}

حين كان الوباء يتجوّل في بيتي

وداد نبي وداد نبي 27 يناير 2021
يوميات حين كان الوباء يتجوّل في بيتي
(ماريوس ستاوارسكي)

عظام عصافير صغيرة محفوظة في علبة خل التفاح بخزانة المطبخ، فطور ملونة بأشكال مختلفة تنمو على حواف البراد والمجلى كتلك التي رأيتها طوال شهر تشرين الأول/ أكتوبر في غابات وطرقات مدينة راينسبيرج، صوت أنين وسعال محشوران في قوارير زجاجية صغيرة محكمة الإغلاق موضوعة في صحن الفخار المغربي الملون، وكل محاولات تلك الأصوات بالصراخ وطلب النجدة تذهب هباءً، فقط أفواه تتحرك دون صوت، كل تلك الأشياء كانت تتناوب على زيارتي في كل ليلة على شكل كوابيس في أيام الوباء، الأيام التي أصبت بها مع زوجي بفيروس كوفيد 19.
ازدادت شدة هذه الكوابيس بعد أن دخل زوجي غرفة العناية المركزة في المشفى، وعبثًا كنت أحاول تذكر أسابيعنا السعيدة الأخيرة في مدينة راينسبيرج )ألمانيا)، حيث كنا نقيم في قصر المدينة بموجب منحة للكتابة، كنت أحاول تذكر كل تلك الطرقات التي اكتشفناها مشيًا استغرق أحيانًا ست ساعات متواصلة. البحيرة والقصب المتمايل الذي كان يسورها، الفطور الملونة، السناجب والأعشاب البرية التي كانت تنحني مع خطواتنا، لكن عقلي كان يرفض استرجاع زمن سعيد محكوم بخوف شديد من الفقدان في زمن الحاضر.
كان مؤلمًا التعامل اليومي مع احتمالية فقدان شريكي، لأن الفقد كان يأتي مرتبطًا بجملة عوامل متشابكة، ماضي الهروب من مسقط رأسي، الهزيمة وخسارة الحياة القديمة، والهروب من كل البلاد والذكريات. لذا كان مجرد التفكير بخسارة كل شيء من جديد يفتح بوابات الجحيم عليّ في كل لحظة.
في زمن الوباء أصبحت لاعقلانية، أكثر هشاشة، وقابلة للتحطم تحت تأثير الأفكار والكوابيس، كنت أصارع الأشباح والأسئلة بجزع، ماذا لو كان هذا يحدث مع جميع سكان الأرض، أقصد الخوف والهذيان من الفيروس، أي تغييرات كبيرة تطرأ على حياتنا دون أن ننتبه، نحن المشغولون بمحاربة الوباء فيما هو يؤسس نظام تفكيرنا الجمعي من جديد. يجعلنا جميعا أسرى مخاوفنا من أنفسنا ومن الآخر حامل الوباء.
كانت إصابتنا بالفيروس مثل تركيب مرايا متعددة في كل زاوية من زوايا البيت، مرايا تعكس مخاوفي، أوهامي وهشاشتي، كنت أشاهد وهم اعتقادي النجاة، لم أكن ناجية لا من الحرب ولا من الخوف. (بالنسبة إليّ الخائف كل شيء يصدر حفيفًا) كما قال الأديب اليوناني سوفوكليس.
في طرف الكومودينو كتاب "عزاءات الفلسفة" للمفكر ألان دي بوتون، ترى كيف كان الفلاسفة الإغريق يتعاملون مع فكرة الموت. ألم يتقبل سقراط موته بالسم دفاعًا عن أفكاره؟ لكن أي معنى للموت وأنت تحارب فيروسًا لا تراه؟ كائن لا تستطيع أن تنظر في عينه حين يأتي ليصرعك؟!
مع كل يوم كانت تمد تلك الأسئلة الوجودية برأسها لبيتنا، فتتجول معنا داخل المطبخ وغرفة النوم، داخل بانيو الحمام، وحتى حين أفتح النافذة المطلة على الحديقة الخلفية لأراقب شجرة الحور، فأجدها تسبقني على شكل عصفور يقف مقابلًا لي على غصن من تلك الأغصان. كنت أتذكر تلك الأسطورة اليونانية، حين حاول أورفيوس الوقوف بوجه الموت، باستعادة حبيبته من العالم السفلي، وكيف في النهاية خسر الرهان أمام شرط اللوعة والاشتياق.
كيف يمكن لهذا العالم غير المرئي، عالم الفيروس، أن ينتصر على عالمنا المرئي والصلب؟ على بيتنا والمكتبة التي فيها، النباتات المنزلية التي أعتني بها منذ سنوات؟ كيف يمكن أن ينتصر على مشاويرنا اليومية في كل أيام أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر في الطبيعة رفقة البحيرة؟ على ماضينا وذكرياتنا ومعاركنا مع الديكتاتورية والحرب والنجاة؟ كيف أمكن لهذا الكائن غير المرئي أن يكون قادرًا على القضاء على كل تلك المحسوسات؟ أتراها حقًا الحياة مجرد صورة متخيلة أو حلمًا. ما الذي يفصل بيننا وبين الوهم إذًا؟

أنظر الآن إلى المزهرية التي تحتوي زهور أماريليس الحمراء المبهجة Amaryllis، فيما زوجي جالس على مكتبه يعمل، وتبدو تلك الأيام القاسية من تشرين الثاني/
نوفمبر زمنًا بعيدًا جدًا.. يا للدهشة، كم أن الذاكرة مصنوعة من طين الأمل،
فيما الوباء مصنوع من معدن النسيان.



ما الذي يجعل مساحة زوجي موبوءة أكثر من مساحتي، والمسافة تلاشت بيننا منذ وقعنا في الحب وتقاسمنا بيتًا واحدًا. كيف غيّر الوباء علاقتنا مع المكان والزمان. وكيف وحّد الفيروس البشرية على اختلاف أعراقها ودياناتها ومعتقداتها على طريقة واحدة بالتعامل في ظل الوباء. فما يعيشه الشخص الألماني اليوم من خوف وما يفعله من تدابير وقاية، هو ذات التصرف الذي يفعله السوري في قرية نائية من قرى سورية، أليس هذا الوباء أكثر تجربة جماعية مشتركة في الذاكرة البشرية، تجربة جمعت هذا العدد الهائل من البشر بطريقة تفكير واحدة، الخوف وعواقبه؟

"إن الموت طريق آخر للحياة، لكنني لم أرد أن أسلكه أبدًا"

لأيام طويلة وقاسية كنت أصارع أشباح الموت والوباء، وهي كانت تراقبني بدورها من نافذة غرفة النوم، فكنت أفتح النافذة لدقائق وأتخيل أنني في القرون الوسطى، أعاني مثل سكان لندن من الطاعون الأسود، فأخرج لأستنشق من الجو رائحة البرتقال المحشو بالقرنفل، فلقد قرأت أن الناس أيام شكسبير، حين انتشر الوباء، خرجوا إلى الشوارع لاستنشاق البرتقال المحشو بالقرنفل، علّه يقيهم من العدوى. لكن لم تكن في الهواء أية رائحة، فلقد سرق منّا فيروس العصر الحديث حاستي الشم والتذوق أيضًا. كانت الطعوم متشابهة، فطعم الليمون والسكر والملح متشابه. لا شيء. أي رعب أن يحيا المرء وهو غير قادر على شم رائحة أجساد من يحبهم؟ صديقة لي أصيبت قبلنا بالفيروس وكانت حاملًا، عاشت لشهرين برعب فكرة ولادة طفلها قبل أن تستعيد حواسها، كيف ستشم رائحة طفلها؟



لأيام طويلة وقاسية كنت أصارع أشباح الموت والوباء، وهي كانت تراقبني بدورها من نافذة غرفة النوم، فكنت أفتح النافذة لدقائق وأتخيل أنني في القرون الوسطى،
أعاني مثل سكان لندن من الطاعون الأسود.




حين أرسلت لي صديقتي الكاتبة أنييت كروشنير في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر مسج عبر الواتساب، تخبرني فيه أنه تم حجز الأسبوع الأول من كانون الثاني/ يناير للمقال الذي سوف أكتبه عن مدينة راينسبيرج والمنحة التي حصلت عليها هناك، في جريدة تسايت الألمانية، ارتعبت لوهلة، فلقد كانت راينسبيرج وأيامها السعيدة قد تحولت لشبح قديم، لقبو مليء بالعناكب والغبار والكوابيس الليلية، وكأنني فقدت كل ذكرياتي، ألهذه الدرجة الخوف من الفقد يمحو الهوية الإنسانية؟ إن الخوف من الفقد قد يكون أشدّ تأثيرًا على الحياة ومعادلاتها الوجودية من الموت بحدّ ذاته.
في ذلك اليوم بالذات كنت جالسة قرب سرير زوجي، أضع كمادات ماء باردة على رأسه المحموم، أبلل جبينه وصدره، أمسك يديه وأحضنهما، كان صوت ألمه يمزّق قلبي، ألم أدفع حصتي كاملة من الألم والدموع المالحة لهذه الحياة، ألا تكفي كل تلك الأثمان لأستحق سعادتي الصغيرة تلك مع الشخص الذي أحببته والبيت الصغير الذي أسسناه من الصفر بالدموع والصبر والأمل؟ غريبة وحيدة في بلد جديد، بلا أصدقاء بالقرب مني وبكثير من الدموع المالحة، ما الذي تريده الحياة حتى تتوقف عن معاقبتنا نحن كائناتها الهشة؟ هل هو عقاب أبدي أن نرفع مع سيزيف تلك الصخرة للجبل كل مرة ونتدحرج تحتها لا وراءها؟ لكنني لم أكن سيزيف، كنت كائنة هشة وعلى وشك الانتحار.

"إن القطع المكسورة تجلب الحظ"

كان رأسي ثقيلًا، وأعاني من دوار، أطرافي تؤلمني، ووضع زوجي يزداد سوءا، والأشباح خلف النوافذ لا تغادر، حينها اخترنا الاتصال بالإسعاف.
ودّعت زوجي في الشارع، أخبرني المسعف أنه يُمنع المجيء معه. وهكذا صعدت الطوابق الأربعة للبيت، أصارع الأشباح والأصوات والكوابيس وحيدة.
في المطبخ وقع من يدي كأس من شاي البابونج، انكسر. جلست على الأرض ولملمتُ الشظايا وبكيت بقربها، لقد كسر الفيروس الأمل بداخلي قبل أي شيء آخر. بعد قليل تذكرت الحكمة الألمانية التي تعلمتها في أحد دروس تعلم اللغة "إن القطع المكسورة تجلب الحظ". لكن في الواقع كانت القطع المحطمة في داخلي كثيرة في تلك الأزمنة الرديئة للوباء.
في تلك الأيام السبعة، كنت أشعر بامتنان كبير لكل طبيب يتصل بي هاتفيا ويخبرني عن وضع زوجي، كنت ممتنة لكل ممرضة تدخل غرفته وتعطيه إبرة كورتيزون، وتعرّض حياتها للخطر. وددت لو طبعت قبلات على كل صوت يرد على الهاتف وهو يخبرني عن وضع زوجي. لكن لا يمكن للمرء تقبيل الأصوات. أنظر الآن إلى المزهرية التي تحتوي زهور أماريليس الحمراء المبهجة Amaryllis، فيما زوجي جالس على مكتبه يعمل، وتبدو تلك الأيام القاسية من تشرين الثاني/ نوفمبر زمنًا بعيدًا جدًا.. يا للدهشة، كم أن الذاكرة مصنوعة من طين الأمل، فيما الوباء مصنوع من معدن النسيان.


*كاتبة كردية سورية مقيمة في برلين.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.