}

النظر إلى سماء دمشق من بعيد

سمير الزبن سمير الزبن 11 أغسطس 2020
سير النظر إلى سماء دمشق من بعيد
(نذير نبعة)
(إلى أصدقائي الأجمل الباقين في دمشق)

بعد ثماني سنوات من غيابي، تبدو دمشق بعيدة جدًا، وكأنها تأتي من الحلم. أسأل نفسي: هل عشت هناك حقًا؟ هل نزفت عمري في تلك المدينة؟ هل كانت المدينة مدينتي؟ وهل أنا أنا بعد الرحيل، وهي ما زالت على حالها؟
في أوقات أخرى، بدت دمشق كأنها ملتصقة بي، ولا خلاص لي، أنا سمكتها وهي مائي، من دونها لا حياة لي. دمشق التفاصيل، المدينة التي ذرفت حياتي على طرقاتها، طفولتي، شبابي، نضجي، وعندما اقتربت من كهولتي، اضطررت للرحيل عنها. سألت نفسي: هل رحلت عن المدينة حقًا؟ هل أستطيع نزعها مني وكأني عشت في الفراغ؟ هل تستطيع دمشق مغادرتي؟ هل ما أنا عليه بفضل المدينة، أم بالرغم عنها؟ أي أثر للمدينة عليّ؟
أكذب إذا قلت إني أحببت دمشق، وأكون منافقًا إذا قلت إني عشقت المدينة. لم أختبر مشاعري تجاهها سابقًا. قبل مغادرتي الوحيدة التي طالت، لم أغادر دمشق سوى لأيام لا تكفي لتأمل المسافة بيني وبينها. من الصعب أن تختبر مشاعرك تجاه المدن وأنت تعيش فيها، عليك أن تأخذ مسافة منها، مسافة تقع ما بين الالتصاق والفطام، ودمشق ليست استثناء، فهي مدينة مخادعة، تخدع الجلاد، كما تخدع سكانها وأحبتها. عندما كنت أشتم وألعن العيش فيها، لم يكن السؤال مطروحًا، لم أكن في حاجة إلى إجابة على سؤال ليس مطروحًا. ولدت بحكم الصدفة في المدينة، لذلك عشت فيها، لا علاقة للحب والكراهية في مكانة المدينة عندي.
ولدت غريبًا في المدينة لأبوين غريبين، تقاذفتهم نكبة فلسطين إلى مناطق عدة، ليجدوا أنفسهم مع خمسة أطفال في دمشق. لم يتعلم أبي درس النكبة، ويتوقف عن الإنجاب. استمر في صناعة الأطفال، وأضاف إلى العائلة أربعة جددًا، كنت آخرهم في الترتيب. لم أشعر يومًا أن

دمشق مدينتي، ولطالما شعرت أن هناك جدارًا يفصلني عنها. كان حسّد أصدقائي السوريين يُهوّن عليّ غربتي، فأعرف أنهم غرباء في مدينتهم أكثر مني. كانت ذروة الحسّد، في الأيام الكابوسية لاستفتاءات الرئاسة، حيث يقاد الجميع كقطيع ماشية لإعلان الإذعان للرجل الأول الذي امتهن إذلال البلد وسكانها بكل الطرق التي يخترعها عقل مريض. أما في مسيرات التأييد للرجل "المعجزة" القابض على رقابنا جميعًا، سوريين وغرباء، فكنا جزءًا من القطيع، الذي يهتف بأبدية البسطار الخالد على رقابنا. بعيدًا عن السياسة، كان أصدقائي السوريين يشفقون عليّ بوصفي الغريب الدائم في بلد، جلادها يدعي أنه يُبقيني غريبًا من أجل مصلحتي الشخصية والوطنية، حفاظًا على حقي في عودة يعرف أنها مستحيلة، لكنها تصلح كشعار ليتوغل أكثر في سحق البلد وناسها.
"إذا خربت حياتك في هذه الزاوية من العالم.. أينما حللت فهي خراب". طوال السنوات الثماني المنصرمة كانت كلمات الشاعر قسطنطين كافافي تدق في رأسي طوال الوقت، كمطرقة لا يمكن الخلاص منها. نعم، لقد كانت حياتي خربة من قبل أن أولد، لم أعرف الطبيعي حتى أقيس عليه، كيف يعيش الإنسان العادي في وطنه، مواطنًا عاديًا في ظل شروط عادية؟ هذا ترف لم أعرفه. كنت واهمًا عندما اعتقدت أن الآخرين (السوريين) يعرفون ما هو الطبيعي. كان الطبيعي، في ظل حكم البعث، أن يكون الاستثناء هو القاعدة، وكانت غربة السوريين في وطنهم أكثر قسوة من غربتي فيه. أنا والسوري الذي يجايلني ولدنا بعد حكم البعث، وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية في آذار/ مارس 1963، لم نعرف الطبيعي، عشنا حياتنا كلها في ظل الاستثنائي، لدرجة لم يعد أحد يذكر ما كانت عليه البلد قبل البعث وقبل القائد الخالد، الذي احتقر البلد، لأنها أصغر من قياس حذائه، ما جعله يسحق كل صوت يرتفع فيه، ولأن الابن سر أبيه، فقد عمم الدمار وسحق البلد كلها، وتفوق على أبيه في توسيع شلال الدم المسفوك. لا تاريخ لسورية قبلهما، يبدأ التاريخ وينتهي بهما. وحدَّ القمع الجميع في سورية "مواطنين" وغرباء. لم ينل السوريون والفلسطينيون وحدهم حصتهم من القمع، فقد وسع النظام قمعه وشمل آلاف اللبنانيين، وكثيرًا من العراقيين والأردنيين، وغيرهم أيضًا.
في يوم مثلج من شهر شباط/ فبراير 2003، استدعاني "فرع فلسطين" (جهاز من أجهزة المخابرات الكثيرة) الشهير بوحشيته. دخلت الفرع بعد أن سلمت هاتفي المحمول إلى

الحراسات على بابه الخارجي. بالطبع، كان بعض المعارف قد رتبوا الموضوع مع متنفذين في الفرع، لأجد نفسي متهمًا بأني على صلة مع "جهات عدوة" يعني "جاسوس"، ولمن لـ"إسرائيل"، والتهمة تقول أني أذهب إلى بيروت بين فترة وأخرى، لأركب من هناك طائرة بجواز سفر آخر (طوال حياتي وحتى كتابة هذه الكلمات، لم أملك جواز سفر، كل ما حملته وثائق سفر، وثيقة سفر فلسطيني/ سوري حتى وصولي إلى السويد، واليوم وثيقة سفر سويدية). أذهب إلى برلين لأسلم هناك شخصًا اسمه سعيد معلومات سرية وخطيرة عن سورية، لأعود إلى بيروت بالطريقة نفسها، وأدخل إلى دمشق بأوراقي العادية. هالني الاتهام، لكني لم أشعر بالخوف. لا أدري لماذا؟! عندما طلبت من صف الضابط الذي يملأ الأوراق بإجاباتي معرفة من الذي اتهمني بهذه الاتهامات الفظيعة؟ قال لي إن المصدر مغفل، وبعد إلحاح مدّ يده بورقة مروسة بشعار "الأمن العام اللبناني". قال لي المساعد ليطمئنني: إنه إجراء شكلي لطي الملف، ونحن نعرف أنه ادعاء كيدي. عند الانتهاء ذهبنا إلى ضابط برتبة رائد كما كانوا ينادونه. قلت ممازحًا في لهجتي، وأنا أغلي من داخلي، ألا يوجد غير هذه التهمة لتلصق بي يا سيادة الرائد؟ ضحك بشكل استعراضي، وقال: "شغلة فاضية، جيبوا قهوة للأستاذ". بعد إجراءات روتينية، ومرور العميد رئيس القسم ليشاهد طولي، أخلي سبيلي. أعادوا هويتي، وعند الباب الخارجي، أعادوا لي هاتفي المحمول. وعندما أصبحت خارج الفرع، فجأة سقط قلبي، وشعرت بالرعب وأخذت أرتجف. ماذا كان سيحدث لو تم اعتقالي بهذه التهمة "التجسس لصالح إسرائيل"؟! خلال أشهر، سيقتنع كثير من الأصدقاء أني جاسوس وعميل، وخلال عامين أو ثلاثة سيقتنع أهلي بذلك. وسيكبر أولادي وهم يحملون عار أبيهم. نعم، أصابني الرعب، وسألت نفسي، كم من الأشخاص الذين لُفقت لهم التهم يقبعون ظلمًا وراء جدران هذا الفرع، وغيره من فروع الظلام، خسروا كل شيء، ليس أعمارهم فحسب، بل وسمعتهم وتحطمت عائلاتهم أيضًا؟!
نعم، لقد وحدّ الرعب الجميع في سورية، لم ينجُ أحد من مساءلة المخابرات، ومئات آلاف المعتقلين في زمن الأسد الأب، ومجزرة بشعة في مدينة حماة عام 1982، لقد نجح الأسد الأب بإخراس البلد، وبتعميم الخوف على الجميع. أي وطن هذا الذي أولد فيه خائفًا؟! ما معنى أن أكون سوريًا في زمن البعث والجلادين، الذين احتلوا نصف قرن من تاريخ البلد، سوى أن أكون خائفًا من كل شيء؟! أفكر أحيانًا، كم من العائلات ستهدم، إضافة لتلك التي هدمتها وحشية الأسد الابن، إذا سقط النظام وفُتحت ملفات المخابرات للعموم؟! كم من الأبناء والآباء والزوجات والأزواج والأخوة، الذين أجبرهم النظام على كتابة تقارير ببعضهم بعضًا، ستدمر

مكانتهم في عيون أحبتهم؟! ستبقى آثار النظام المدمرة فعّالة حتى بعد سقوط النظام، هذا إذا سقط، إنه الخيال الإجرامي في أوسع حدوده.
هذه السورية شوهتني وشوهت كل السوريين، وحولتنا إلى معطوبين ومخصيين، وهنالك كثير مم دُمِّر في سورية قبل سقوط البراميل المتفجرة التي أرسلها الأسد الابن لتسقط على رؤوس السوريين في المدن والقرى السورية، متممًا لمهمة والده. هذه السورية لا يضربني الحنين إليها على الإطلاق، ذكراها يشعرني بالخوف والرعب.
في ظل الليل الطويل الذي عاشته سورية، كان علينا أن نخترع حياتنا في الهامش، حياة خصوصية، بين السر والعلن، نحن والأصدقاء الذين يشبهوننا خلقنا عالمًا ضيقًا في ليل سورية الطويل، عالم ساعدنا على احتمال ثقل الحياة في ظل البعث، عالم حاولنا أن يكون له معنى في ظل اللامعنى الذي عاشته سورية خلال نصف قرن. مجموعة من الأصدقاء الذين يتم اختيارهم بعناية وخوف ليشكلوا عالما سفليًا مضيئًا في ظل العالم المظلم لسورية العليا. هذا العالم هو أصدقائي، أحبتي الذين عملنا معًا على خلق حياة ما من العدم. عالم هامشي هش، مهدد بالهدم في كل لحظة من قبل نظام قمعي اعتباطي. هذا العالم هو ما أحنُّ إليه في دمشق. لا أحنّ إلى الحجارة والطرقات، ولا أحنُّ إلى التاريخ التافه للبلد، ولا إلى عمارة البلد القبيحة. أحنّ إلى أصدقائي، الذين كانوا أجمل ما في تجربتي السورية، واليوم تكاد سورية تفرغ منهم، فهم ينقصون كل يوم، وتزداد سماء دمشق ظلمة.

مقالات اخرى للكاتب

شعر
5 أبريل 2024
شعر
29 يناير 2024
يوميات
13 سبتمبر 2023
شعر
7 أغسطس 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.