}

جحيم اسمه المنفى

سمير الزبن سمير الزبن 5 مايو 2020
سير جحيم اسمه المنفى
(Getty)

لا تسأل المنفيّ عن مكان عيشه. اسأله عن المكان الذي جاء منه، لينفجر الحنين والدموع دفعة واحدة، ولتعرف أن البائس الذي أمامك قد ترك الجنة وراءه في البلاد التي غادرها. أنت قد ترى البلاد التي جاء منها المنفيّ تجسيداً للبؤس الخالص، لكن المنفيّ لا ينظر بعينيك إلى تلك البلاد، هو يراها بعينيه التي رأت النور هناك. ليس من الغريب أن يحول الاقتلاع الأماكن البائسة إلى فردوس من بعيد، لأن الأماكن ليست حيادية في ذاكرتنا، هنا ذهبنا إلى المدرسة، هناك أول حب، أول قبلة، أول صداقة، أول مشاجرة، أول غضب وتسامح وضحك وضياع وسكر... هناك حياته.
لا يرى المنفيّ الأماكن التي يعيش فيها، كأنه يسير بعينين مغمضتين، لأنه يريد أن يبني الجدران العالية مع المحيط، جدران العزلة، فهو كشخص يتمركز حول ذات تأسست في مكان آخر، وتعلقت فيه، هو كل شيء بالنسبة له، ما يجعل كل الأماكن مؤقتة، والوطن البعيد هو الثابت الوحيد، فلا هو يعيش هناك، ولا يكف عن الانتماء إلى هناك.
الأكيد بالنسبة للمنفي أنه سيعود، هو حلم لا يغادره حتى وفاته، لذلك ليس من الغرابة أن يقول المنفيون إنهم يرتبون نهاية حياتهم ليعودوا ويقضوها في الأماكن التي كونتهم.
يكمن رعب المنفى في قلق الانتماء بين مكان الوجود وبين المكان الذي ينتمي إليه المرء، في هذا التوزع بين اليومي القائم وبين العاطفة التي تعيد إلى أماكن أخرى، على المنفي أن يجترح معجزة العيش، لأنه يعيش يوميًا بما يذكره بعدم انتمائه إلى المكان، وهو أحد الأسباب التي تجعله غير قادر على الانسجام مع المحيط الجديد.
ولأن المنفى يتحول إلى قدر يعيد تشكيل الإنسان من الداخل، فهو ينمو فينا، لذلك فهو ليس عبورًا حياديًا للحدود، إنه "يسلبنا نقاط الارتكاز التي تساعدنا في عمل الخطط، وفي اختبار أهدافنا، وتنظيم أفعالنا. كل واحد، وهو في بلده، يقيم علاقات مع أسلافه. وهذه العلاقات إما علاقات إعجاب، وإما تضاد، على السواء. إن دافعنا هو رغبة مساواتهم واللحاق بهم في شيء ما، من أجل أن نضم اسمنا إلى الأسماء المحترمة في قريتنا، أو بلدتنا، أو بلدنا. هنا في الخارج، لا يبقى شيء من هذا القبيل، لأننا نبذنا من التاريخ الذي هو دائمًا تاريخ مساحة خاصة على الخارطة"، حسب توصف جيسواف ميووش.
بذلك، يصبح أي زرع هو في أرض الآخرين. وفي لحظات الخلاف ينقلب كل شيء، وعليك ترتيب حقيبتك من جديد لتبحث عن منفى آخر تعيد فيه إنتاج الغربة وترتيبها. والحالة هذه، يصبح من المشروع أن "ينظر المنفيون إلى غير المنفيين بشيء من الحقد. فغير المنفيين ينتمون إلى محيطهم الطبيعي، بينما المنفي لا ينتمي، دائمًا... والمخاوف المحلقة ستنتاب المنفي بسهولة، وهويته تتدعم بالضغوط السلبية (الريبة والغيرة والحقد) أكثر مما تتدعم بالعوامل

الإيجابية (الحب والشعور بالاستمرارية، والثقة)"، كما يقول إدوارد سعيد.
لأن المنفى واقع المنفيّ المرّ، فهو يعيد تشكيله كإنسان باستمرار، إنه فطام قسري، بين الشخص وبين المكان الذي يعطي الأشياء المعنى. هو تحطيم للتاريخ الشخصي، وجرح لا يلتئم في الهوية، واقتلاع من السياق الطبيعي للإنسان. يتحول المنفيّ إلى ورقة في مهب الريح، فالإنسان يبني تاريخه الشخصي على مساحة خاصة، مساحته من خريطة العالم المترامي، القطعة التي كبرت فيه ويكبر فيها دون أن ينتبه، هذه المساحة الخاصة مساحته التي يفقدها المنفيّ، ويكتشف حجم قيمتها الهائل الذي غاب عنه عندما كان يعيش عليها.
يتعمق المنفى بمرور الزمن، ويفقد المنفيّ القدرة على الإمساك بالمركز، وتبقى الإحالة إلى الفردوس المفقود ما يقتات عليه المنفيّ. وهذا العجز في انجاز الطبيعي في المنافي، يُحال إلى الحياة الثابتة والمستقرة والمتجانسة التي كان يعيشها المنفيّ في الوطن، وهذا الاستقرار كان أساس المقارنة مع الحالة اللاحقة من أهوال المنفى.
ليس من الغريب أن تتحدّد حياة المنفيّ بالسلب، فهو يستقر في بلد ليس بلده، لكنه يرفض الاستيعاب والاندماج فيها، حتى عندما يعمل داخل المجتمع، العمل لا يعني الاندماج، فهو لا يهتم بشكل خاص بالشعب الذي يعيش بين ظهرانيه، في الوقت الذي يهتم بشدة بالشعب الذي غادره. من هو المنفي؟ "إنه الذي يؤول حياته في الغربة كتجربة لعدم انتمائه إلى محيطه، وهو يبجلها لهذا السبب بالذات. يهتم المنفي بحياته بالذات، بل وحتى، بحياة شعبه بالذات، لكنه لاحظ في نفسه أنه لكي يرجح هذه الغاية سيكون من الأفضل له أن يسكن الغربة، أي حيث لا ينتمي، إنه غريب ليس بصورة مؤقتة بل نهائية"، حسب توصيف تزفيتان تودوروف في كتابه "نحن والآخرون".
لأن المنفيين يصنعون تاريخ المنفى، فهم يصنعون تاريخ العالم العام، وتاريخ العالم الخاص بهم، لقد أصبح المنفى جزءًا رئيسيًا من العصر الحديث، الذي يجسد اتجاهًا مميزًا للمجتمعات المعاصرة، فالمنفيّ ذلك الكائن الذي فقد وطنه من دون أن يكسب بذلك وطنًا آخر، الكائن الذي يحيا في خارجية مزدوجة.
لاشك بأن الناس يهجرون أوطانهم لاستحالة العيش فيها، فيجدون أنفسهم في المنفى الذي ينبع أساسًا من الانفصال، أو الشرخ الذي لا برء منه بين شخص ما ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها، مما يجعل وضع المرء في غاية الصعوبة عندما "يجد نفسه غريبًا ضائعًا بلا حول ولا قوة، لا يفهمه أحد، من أصل غامض، ومن مكان مجهول من هذه الأرض"، كما يقول جوزيف كونراد.
يعيش المنفيّ بديلًا عن وطنه، فيزداد التصاقًا به في منفاه، من دون أن يدرك الواقع الذي يخلقه الزمن في غيابه يقول: أن لا عودة للمنفيّ من منفاه، فالمنفى تجربة نهائية. عندما يقرر المنفيّ أن يُنهي منفاه ويعود إلى الوطن، يكتشف أن للوطن طعم المنفى، من يعود بعد سنوات طويلة من الغياب لا يعود الشخص ذاته. لا يعود المنفيّ من المنفى لأنه بات داخله، وتتحول كل الأمكنة في العالم إلى مكان غريب.

مقالات اخرى للكاتب

شعر
5 أبريل 2024
شعر
29 يناير 2024
يوميات
13 سبتمبر 2023
شعر
7 أغسطس 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.