}

مدن فارغة ونداءات غير متوقعة

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 23 مايو 2020
يوميات مدن فارغة ونداءات غير متوقعة
"تساءلت كيف أسمع صوتًا اختفى صاحبه منذ ثلاثة عقود"(Getty)
تداولت وسائط التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة، على هامش واقع الحجر الصحي، فيلمًا قصيرًا، يصوِّر نمط الحياة في شوارع مدينة كبيرة، لا يغادر سكانها بيوتهم، خوفًا من الوباء الذي يتربص بهم. وقد تضمَّن لقطات معبِّرة عن درجات الهدوء والسكينة، التي بدت عليها البنايات والطرق والشوارع والأزقة داخل المدينة.. وعكست حركة الكاميرا صور الفراغ الرهيبة والناطقة دون صوت ودون حركة.. تتواصل المشاهد في الفيلم فلا نعثر على ساكنة المدينة، وتُطِلُّ علينا بين الحين والآخر بعض الملامح الغريبة للأشباح والأرواح الهائمة على وجوهها.. تتواصل اللقطات المصوَّرة، لترسم أمام الرائي البنايات المتراصة، وقد تنوعت أشكالها وألوان صباغتها وأنماط عمرانها.
أُغْلقت أبواب العمارات والمنازل، كما أغلقت المتاجر والمقاهي والمطاعم، أغلقت أغلب المعامل والمدارس والجامعات وقاعات الرياضة والمراقص، واختفى السكان في البيوت، اختفى الصغار والكبار والشيوخ، وتحولت الفضاءات العمومية إلى فضاءات مهجورة، رغم أنها أُعِدَّت في الأصل لتكون فضاءات للتلاقي والتشارك، وزينت من أجل ذلك، بالكراسي والأشجار والحدائق المزهرة والملونة، كما زُيِّنَت بأحواض المياه ونافوراتها..
يُصوِّر الفيلم الآثار الناتجة عن سياسة الحجر الصحي على نمط الحياة المعتاد في المدن. ولأن الفيلم أُعِد كما أتصوَّر من زاوية محددة، فقد كشفت عنها بعض المقاطع التي تخترق لقطاته المتتابعة، حيث كانت تظهر بين الحين والآخر بعض الحيوانات، التي دخلت المدن دون استئذان.. وإذا كان من المعلوم في الثقافات الشعبية أن فراغ المدن من البشر لسبب أو لآخر يسمح للأرواح بِمَلئها، فإن الأرواح تحضر متقمصة صورًا متعددة، وغالبًا ما تحضر وقد تقمصت صور حيوانات أو طيور مجنحة.. وهذا ما يحصل اليوم في المدن، حيث تخرج مجموعة من الحيوانات المفترسة، حيوانات تسير وسط المدينة وتتحرك دون خوف، وكأنها تقصد اتجاها معينًا أو تقوم بوظيفة محدَّدة، وحيوانات غادرت أماكنها في الغابات والبحار والأنهار، ودخلت المدن الفارغة..
نشاهد في الفيلم أسدًا يمشي وسط شارع كبير في المدينة، كما نشاهد تمساحًا يعبر طريقًا معبَّدة، والأغرب من ذلك، المقاطع التي صَوَّرت ولوج قِرَدَة لبيت كبير بحديقة وسطها مسبح، ثم انخراطها في السباحة واللعب، واسترخائها بعد السباحة فوق الكراسي المخصصة لاستراحة السابحين، وكأن المسبح أُعِدَّ لها.. إضافة إلى ذلك، نصادف في الفيلم مجموعة من الخنازير والطيور، بعضها يطير في السماء وبعضها يمشي على الأرض، كما نلتقي بجحش البحر يتحرك على اليابسة. ويختم الفيلم مشاهد الحيوانات بزوج البطريق متجولًا في شارع عام.. ويمكن أن نفترض هنا، أن صاحب الفيلم يفترض أن الحجر الصحي لم يعد يتعلق بفترة مؤقتة ومحدَّدة، وأنه يتطلب زمنًا قد يطول أشهرًا بل سنوات، ولهذا السبب امتلأت المدينة بالأرواح وبدأت تتجول في فضاءات المدن، وقد تدخل غدًا مساكنها..
لا يكتفي الفيلم بتصوير القِرَدَة في المسبح الخاص، والأسد والتمساح وهما يتجولان ببطء في الشوارع، بل إن بعض لقطاته الأخرى تقدم دبًا يمشي الخيلاء وسط مدينة فارغة، غير عابئ بما يشاهده من بنايات وأحياء، وكأنه يقصد هدفًا محددًا.. شاهدت الفيلم أكثر من مرة، وقد أشعرني بكثير من القلق رغم صمته وصمت شوارع المدينة التي تَمّ تصويره فيها.. انتبهت وأنا أعيد مشاهدته، إلى أن المدينة التي يرسل خطابه عنها نظيفة، وكأن زمن الحجر أوقف عبث الساكنة بملامحها، ومنحها رونقًا لم تكن تعرفه قبل حلول زمن كورونا.. كما انتبهت إلى أن معمارها وعمارتها مرتبة بشكل يفوق أحوال عمران المدن التي استأنست بها.
تأكدت وأنا أتابع لقطات الفيلم أن المعالم المعمارية التي يُصَوِّر، تشير إلى بعض الأحياء في مدينة أعرفها، فقررت الخروج من الحجر الصحي، وحصلت على الترخيص اللازم لذلك، وقصدت أحياء قريبة من بيتي لأعَايِن كل ما لفت انتباهي في الفيلم، ولأقترب من أمكنة أعرفها ممتلئة وضاجة بمستلزمات الحياة والناس، أمكنة يعرضها الفيلم دون حياة ولا حركة، أمكنة استباحت فضاءها حيوانات الغابة والسماء والماء.
شعرت بقليل من الخوف وتصوَّرت أن عدد الحيوانات المفترسة، قد يكون أكبر من العدد الذي يحضر بين الحين والآخر في مشاهد الفيلم، أو أن أصادف في أحد زوايا المدينة كائنات أخرى تملأ المدينة. ولأنني كنت محمولًا على أجنحة الفيلم أخطو وحدي فوق أرض صلبة ولا أرى أحدًا، فقد وجدت نفسي في زمن قصير، وسط شوارع المدينة كما جاءت صورها في الفيلم.. وجدت نفسي أمام مدينة الأشباح.
انتابني شعور مضاعف بالخوف، ذلك أن الهدوء المُحَايِث للقطات الفيلم امتلك في الصور السينمائية دلالات شاعرية مختلفة، عن الهدوء المزمجر الذي أحسست به وأنا أباشر حركتي وتجوالي في مدينة فارغة.. الهدوء الذي أسبح الآن في فضائه ملغوم، إنه هدوء ممتزج بالرهبة وبنوع من الانقباض الناتج عن طبيعة الحياة في مدينة لا يخرج أهلها من بيوتهم، مدينة تعيش أجواء رمضانية منكمشة، ويهيمن عليها قانون الحجر الصحي خوفًا من انتشار وباء قاتل، وباء تستدعي مواجهته الآمنة تجهيزات ولقاحات وأدوية وفضاءات للعلاج، غير متوفرة بالصورة المطلوبة.. وباء تفيد كثرة المعطيات المتداولة عنه بالصور والجداول أنه غامض..

أواصِل السير بهدوء، أنظر أمامي فلا أسمع صوتًا ولا حركة، لا أرى سيارة ولا تمر أمامي دراجة ولا حافلة. بدأت أشعر بالتعب، وانعكس انقباضي على حركة تنفسي، فانتبهت إلى أن الساحة التي على يساري تتضمن حديقة للعب الأطفال، مع كراس لجلوس من يرافق الأطفال في الأيام العادية وفي عطلة نهاية الأسبوع، فجلست لأستريح قليلًا، قبل أن أستأنف عمليات اكتشافي للمدينة، التي تخلَّى عنها سكانها وخلدوا إلى بيوتهم لا يبرحونها.. وقد أتاح لي الجلوس معاينة مختلف جهات المدينة، بدأت أنظر إلى الجهة التي قدمت منها، ثم أنظر ذات اليمين وذات الشمال لَعَلِّي أرى حيوانًا من الحيوانات التي شاهدت في الفيلم، أو أرى بشرًا مثلي خرجوا للفسحة القصيرة والمؤقتة، فلم أعاين سوى أنفاسي وخوفي، فقد شملني الفراغ بفراغه..
تحركت من جديد بعد أن استجمعت أنفاسي، وبعد بضع خطوات، تبينت أن رجلًا وامرأة قادمان من نهاية الشارع الذي كنت أسير فيه.. حصل هذا بعد أزيد من ساعة من المشي في شوارع خالية. واصلت حركتي وواصل الزوج القادم حركته، بدأت أتبين الملامح العامة لحركة سيرهما، فبدا لي أن حركة الرجل ليست طبيعية مقارنة مع حركة السيدة التي معه وبجواره.. نزداد اقترابًا من بعضنا، فأتأكد أنني أمام زوج يقوم بزيارة للمدينة، وأن ملامحهما ومظهرهما العام تشير إلى أنهما أجنبيان يقيمان في هذه المدينة، وينتظران نهاية الحجر الصحي، ليتمكنا من العودة إلى بلادهما..
ازددت اقترابًا منهما وازدادا قربًا مني، فتبينت أن وجه الرجل لم يكن غريبًا عني، وجدت نفسي أمام الشاعر السويدي الفائز بجائزة نوبل عام 2011 يأخذ بيد زوجته ويسيران ببطء. انتبهت إلى أن حركة الرجل ثقيلة وأن يده اليمنى مشلولة، فتذكرت أنني أمام توماس ترانستروم، شاعر الموت والذاكرة والتاريخ، شاعر الإيجاز والوضوح والاستعارات الدالة، ولأنني تعرفت عليه بعد حصوله على الجائزة، فقد حرصت على مراجعة بعض الحوارات التي أُجْرِيَت معه وقراءة المقالات التعريفية التي واكبت فوزه، كما حَرِصت على قراءة منتخبات مترجمة من أشعاره. وما حفزني على ذلك، الوقائع الصحية المتشابهة بيني وبينه.. إنني أشير هنا إلى إصابته بجلطة دماغية، وهو على أبواب إكمال العقد السادس من عمره، تَرَتَّب عليها ما لحقه من شلل نصفي عَطَّل يده اليمنى، وألحق عطبًا في رِجْله اليمنى انعكس على طريقته في الحركة والمشي. إضافة إلى أنه أصبح لا يتكلم، وأتذكر أنه بعد فوزه بالجائزة المذكورة، كانت زوجته تجيب على الأسئلة التي يوجهها له الصحافيون، حيث كانت قبل الإجابة تتأمَّل حركات يديه ووجهه وابتسامته..  ثم تبدأ في الإجابة، مُعبرة عن المواقف التي لم يعد بإمكانه أن ينطِق بها..
تفكرت كل هذا لحظة تقاطعنا عن بعد، في أحد شوارع مدينة فارغة زمن كورونا.. وكنت قد بدأت أشعر بالتعب، حيث شَكَّل لقائي بالشاعر السويدي مفاجأة لم أتوقعها. خرجت من أجل القيام بفسحة قصيرة، فإذا بي أصادف شاعرًا تشبه طريقة مشيه طريقتي في المشي، يكتب شعرًا، يبتسم متحدثًا ولا يتكلم.. ولأن المساء كان قد أعلن قدومه بعد غروب الشمس وتَوَقُّفِ خيوط أشعتها على نشر ما تبقَّى من نورها فوق المباني، فقد قررت العودة إلى بيتي مخافة أن أصادف في طريق عودتي بعض الحيوانات، التي شاهدت في الفيلم. كان الشاعر الذي التقيت به صحبة مرافقته قد غاب تمامًا عن ناظري، وقد يكون دخل إلى بناية من البنايات التي أمامي قاصدًا مقر إقامته..
واصلت السير وبدأت أقترب من مقر سكني، والتفت يسارًا نحو المنعطف الذي يجعلني ألج بداية الشارع الذي يُفْضِي إلى مسكني، وكان شارعًا كبيرًا ومليئًا بالأشجار العالية. كان الظلام قد بدأ يمهد لبداية الليل، وذلك رغم أضواء الشارع التي أرسلت ضياءها، فسمعت صوتًا يناديني باسمي، ولم يكن الصوت غريبًا عني رغم استحالة حصوله، كان الصوت الذي سمعت صوت والدي، الذي مَرَّ على وفاته ما يقرب من ثلاثين سنة، فانتابني مجددًا شعور عارم بالرهبة والخوف، وتساءلت كيف أسمع صوتًا اختفى صاحبه منذ ثلاثة عقود، استبعدت أن يكون الصوت لوالدي، والتفت نحو الجهة التي خَمَّنْت أن الصوت قادم منها، فلم أجد أحدًا.. رغم أن رنين النداء كان ما يزال حاضرًا في مسمعي.. أسرعت في المشي رغم أن رِجْلِي لا تسمح لي لا بالهرولة ولا بالسرعة، التي تقتضيها بعض الأحوال العارضة. واصلت السير، ثم التفت يمينًا ويسارًا لعلِّي أسمع وأرى ما يؤكد ما سمعت ورأيت سابقًا، فلم أسمع ولم أشاهد أحدًا.. ولم يتكرَّر النداء إلا في أذني..

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.