}

في انتظار الحكاية

محمد السلوم محمد السلوم 4 يونيو 2020
قص في انتظار الحكاية
لوحة للفنان الفيتنامي دوي هوينا
كان الطابور طويلًا دون نهاية، وبالكاد ينجح البعض بالدخول، ومن يدخل لا يخرج أبدًا. في الداخل ممر طويل، صفان متقابلان من المقاعد المهترئة الوسخة، ممتلئة كما هي العادة، وبين الصفين وقف بعضهم يحمل حقائبه وأكياسه البلاستيكية الممزقة ململمًا فيها أشتات حياته، فيما حاول الجالسون دس حقائبهم تحتهم وبين أرجلهم مفسحين ما أمكن المجال للأطفال العابثين بكل شيء، القافزين في المكان، الذين كان صوت صراخهم يعلو على الأحاديث الجانبية التي تحاول كسر الرتابة وملل الانتظار.
دخلت الموظفة الوحيدة، صاحبة الوجه الميت الخالي من أي تعبير، تحمل أوراقها وقوائمها المعتادة، وقفت بينهم وصرخت: محمود الغارق؟ محمود الغارق... كان محمود قد دخل للتو يحمل طفله على كتفه وبين قدميه أسند كيسًا بلاستيكيًا أسود. قال: حاضر هنا... قالت: تفضل السيد في انتظارك.
انفجر الغضب في القاعة، ولأول مرة منذ وقت طويل علا ضجيج المحتجين على ضجيج الأطفال، وقف بعضهم شاتمًا الواسطة والمحسوبية، في حين استهجن البعض الآخر دخول محمود لمقابلة السيد وهو الذي دخل للتو من الخارج، بينما ينتظر بعضهم منذ أشهر طويلة.
ولكن الموظفة الباردة لم ترد على أي منهم، قالت وهي تغلق الباب: وحده السيد من يحدد.
سرعان ما عاد الصوت ليخفت مجددًا، مفسحًا المجال أمام العديد من الأحاديث الجانبية الجديدة والتي كانت كلها تدور حول مزاجية السيد ومقابلاته. في الزاوية قالت الصبية الجالسة بجانب رجل بثياب عسكرية: لقد جاء للتو ودخل الآن، كم هو محظوظ!
قال لها: منذ متى وأنت هنا؟
قالت: منذ عدة أيام.. وأنت؟
قال: هوهووو من أشهر طويلة.
قالت: متى سيحين دورنا؟
قال: لا أحد يعلم. ربما غدًا وربما لن يحين أبدًا... الأمر كله بيد السيد التافه القابع في الداخل.
قالت: لماذا يأتي بنا إذا كان لن يحين دورنا؟
قال: لأنه طماع، شره، يجمع أكثر من طاقته، لذلك تريننا مكدسين هنا.
قطع حديثهما صوت صراخ من الداخل، صمت الجميع محاولين الإنصات ولكن دون فائدة، كان الصراخ غير مفهوم وسرعان ما تحول إلى بكاء أشبه بالعواء.
قالت: ماذا يحصل في الداخل؟
قال: إنه يتخلص من عذاباته ويتحرر من آلامه ليصبح مستعدًا ليبدأ حياته الأخرى الأبدية.
قالت: ومن لا يدخلون؟
قال: يأكلهم النسيان، في البداية يملؤون المكان ضجيجًا، ثم يهدؤون، يجلسون في زاوية ما، وشيئًا فشيئًا يبدؤون بالتآكل، تختفي أمتعتهم وأشياؤهم ثم يتكورون على ذواتهم ويلوذون بالصمت، وعندما نتذكرهم أخيرًا في قلب كل هذه الفوضى، نبحث عنهم فلا نجدهم... يختفون، يأكلهم النسيان!
قالت: ما أبشع ذلك، لا أريد أن يأكلني النسيان.
قال: كيف وصلت إلى هنا؟
قالت: كنت عائدة من المدرسة عندما اختطفتني مجموعة من الجنود، أخذوني إلى غرفة قائدهم، ربطني بالسرير بمساعدة جنوده ثم اغتصبني، صرخت ولكنني لم أسمع إلا ضحكات جنوده في الخارج.
تمعّن وجهها مطولًا، أغمض عينيه وراح يهز رأسه وقال: ابن الحرام!
قالت: نعم، كان ابن حرام بالفعل.
قال: أقصد المجنون الجالس في الداخل.
قالت: لماذا؟
قال: لا شيء، ألا تذكرين وجه مغتصبك؟
قالت: لا، كانت عيناي غارقتين بالدمع، والصورة غائمة بالكاد رأيته، كان وحشًا لا بشرًا.
قال: ولكنه لم يقتلك!
قالت: لا، قتلني أخي، ذهبت إليه باكية مستنجدة، فأفرغ كل طلقات بندقيته في جسدي، كان يغسل شرفه كما قالوا، انظر إلى ثيابي، ما عدت أميز دماء بكارتي من دماء شرف أخي!
أغلق عينيه مجددًا وراح يهز رأسه قائلًا: مؤسف، ما كان ينبغي أن يحصل ذلك كله.
قالت: ولكن كيف عرفت أنه لم يقتلني؟
قال: آه.. أنت قلت ذلك في بداية الحديث.
قالت: آه، يبدو أنني نسيت... أتمنى أن أدخل اليوم.
قال: لا أظن... عادة يدخل واحد فقط كل عدة أيام، وأحيانًا كل عدة أشهر، ولكن الوافدين الجدد لا يتوقفون عن الوصول كل يوم.
قطع حديثهما صوت الموظفة التي فتحت الباب مجددًا ووقفت في مكانها المعتاد وسط الغرفة وصرخت: شيماء المظلومة... شيماء المظلومة، هبت الفتاة صارخة: أنا أنا..
قالت الموظفة: اتبعيني... أحضري أغراضك معك.
قالت: ليس معي شيء.
قالت الموظفة: حسنًا اتبعيني.
ودّعت الفتاة الرجل صاحب الزي العسكري على عجل متمنية له مقابلة سريعة، وانطلقت خلف الموظفة في ممر ضيق تكدست على جانبيه الكتب وصناديق الورق، وصلتا إلى باب السيد، فتحت الموظفة الباب بهدوء ثم دفعت الفتاة برفق وأغلقت الباب خلفها.
في الغرفة كان السيد خلف طاولته الخشبية العتيقة، أوراق مبعثرة غطت سطح الطاولة، وأوراق أخرى ممزقة تناثرت على الأرضية. خلفه كان ثمة مكتبة كبيرة فيها كتب كثيرة مختلفة الأحجام والألوان، وأمامه كان ثمة كرسي وحيد، طلب السيد منها أن تجلس عليه، فجلست.
قال لها: ها يا شيماء حدثيني.. ثم أمسك بقلمه ورتب أوراقه مستعدًا.
قالت: بماذا أحدثك؟
قال: عن الرجل الذي اغتصبك وعن إخوتك الذين قتلوك.
قالت: كنت أرتجف باكية مرتعبة، وقف هناك ككتلة من الشعر والقرف، خلع ثيابه وارتمى فوقي، راح يمزق ثيابي ويمرر يديه على جسدي، ثم أخذ يلعقني ككلب، وسرعان ما راح يمزق لحمي بأظفاره كذئب جائع. جلس بين قدمي، باعد فخذي وحاول أن.. ولكنه لم ينجح، حاول مجددًا ولكنه لم ينجح، شتمني وشتم ربي وأمي وأبي وضربني وحاول مجددًا ولكن دون فائدة، طلب مني التوقف عن البكاء والصراخ ولكنني لم أستطع. كان جسدي يرتجف دون توقف، ودون إرادة مني.
حاول أن يدخل قضيبه في فمي ولكني لم أسمح له، ضرب رأسي بالجدار أكثر من مرة وهو يخور كالثور قائلًا: لن تكسريني يا عاهرة. ثم أمسك بندقيته ودفع فوهتها بين فخذي! مزق بكارتي، شعرت بها تمزق أمعائي وراحت الدماء تسيل مني.
صرخ بجنوده قائلًا: شيلوا هالكلبة وزتوها بعيد!
دخلوها كالضباع ضاحكين، جروني خارج معسكرهم دون أن يتوقفوا عن الضحك.
السيد: وإخوتك؟
شيماء: لم أستطع النهوض، بكيت طويلًا، ثم حاولت الوقوف ولكن...
السيد: أعلم كل ذلك يا شيماء، أريد إخوتك، إخوتك فقط.
قالت: وصلت القرية والدماء ما زالت تنزف مني، بالكاد استطعت تغطية جسدي ببقايا ثيابي، تجمع الناس حوالي، ولكنني كنت أريد الوصول إلى إخوتي، كنت أريد أن ينتقموا لي من أولاد الكلب.
وصلت إلى البيت أخيرًا، خرج أخي الكبير، تنفست الصعداء عندما رأيته، إنه أحب إخوتي إلى قلبي، هو بمثابة أبي، هو من رباني. رميت نفسي عليه باكية ولكنه دفعني جانبًا، حاولت أن أشرح له كيف خطفني الجنود وماذا فعل قائدهم ولكنه لم يسمع شيئًا. عندما رأيته يحمل البندقية ظننته سينتقم لي، ولكن عندما جرني من شعري إلى وسط الشارع ما عدت أفهم شيئًا، لم يمنحني فرصة لأقول أي شيء، بصق عليّ وأفرغ بندقيته في جسدي ثم قال كما قال الضابط قبله: شيلوا هالكلبة زتوها بعيد!
كنت هناك جثة حائرة، أشاهد الناس يصافحونه ويقبلون رأسه ويهنئونه بغسل عاره... فعرفت أنني كنت ذاك العار!
مع هذه الجملة كانت شيماء قد أنهت حكايتها، لم يرفع الكاتب رأسه عن أوراقه، ولكنها كانت مع تقدمها في الحكاية تبهت شيئًا فشيئًا، أصبحت شفافة، وفي النهاية.. اختفت!
تنهد تنهيدة طويلة ورفع رأسه صوب الكرسي الفارغ أمامه، ورح ينظر في الفراغ. استفاق بعد دقائق، ضغط زرًا على جانب الطاولة فدخلت الموظفة، قال لها: أحضري ماهر المغتصب.
خرجت الموظفة إلى الغرفة للمرة الثالثة في ذلك اليوم، وهو الأمر الذي لم يحدث منذ وقت طويل جدًا، وقبل أن تصرخ بالاسم الجديد قال لها الرجل صاحب اللباس العسكري: أنا.. حاضر.
في الغرفة جلس ماهر على الكرسي ذاته، حدق فيه السيد مطولًا ثم ابتسم قائلًا: هل عرفتها؟
قال: لا يمكن أن أنساها. كانت كطفلة شهية.
قال السيد: بل كانت طفلة أيها الحقير.
قال: نعم، كانت طفلة، طرية بريئة غضة، جسدها ناعم كالحرير، لو أنها توقفت عن الصراخ والبكاء..
قال السيد: سحقك بكاؤها.. انتصرت عليك!
قال: ولكنني لم أتركها تنتصر، مزقتها ببندقيتي، أه لو تعلم كيف اخترقت البندقية أحشاءها، كأنك تقطع قالب زبدة!
ضحك السيد وقال: أتعلم، العبارة ذاتها قالها محمود وهو يحدثني عن شعوره عندما قطع عنقك!
قال: محمود؟ من محمود؟
قال السيد: محمود الغارق الذي دخل قلبكم اليوم. هو غريمك الذي احتز عنقك بسكينه عندما سيطرت جماعته على معسكركم.
قال: ولكنه كان يحمل جثة طفل على كتفه!
قال السيد: نعم، كان ابنه الوحيد، كان يحاول الهرب عبر البحر، ولكن الحظ لم يسعفه، غرق القارب، مات كثيرون معه، حاول حمل ابنه كي لا يغرق، كان الطفل غريقًا أصلًا، حمل جثته ساعات طويلة وهو يحسب نفسه ينقذه، ثم استسلم أخيرًا وغرق هو الآخر. أتعلم أنك كنت أول شخص يذبحه؟ حدثني أنه كان خائفًا، كانت يده ترتعد، ولكنه ذكر مثلك هذا الشعور اللذيذ لسكينه وهي تقطع قالب الزبدة، رقبتك طبعًا...
قال: لم أصدق أن الخونة هربوا وتركوني وحيدًا، كنت أعرف أنهم سيذبحونني، رأيت لهم عشرات الفيديوهات المسجلة وهم يذبحون، كنت أرتعد هلعًا، لم أستطع الوقوف على قدمي، خارت قواي وسقطت أرضًا، وقفوا أمامي وهم يصرخون وأمسك أحدهم برأسي ودفعه إلى الخلف و... أتعلم؟ كان الأمر سهلًا حقًا، لم يكن مؤلمًا، كان مخيفًا مرعبًا جدًا، ولكنه كان سهلًا، هو بالفعل كسكين تقطع قالب زبدة.
ومع ضحكاته الأخيرة كان ماهر قد اختفى هو الآخر تاركًا الكرسي فارغًا والسيد يدوّن كلماته الأخيرة مبتسمًا.
ضغط زر الطاولة مجددًا، حضرت الموظفة، قال لها: ثمة عدد من الوافدين الجدد في الخارج، أفسحي لهم مكانًا في غرفة الانتظار.
قالت: المكان مزدحم جدًا.
قال: لا بأس، بعضهم ما عاد مهمًا، أصبحت حكاياتهم عادية، سيختفون قريبًا، أما البقية فسيأتي دورهم قريبًا..

مقالات اخرى للكاتب

قص
4 يونيو 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.