}

غادولينيوم

فجر يعقوب 17 يونيو 2020
سير غادولينيوم
لوحة للفنان الفرنسى تشارلز تيودور فرير (1814-1888)

جئت إلى هنا مرغمًا وشاحبًا، وقد استسلمت لغيبوبة بدت في بروقها الأولى المذعورة أنها مألوفة لي، وأن ما سيحدث هنا في هذه البقعة المنفصلة عن زمن الحداثة الملكي في ظني، لن يتعدى التمرين البدائي على الموت. من قال إن دخول كهف المرنان المغناطيسي مثل الخروج منه، فهو يميل على تشطيبات النور مبتدئًا كبيع الغَرَرِ.
عادة لا يدخله إلا نوعان من البشر: النوع الأول، وهو على حافة الانقراض، ويصر على التمسك بكل عناصر الحياة الممنوحة له عسفًا أو استبدادًا. والنوع الثاني الذي أمتثل له قهقهة واستعلاءً مجبر على إعادة هندسة جسده بعد استئصال ما فسد منه عبر تمليحه، ولكّه، وإعادة لفه وصوغه بمراهم الأبدية التي لا تنكأها إلا تلك الشاشة البيضاء الكبيرة، وهي تفرض نوع الفيلم الذي ينبغي على صاحبه أن يشاهده من الآن فصاعدًا، كلما غطس في هذا الكهف المشبع برطانة الأصوات التي لا يمكن تفسيرها إلا في منام إجباري تحضره الأم صعودًا وهبوطًا.
لست أمام وليمة موسيقية بالتأكيد. لا الأصوات التي تضج في رأسي مقدمة للنزوة الإيطالية، أو حتى لمارش راديتسكي، ليتمسكا بمخيلتي فلا تسقط أمام هجمة الأفكار السوداء التي تلي رطانة المرنان. أنا ملح عابر يتشبث بالملح حتى لا يفسد. وأنا طعم البشرة المتكيفة مع نوعية العرق الذي يسيل من جسدي، وأنا أدخل بالتدريج في الكهف الذي يشعرني بدوّار لا نهايات له، فلا أكاد أشعر بأطرافي، ولا بالنمال التي تتسلق جسدي، وتملأ مساماتي ببطء. كنت أدرك ببسالة، أو عن جبن مخفي، أن تباشير النهاية تلوح بالأفق، وأن علي أن أستغرق في ابتسامة متصنعة لا وقت أمامها أو حراشف في رائحة الميرمية التي تفوح من مادة غادولينيوم الكيماوية، وهي تٌزرق في عروقي بحثًا عن واسمات ورمية مذعورة يشتبه في أنها ستتقدم عبر وريد الكلية اليسرى إلى الجدار البريتوني في البطن أو الرئتين. لم أخطط للغدر بها، وانما كنت أريد خمشها في أمكنتها مثل قط يرتعد في عتمة الشتاء، ولكنني فكرت أن الدخول في مواجهة مباشرة مع الورم القناص قد يجدي من باب مماحكة هذا الوحش المتجبر الذي يفسد الأجساد المملحة للصون الأبدي بأذرعه الكريهة، محض عملية خاسرة، ولهذا آثرت الحديث عن رائحة الميرمية المستعارة من باب ولوج الكهف المغناطيسي بعد ثمانية أيام من العملية الجراحية "الثقيلة" التي خضعت لها في إحدى مشافي ضواحي دمشق.


نهضت ثقيلًا من اليوم الثامن. انسحبت منه على رؤوس أصابعي. كنت أحتفظ بابتسامة غامضة لا تفسير لها سوى أنني قررت القفز على تجربتي أمي وشقيقتي في معركتهما الخاسرة مع هذا الوحش المتجبر بنوع من الأنانية دفعت بي للبقاء حيًا، وقد انتهت باندحارهما أمامه، وصارتا رمزًا متآكلًا للغياب.
أمي لفظت أنفاسها في العاشر من نيسان/أبريل 1992 بسبب سرطان المعدة، وأنا أواصل دراستي في المعهد العالي للسينما في صوفيا، وشقيقتي الصغيرة دلال الأذكى من بيننا جميعا، طالبة الأدب الإنكليزي التي شهقت بسببه بين يدي ألف مرة قبل أن تصعد روحها للأعلى، وهي تحاول أن تبتسم، وتبحث عن ابنها الصغير دون جدوى في قتال عبثي مع الموت لم أعايش مثله، ولا أعتقد أنني سأقف على تخوم موت مشابه. ليست دلال إلا نموذجًا من الشجاعة والأناقة والحب. كانت أنيقة في حياتها القصيرة، وأنيقة في موتها المأسوي في صراعها مع هذا الوحش، وهو نفسه من يقوم الآن بفتح أبواب جهنم علي، ويرغمني على أنانية لست مهيأ لها، فأنا أخجل من شقيقتي على الأقل. كانت صغيرة وبوسعها أن تعيش عمرًا إضافيًا لتقول شيئًا عن رحلتها في الحياة التي منحت لها.
لقد جاء دوري إذًا. لا أعرف لماذا تملكني شعور فاضح بأنه لن يمر عقد بيننا إلا وينتهي بمصرع واحد منا. هكذا عوَّدنا، وهكذا سوف نستثمر عقودًا قصيرة في معارك خاسرة سلفًا. ولكن من قال ذلك؟

كتبت سنة 1986 في مجموعتي الشعرية الثانية                            

(النوم في شرفة الجنرال) في قصيدة (حرية):

العصفور الذي يدخن السجائر

لن يصاب بسرطان الرئة

لأنه لا ينام في قفص.

أخطأت في معركة توصيف الحرية مثل أي كذبة نقتنيها في مقابر اللغة، وسحج الدلالات المتوفرة في قواميس النحاة والأطباء. كنت حينها مدخنًا شرهًا، وأتوقع منه أن يغدر بي، ويطلق سهامه في الرئتين، ولكنه فاجأني بعد عقدين بأنه يضرب في مكان آخر غير متوقع، ويتيح لي أن أتوقف عن التنفس أكثر من خمس ساعات كي أضرب بأنانية في معقله، وأصيب منه مقتلًا. نعم لقد هزمته، وتوقفت عن التدخين عامدًا قبل معركتنا بعشرة أعوام كي لا يضرب في المكان القاتل الذي توجت ملكًا عليه بخبث وتواطؤ من القدر نفسه، والأشجار التي أكلمها عن أسمائها الأولى في الكتب، فلا تصغي لمن كان بمثل أنانيتي، ولا تنهزم أمامي. لقد طورت أكاذيبي في مواجهته، إذ كنت أدرك بعد رباعية الطبقي المحوري التي أسرف الطبيب مازن المنجد في وصفها وتلقينها لي، وكأنها إحدى روائعه، أنه يغزوني ببطء منكر، وأنه سيكون ماكرًا في تسديد ضربته، ولكنني سأكون أشد مكرًا منه، ومراوغًا مثل أي جندي يغوص في الوحل والعفن الآدمي حتى ينجو.

*****

اللقاء الفاصل مع طبيب الأورام المعالج جاء بعد أسبوع من الجراحة المنتصرة بملاقط ومشارط الطبيب الجرّاح نزار. لم أتوقع أن يكون هو. كله إلا هو. كان شخصًا مألوفًا جدًا لي. مرَّ بمحاذاتي كثيرًا، ومررت أنا بمحاذاته بعدد أكواب العدس التي شدّت من مسامير رُكبي في الطفولة. لطالما رأيته، وأنا أتصنَّع الكتابة أحيانًا، وأكذب أحيانًا من موقع شخصي جدًا.
ما أعرفه عن مفازات الجند أنه اعتقل مطلع ثمانينيات القرن الماضي في رحاب جامعة دمشق، ولم يكمل تعليمه الجامعي، وزُجَّ به في غياهب سجن صيدنايا من أجل منشور دَعَوي، لم يصل حد الافتتان بالسلاح، وحين قُدر له أن يخرج منه حيًا، ليؤكد نظريته في الانتصار على شوائب أنانية مطرزة باليفاعة التي لم تفارق محياه، فاجأ الجميع بأنه أنهى تعليمه متخصصًا في معالجة الأورام السرطانية، وكان قدري أن أجابهه هذه المرة متعللًا بالداء الذي تعلم فن محاربته في العتمة، لأعرف كيف أستمر في الحياة.

ابتسم لي فهو يعرفني جيدًا. خفت من ابتسامته أكثر مما شعرت بالطمأنينة، وخُيّل لي أن ابتسامته تستدعي "الواسمات" الورمية من الهواء حتى تتشقلب في جسمي، وتبحث عن موطئ قدم في مغارة من مغاراته. لا أعرف لماذا أحسست بذلك مع أنه بدا لطيفًا ومتماسكًا وقادرًا على نسخ رواية جيب صغيرة عن كل مريض يزوره في عليّته الصغيرة. كان صاحب ضحكة واثقة، وهو يستدرجني إلى مكامن العلّة بالتدريج. قال إنه يتوجب علينا أن نقوم بعمل مرنان مغناطيسي للحوض والبطن والصدر وبعض الدمويات (الفوسفتاز والكالسيوم) كل ثلاثة أشهر، لمراقبة الواسمات الورمية في العظام والدم بعد أن قرأ نتائج التشريح المرضي الذي تلا تجريف الوهم الأسود من جسمي.
صفن الرجل السجين طويلًا، وأحسست أنه يقودني إلى سجنه، دون أن يفرض عليَّ توزيع أي بيان من بياناته التي حملها في يفاعته عندما سألني عن إصابات في عائلتي. قلت بصوت راجف ومموه بقشور شجر القيقب التي تزورني في مناماتي قادمة من صوب بلغاريا التي احتضنتني سبع سنوات إنه سبق أن نال من أمي وشقيقتي في العقدين الماضيين. بدا لي أنه ابتسم. لست متأكدًا. قال:
- لا يمكن أن نصف وضعك بأنه ممتاز، ولكنه جيد ومقبول حتى الآن على الأقل. بالطبع ثمة إشارة تبدو مقلقة لي، وتتجلى في محاولة خروج الورم إلى منطقة الأوعية الدموية في غزو غير صريح، بعد أن كان متركزًا مدة عامين ونصف عام تقريبًا فوق الكلية اليسرى، حتى أنه أخذ يضغط على غدة الكظر، ويميل عليها مستأنسًا بوحشيته، وهي أخذت تضغط بدورها على البنكرياس، وتتأرجح عنده متحدية لعوامل التوازن المعقدة في الجسم البشري.
قال إن المرنان المغناطيسي للحوض والبطن والصدر سيحسم أمورًا كثيرة، وأوصى بالتصوير قبل وبعد الحقن بمادة غادولينيوم (نسبة إلى العالم الفنلندي يوهان غادولين) الكيماوية السامة للكبد، ولكنها القادرة على تسكين ذرات الهيدروجين في الجسم من أجل الحصول على صورة نقية وواضحة. كنت أتأمله من زاوية الشارع، وليس من زاوية الطبيب المعالج الذي ألجأ إليه الآن. لقد مرَّ بمحاذاتي مطاردًا أشباح الموت العليا، وابتسم في وجهي مرّات عديدة. ربما كان يمهد عامدًا لهذه الابتسامة الغامضة التي سيستقبلني بها في عيادته، فقد غدت مثل صخرة حجرية تتدحرج في وجه الريح، تصفعني، وتؤلمني، وتقيدني بمعادن أرضية لا سبق لي بمعرفتها.
لا أعرف لماذا لجأت مباشرة إلى موسيقى جاك أوفنباخ بعد خروجي من عيادته، لأحتمي بها. بدت لي مقطوعة (أورفيوس في العالم السفلي) مادة كاوية ومتحررة من إبليس، وتفيد في قطع رأسي، أو على الأقل، مداواته بطريقة بدائية لا يعرفها هذا الطبيب الغامض، الذي دوَّخني بمروره من أمامي، تارة يبتسم، وتارة يحيي بصمت، وهو يجر زنزانته وراءه كل هذا الوقت.
كأن جاك أوفنباخ الذي أكمل رحلة التيه بين ألمانيا وفرنسا بحثًا عن عشبة الموسيقى الخالدة يقف أمامنا دون جنسية أو هوية، ولم يعد مهمًا التلفت نحو قصص هوفمان الموسيقية، فهي لم تكن مكملة لرحلتي الجديدة مع التيه الذي أشعر به في هذه اللحظات الفاصلة من حياتي. هو كان يحمل اسمًا فرنسيًا واسمًا ألمانيًا، وأنا لا أحمل أي اسم، وليس مهمًا إن ابتسم، أو كشَّر عن أنيابه من وراء الغيوم، أو حتى من وراء الثلج في الروايات البعيدة. المهم أن الموسيقى تصفعني، وأنا ممدد على الطاولة التي تدخل تدريجيًا في الكهف. وكان يجب أن أحتمل هذه الرطانة الصوتية مدة ساعتين ونصف ساعة في كل مرة أدفن فيها داخل الرحم المغناطيسي.
لم يكن الخروج من الكهف يشبه لحظة الولادة الأولى التي نتغنى بها في أفلامنا وكتاباتنا. لا يوجد هنا رحم، ولا دماء ولا حبل خلاص. كانت مادة غادولينيوم قد ملأت مثانتي، وفاحت من جسدي رائحة الميرمية الثقيلة، وشعرت بتهديد مميت. كان يجب أن أقف، وأقول كلمة ما عن مسرحية العبث التي أعيشها لوحدي دون ممثلين وممثلات، ولكن الطبيب المشرف على المرنان طلب إجراء مسح بالأمواج فوق الصوتية للجهة اليسرى من الجسد المختفي. الجسد الذي لم يعد بحوزتي. وأنا أريد في هذه الدقائق الثقيلة أن أتخلص من تأثير المادة الكيماوية الظليلة التي تكشف الخفايا والعتمات، وتهدد كليتي الوحيدة، وأن أبتسم، مثل الجمهور غير المرئي الذي يتابع هذه المسرحية، وأغيّر من حلكة الليل في هذا الجب المغناطيسي الذي أرقد فيه كل ثلاثة شهور مدة ساعتين ونصف الساعة من أجل أن أستنشق رائحة ميرمية يوهان غادولين من جسمي، وأشعر بقدرة فائقة على الاستمتاع بالرنين المغناطسي بتباينات مضاعفة، كما تفترض هذه المادة الخطيرة المميتة التي مُنعت من الاستخدام في دول الاتحاد الأوروبي، وما تزال هيئة الصحة الأميركية تحذر منها بالصوت العالي، ولم يذكر أحد أمامي أي شيء عن الديال الدموي الذي يوصى به في مثل هذه الحالة إثر الخروج من الكهف بغية المساعدة على رشح النفايات من الدم.

[غادولينيوم: كتاب قيد الإعداد والتطوير]

* سينمائي وروائي فلسطيني يقيم في السويد.

 فجر يعقوب 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.