}

عتبة

محمد شعبان 13 أكتوبر 2021
قص عتبة
(Abbott Fuller Graves)



(فصل من رواية "برهوم بيك")

اسمي إبراهيم، لكنّي وعيت على الدنيا وهي تناديني برهوم... وقد عرفت مبكرًا جدًا أنّ ذلك كان تصغيرًا، لا تحبّبًا! وترسّخ ذلك في رأسي، بعد دهور الأذى التي انصبّت عليه، وعليّ!

لن أذكر كنيتي، لأنّها خدّاعة؛ توحي برابطة غير موجودة على أرض الواقع، مع أناس آخرين لم يعترفوا بها يومًا!

لم تخبرني أمّي – أمّا والدي، فلم ألتقه – من اختار لي هذا الاسم. سجّلوه كما أرادوا. ومثل كلّ البشر، لم أُستشَر فيه. وظللت، طوال حياتي، أرغب في أن يكون لي أيّ اسم غيره!

الثابت الوحيد هو أنّ اسمي إبراهيم. والباقي مطعون فيه، من قبلي أنا، وربّما من الآخرين.

كنت قليل الكلام، كثير الابتسام، فلم يفهمني أحد في قريتي، إلّا متأخّرًا جدًّا، وبعد فوات العمر! لم يبذل أحد أيّ جهد لمعرفة حقيقة مشاعري، ولا حجم الحبّ الذي أحمله للناس... وللدنيا.

غاياتي النبيلة، والخبيثة، ظلّت في داخلي. ما جرؤت يومًا على إظهارها، فرحلت معي حين رحلت. ودُفنت معي حين دُفنت. وكم وددت لو أنّني ارتحت منها قبل الرحلة الأخيرة. فقد تعلّمت ضرورة التخفّف من كلّ الأثقال قبل أيّ رحيل، قصيرًا كان أو طويلًا، فكيف إن كان نهائيًا؟!

كلّ حيّ يموت، كما وُلد، وحيدًا. لست استثناءً في ذلك. لكنّي غادرت الدنيا حزينًا، مكسور الخاطر... والروح!

سيقول قائل – وما أكثر القوّالين – أنت المسؤول عمّا جرى معك ولك! فأنت لم تستخدم لسانك، أيّام كان قادرًا على الحركة والصراخ. ولم تستعمل يديك، حين كانتا حرّتين. وكذلك تغاضيت عن ملكاتك الأخرى. لقد عطّلت نفسك، ببلادتك وخمولك، ساعة كان الفضاء حولك مفتوحًا على مداه!

وأردّ بأنّني حاولت. وعندما كادت المحاولة تنجح، قُمعت بقسوة. فقد اعتُدي عليّ حتى تعطّلت. وحين تلفتُّ حولي متسائلًا: «هل من ناصر ينصرني؟»، لم أجد أحدًا!

وأخيرًا، حملتني أيدٍ كثيرة، أظنّ أنّ أصحابها كانوا يحملونني طمعًا في الثواب. ويغبطني – إن كانت الغبطة متاحة لي – أن أبشّرهم بأن لا ثواب لهم، ليقيني أنّ الثواب يتأتّى عن القول أو العمل النافع، وفعلهم الآن لا يفيد في شيء، لأنّه سيّان عندي... أن يُدفن جسدي تحت التراب لتتغذّى عليه ديدان الأرض، أو أن يُرمى في أيّ مكان فوق سطح الأرض لتأكله الضواري والطيور اللاحمة، بل إنّ بقائي في الفضاء المفتوح، أو في بطون الضواري وطيور السماء، أفضل لي! فأنا أكره الديدان، لأنّني عشت شبيهًا بها... كما أنّ القادر على إحياء وتجميع عظامي «وهي رميم»، إذا لزم الأمر، لا يصعب عليه أن يستجمعني، من أيّ مكان في الكون!

كنت – أثناء حياتي – موقنًا بالساعة التي يُحاسَب فيها البشر على آثامهم وعدوانيتهم وظلمهم، وما اقترفوه بحق أبناء جنسهم (وأنا المثال الأوضح على ذلك)، وبحق الحياة نفسها. ولن تحزن روحي أبدًا عندما ينال هؤلاء الظالمون القساة أقسى العقاب!

لن أتمنّى لهم الرحمة، فهم لم يرحموني يومًا. ولن أتنازل عن مظلوميتي من أجل أحد، مهما كان المقابل والعوض، ولو عُرضت عليَّ نِعم الدنيا. ذلك لأنّني، في حياتي، لم أعرف النعمة، ولم تهبط لذائذها عليّ. فكيف يكون لي مطمع في شيء لم يمرّ يومًا من أمامي، ولا من خلفي؟!

لقد قبضت عليّ الدنيا متلبّسًا بجرم لم أرتكبه، من لحظة نزولي إليها من بطن أمّي، لا من أيّ مكان آخر، ثمّ دفعتني دفعًا غليظًا إلى مسارات إجبارية لم يكن لي أيّ خيار غيرها!

والآن، لن أفتّش لرحيلي عن حزنٍ أعرف أنّه غير موجود. أستثني من ذلك دموع إنسانة مظلومة مثلي، هي الوحيدة التي أشعلت الإحساس في أعضاء جسمي البارد. وأتمنّى، بصدق لا تشوبه شائبة، لو أعود إلى الحياة فقط كي أنتشلها من غياهب حزنها عليّ، وأنزعها من بين أنياب وحدتها من بعدي.

البقاء تحت التراب، في القبر، هل يشبه ما جرى فوق الأرض؟!

ذلك هو ما يشغلني الآن. وسأنشغل، أيضًا، بذكر ما حدث معي ولي، في قريتي وحولها، وفي شوارع دمشق التي ظللت طوال حياتي بعدما عرفتها متشبّثًا بشعور أنّها مدينتي. وكنت قد أحببتها كثيرًا، وانزرع في داخلي يقين بأنّني لا يمكن أن أغادرها أبدًا... وعندما صفعتني، بحقيقة نظرتها إليّ، وموقفها منّي، كان لا بدّ ممّا ليس منه بدّ!

يوم واقعة رحيلي القسري عنها، قال لي أحدهم «المدن تُحَبّ ولا تحِبّ»، ليُفهمني أنّ البشر هم وحدهم من يبعثون الحياة والحبّ في البيوت والزواريب والشوارع والأحياء والقرى والمدن. هم من يعطونها الشكل والطعم والرائحة، والروح الخاصّة بكلّ منها.

حياتي – على مرارتها – في الحقول والزواريب، والشوارع، هل كانت أفضل ممّا ينتظرني الآن؟

ذلك هو السؤال الذي ينغّص عليّ هنا، في قبري الواسع، تحت تراب قريتي (...)، حيث سأنعم بالهدوء والراحة التامّة، وأطيب من كلّ ذلك، السكينة العذبة.

لا أظنّ أنّه سينقصني شيء هنا. سوى أنّني سأفتقد البطحة، التي لازمتني دومًا من دون أيّ تأفّف!

هل سأكون سعيدًا؟

لا أعرف كيف يكون الكائن الحيّ سعيدًا، لأعرف كيف يسعد الميت! وليست هذه مشكلتي. فحياتي المنقضية لم تذقني طعم السعادة.

آمل أن يفتح لي استذكار ما جرى بابًا إلى سعادة ما، في مكان ما، وليكن هنا، في هذا الموئل الأخير، الآمن...

*روائي سوري.

مقالات اخرى للكاتب

قص
13 أكتوبر 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.