مُعفى، مُعفى من الوعي تمامًا. ولكن ثمّة شيءٌ آخر أيضًا؛ العلاج الكيميائيّ نفسه، وفردوس المورفين لمّا تُصبِحَ حالة ميؤوسًا منها وعليهِ لَكَ ما تَشاءُ منهُ كيفَما تشاء؛ ثمّة ألَم صحيح، لكن، ثمَّة تجربة أيضًا، تجربة لن أكتُبُ عنها لأنِّي سأموت، لكنّها تجربة تستحقُّ العيش... غيَّرتُ رأيي منذُ الآن، سأقبَلُ العلاج الكيميائيّ، ومنذُ البِداية، حتّى ربّما – أنا مخادع- ربّما أتمكَّن من الكتابة، تبًا، ربّما أتمكَّن من النّجاة وخداع الموت لبعض الوقت!
أمّا هذا الفيروس السَّخيف؛ فأيُّ تجربةٍ يكون التقاطه، والنّجاة منه، وأيُّ حظٍّ عاثِرٍ الموتُ بسببه؟ الموتُ الجماعيُّ في غايَة السُّخف، ويسلُبُ الفَرد من فردانيَّة مَوتهِ – أعرِفُ كم أبُدو سخيفًا في عدميّتي مفرط في التمسّك بفردانيّة موتي رغم أنّي سأكونُ ميّتًا على أيّة حال، ولكنِّي لستُ ميِّتًا بعد ولِي الحقُّ بالتذمُّرِ من طريقة موتٍ مُحتمَلة على ما يبدو. ولا يتوقَّفُ الأمرُ عندَ الموت في حدّ ذاته؛ بل التّجربة ذاتها. حُمَّى – الحُمَّى من أمراضِي المُفضِّلة، وأيُّ كارِثةٍ في عدم قُدرتي على التنفُّس والتمتُّع بالأوهام النّاشئة عنها جرّاء اختناقي الدّائم- وثمَّة الاختناق المُفاجئ: لن أعطَى الفُرصَة للتأمُّل في الموت نفسه، سأموت فجأةً بأسخَفِ الطُّرقِ الممكنة. وقد قُلتِ لي أنَّك ستشمَتين بموتي، ساخِرةً بالطّبع، إنْ متُّ بالكورونا، لأنّ في سخافتهِ تكمُنُ أشدُّ الصُّدَف عموميّة الممكن توقُّعها. صُدفةٌ عموميّة، يا للسخافة.
على أيّة حال، يبدُو أنّ الرياضيّات الوجوديّة لا زالت تُجانِبُني الصُّدَف العموميّة الممكن التعرُّضُ لها؛ حوادثُ السّير، الإنفلونزا، حوادث الطّيران – رغم خصوصيّتها، ولكنّها تظلُّ طريقةً سخيفةً، جماعيّة للموت، وثمّة التعويضات التي ستُحوِّلُ موتي إلى جائزة ترضية أو حظًّا جيِّدًا على المدى البعيد، وثمّة القتل المُتعمّد – وهو قد يبدُو خاصًّا، لكنْ إن كانَ لأنّني عربيٌّ فلسطينيّ مثلًا والقاتلُ جنديّ إسرائيلي؟ سأكونُ شهيدًا؟ لا أريد أن أكون شهيدًا، هذا شيء شديد العموميّة وستُمحى هويّتي الشخصيّة تمامًا وأرمَى في سياقٍ وطنيّ لا أحتَمِله. وثمّة أشياء أخرى كثيرة تجنّبتُها، أو جانبَتني إيَّاها الرّياضيّات الوجوديّة وتركت آخَرينِ يلقون حتفهم بدلًا منِّي. ففي كلّ لحظةٍ كان لا بُدَّ لشخصٍ ما أن يموت كنت أنا النّاجي الوحيد، ولذلك، لا أشعُرُ بقلقٍ جدِّيٍ من الموت قريبًا، لا زالَ لديّ الكثير من الوقت لأقتله في انتظار موعد صُدفَتنا الاستثنائيّة في مدينة ما لن تكون سامرّاء.

(ريكيافيك، 13 أيّار/مايو 2020) 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.