}

محاولة لاستعادة الإنسان من النفق

عبد العزيز بنار عبد العزيز بنار 20 يوليه 2020
يوميات محاولة لاستعادة الإنسان من النفق
"نحن على حافة نهضة فكرية وقيمية تجاه قيمة الحياة"(Getty)

لا أعرف كيف سيتوقف الناس عن طرح سؤال من يملك العالم؟ ولا كيف سيهتدي الجميع إلى أجوبة هادئة ومُرضية؟
لا أصدق أن حيرة الإنسان ستُثبت الصورة النهائية لهذا الإنسان الذي يقاوم باستمرار ضد هشاشة هويته. إن رواية الكائن البشري عموما تدور في الذاكرة والنسيان اليومي والتاريخي، يتخاذل فيها السلف، ويغيب فيها السند، ويبزغ فيها الإخفاق. ربما أن الإنسان أساء قراءة التاريخ والرموز عربيا وغربيا.  فلا ابن سينا ولا الرازي ولا الغزالي ولا ابن رشد ولا سقراط ولا أفلاطون ولا ماركس ولا روسو ولا الفكر الديني وعصور النهضة وثورة الطلاب الأوروبية جنبوا الإنسانية تجرع صدى فشل الحداثة واليسار.
كما أن علوما مثل علم النفس، والتاريخ، وعلم الأديان، والأنثروبولوجيا، والإثنولوجيا، وعلم الاجتماع، ووسائل الاتصال، لم تتمكن من قيادة الروح الإنسانية إلى تقويم جوهرها، وتجنيبها الجحيم والحروب والرعب وإتلاف الحقائق على شاشات الأخبار، وفي كواليس المؤتمرات ومخافر الاستنطاق، ومثلما وجد بطل رواية "القوقعة" نفسه سجينا بلا سبب معروف، يصادف الناس قدرهم في زمننا الحاضر.
على ميدان التاريخ يشعر الناس أن الحياة أفضل في مكان آخر، لهذا يتنافسون من أجل امتلاك العالم، فيتحول الإنسان، وهو يواصل مساره الثقافي بيقين على أنه سيد الطبيعة، إلى كائن غارق من خفته الهشة بتعبير فرانز كافكا، ميال إلى كسر مرآته، كشاف لظله المحفوف بالرعب والتدمير والإقصاء والثأر ورعاية الفوضى الخلاقة والموت الناعم. لنتأمل إسقاط تمثال صدام حسين من طرف العراقيين في الحرب الأميركية على العراق، وتدمير وقتل القذافي في ليبيا من طرف الليبيين، وإسقاط تمثال كريستوفر كولومبوس مكتشف أميركا من طرف الأميركيين في احتجاجات مفتوحة ضد العنصرية. ومن منا يدرك أن العنصرية هي الجريمة الأكثر شرعية عند الفرنسيين؟ من منا يدرك أن العالم الثالث خرج من مؤتمرات العرب أيضا؟  من منا سيهدأ له بال وهو يعاين المدن العربية العريقة وقد استحالت أنفاقا سرية للهروب والتهريب، وغدت مختنقة ومثقلة بالغبار؟ أين سحر الشرق الغارق في الجمال؟ أين هي غواية فلسفة التنوير القادمة من وراء البحار؟
إن كل حضارة تخبئ ظلها المرعب. إننا أمام كائن متوحش، يتقنع في ذات أخرى طيبة، منزوعة الثقافة، مثقلة برغبات دفينة تقودها السياسة أو الدين أو المخيال نحو امتلاك العالم ولو بصور بشعة.
كل إنسان يريد أن يخاطب السماء والعالم والذات من مركز ما، لكن كل المراكز التي اتكأ عليها الإنسان في الغرب وعند العرب تساقطت في فضاء فارغ، وتشابكت مع بعضها البعض، ففقد العالم اعتداله وضاقت الحدود وغُرِب الإنسان في متاهات اليتم وفقدان الأصول وضاع أفقه. الكل مهدد وضعيف بلا أجوبة حول مصير العالم و"النحن". العرب والسود والأقليات على الحواف، بينما الغرب يركض في زمن الأوبئة بلا وجهة متجرعا سم "إرث عنفه المؤسس"، وسوء توظيفه لتراكمات ذاكرته الجماعية وتقدمه العلمي إذا نحن استعرنا تفسير هذا القدر بأبحاث بول ريكور حول الهوية والذاكرة والزمن.
لقد تغير العالم إذًا، وبعض أفكار شعوبه ظلت تشبه لباسا قديما، تٌرقع كما رقع غوغول معطف أكاكي أكاكافيتش، استمرت المجاعات، وتطور مهندسو الحروب، وتنافست دول في صناعة الفيروسات ، وتعطل العالم... ولم نعد نذكر شيئا من نشيد الشباب الصيني وهو يردد شعار الثورة وعبور النهر في حشد يتوسطه "ماو" ، صرنا نعاين إبادة للأقليات ببلد ماو وكأن الصينيين يقاتلون أناسا يشوشون على إيمانهم الذي لا يقتنع بنهاية العالم، صرنا نسمع بصناعة عالم تقوده التفاهة والشعبوية، لم تعد أفكار الغرب فاتنة مع جائحة كورونا بالنسبة لمثقف الجنوب. لم نعد ظلا للآخر، بقليل من الانزياح، أمام فكرة الموت المرعبة وانتهاكات حقوق الإنسان في الدول الراعية لهذه الحقوق، أضحى الكل يتنافس من أجل الحياة والوجود في عالم أربك حسابات الجميع، والأنظمة مثل جدران مشقوقة، لقد غدا العالم استعارة مريحة لرواية "الإخوة كارامازوف"؛ إذ العدالة فيه متورطة في حجب الحقيقة كما حجبها فيلم "شوك السدرة" و"صيف بلعمان".
بالرغم من ولادة عالم جديد، مرعب، ضعيف، لا يستحق أي عناية، سوى شعارات التأبين، والإعلان عن انحدار القيم بصوت يشبه صوت أبطال رواية "السائرون نياما"...  ظل السؤال الوجودي: من نكون؟ وإلى أين نسير؟ سؤالا مشروعا. يستوقفنا أدونيس الشاعر السوري العالمي، على حد تعبير الفلسطيني إدوارد سعيد، بهذا السؤال الموغل في الهوية قائلا:

أيها الطفل الذي كنت، تقدم

ما الذي يجمعنا، الآن، وماذا سنقول؟

طالما كانت الأسئلة التي يطرحها الكائن البشري في المنطقة المظلمة من  النفس، تلك الغرفة المعزولة والمخيفة، أشد إقلاقا ورعبا أحيانا، فلا البحث في جيوب الذاكرة ولا القفز خارجها يلبي نداء صوت "الذات المرآة"، ويسعفها في  تجذير خصوصيتها وهويتها أو انتمائها إلى المدنية الكونية، لذلك فتقدم الطفل فينا، وعلاقات أجداده وخبراتهم وأنشطتهم على مر العصور، وحضور صورتهم في الحاضر والمستقبل، هو الفيصل المساعد على فهم مسألة الإيمان بالقدرات التي تجعل الكائن مؤمنا بضرورة المساهمة في  الثقافة الإنسانية المشتركة، وكل مساهمة هي مظهر من مظاهر الانتماء للجماعة الإنسانية، وتأكيد للهوية زيادة على ذلك، وهذا ما يجمع شعوب العالم الآن ويفرقهم.
هناك مجتمعات توقفت عن البحث، وأضحى المستقبل أمامها مخيفا، حملها التذمر والحروب والخوف والإقصاء إلى الشعور بالدونية وشيطنة العالم، مما جعلها تنسحب بلا خصوصية، ونمت فيها الرايات السوداء والتفجيرات والانتحارات، وامتدت بعدها هذه الصناعات الروحية والسلوكات العدائية إلى قلب العواصم الغربية. فماذا ستقول الهوية لهذا الآخر المرعب؟ إنها انحرافات الثقافة، وإساءة فهم التاريخ، وجنون العلم والعقل، وتعميم الفوضى لقيادة العالم بسلطة تكنولوجية جديدة وليست كلاسيكية، لذلك فالكل مهدد في حدوده، ومجاله، وثرواته، وثقافته، وتماسك نظامه. إن هذا التهديد الذي يخدم مصالح اقتصادية عالمية ترعاه منظمات عالمية صديقة، ومراسلون عالميون، يلجأون أحيانا إلى إبعاد صوت الأقليات، وتقديم الرجل الأبيض الغربي على أنه المبشر بالمدنية، والتقدم والعلم، والإنسانية والرفاه، وحماية الحقوق والأنظمة التابعة للمراكز التي أبانت كورونا على أنها تقف على رمل سائب.
أكدت الثورة الرقمية على انتشار المعارف عالميا بسرعة، لكنها كشفت بالمقابل عن هشاشة الأنظمة الجديدة، وضيق أفقها وعدم استجابتها لتطلعات الإنسان في هذا العصر، وأن الكثير من الشعوب لم تعرف كيف تستثمر ذاكرتها، بل تحولت إلى منطقة مظلمة لم تضئها الجامعات المصنفة ولا العلم ولا الفلاسفة ولا التحالفات ... فمن يطرق الخزان إذًا؟ أو يوقف الخسارات الفادحة وشرارات الانتفاضات المحدقة بالمراكز الغربية التي كادت تنذر بحرب أهلية؟ ومن يروض ذلك الفهد الذي قاده أمين معلوف في هوياته القاتلة وحذر من تعرضه للاضطهاد؟
إن أخطر ما يهدد الإنسانية هو سيطرة الجانب المظلم من الثقافة الخبيئ في أضعاف خطاباتنا، المكبوت، المحرف، الأوهام.... التي قد تظهر أمام القهر والاستعباد وسوء فهم النصوص، وتعطيل دور العلم والمعرفة، ووأد أي مشروع للعيش المشترك الذي يراعي الخصوصية ثقافة وسيادة ويوفر الحس الانتمائي للجماعة.
إن عالمنا اليوم يقوم، في مقابل كل هذا، على حافة نهضة فكرية وقيمية تجاه قيمة الحياة، يقظة ومراقبة تستدعي هدم الفجوة بين الوهم والمستقبل، بين تدمير أجهزة التزييف والتصالح مع الذاكرة والانتصار للإنسان، بدل المقامرة به من أجل الربح، كل ذلك قصد إخراجه من النفق واستعادة جوهره.

* ناقد وكاتب. كلية الآداب، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة/ المغرب

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.