}

جذوة الصمت وقرقعة المكان

زكريا الإبراهيم زكريا الإبراهيم 10 نوفمبر 2021
يوميات جذوة الصمت وقرقعة المكان
(يامن يوسف/ سورية)

 

1      ـ الجذور:

 

لا أحد يقرر أن يصمت فيصمت. ولا أحد، على وجه الإطلاق، أضاء يقين الصمت بصيرته وحدسه.. فنطق.

الصمت ينتقي ويقرر ويصطفي، الصمت طقس، ديانة موغلة القدم، كالصخر الأصم.

الكثير من الصامتين فطرة.. وقد نطقوا، حَوّلوا متعةَ الهذيان الهادئ المتفرّد إلى لغَطٍ شديد، حتى لو كان منبعهُ شرحُ التهويمات الكونية ورؤاها الجمعية.

ذروةُ الصمت تجسيدٌ غيبوي لكلامٍ مجرد، يقرّرُ شيفرة لا رموز متفقًا عليها مسبقًا، بين الصامت، كفاعل، والصمت، كعنوان غير قابل لمفهوم النُحاةِ المنطقي.

أن تكون دونَ لغةٍ يعني أنك صنّعتها بدايةً، وتُكمِل الآن صياغتها من خلال غياب التصويتات، وحضور الكشف ــ السكون ــ الدهشة المطبقة.

أن تكون عَلّامًا ــ بمعنى الشارة الجغرافية ــ وصامتًا، يعني أنك ورّطتَ نفسك في صياغة تراتيل أولى، لن يُنهِيها انعقادُ القادم مع أحوال الصمت، هكذا صنعت الآلهة بكتابها اليتيم.. ثم صمتت، ولم ترحل أصداؤها.. وأفعالُ حَتِّها المتواصلةِ الواثقة من نهاياتها ونتائجها المُعانقةِ لألوانٍ تبذر الحياة والخيال.

الصمت صِنْوُ العدم ــ الخلق.. الآخر.

أما الآلهة التي جَنْزرتْها مقاماتُ الصمت، فقد كانت تتجاذبُ أصداءَ بذارها والتفاتاتها الأولى.. فمللِها الأصيل.

وبهذا الصمت، نرى إلى صمت "الهامشي الحكيم"، وأقول الصمت "مجازًا"، لأن شروط النطق ليست نقيضة الصمت، فالكثير من الكلام، أو الكتابة المسفوحة على أورقة الأيام العوانس لم تكن إلا صمتًا أحدب.

وكثير من صمت "الهامشي" لم يكن إلا إصغاء للكلامِ الممهورِ عمقًا، الكلام القديمُ ــ الجديدُ الذي يتبوأُ شرفة المشاركة الفاعلة في أحوالنا الثقافية المسيَّجة بجبائرَ وأقمطةٍ غرقَ بياضها في الصديد.

لذلك جميعًا، فالصمت الذي أضحى أداةَ استدلالٍ لغويّ كرامزة لمرموز دقيق الملامح، ولا تُفسَّرُ إلا بالكلام، هي واحدة من شروط الدخول إلى عوالم اللغة الرحبة، ومفازاتها ومتاهاتها الغافية.

... الصمت ــ يشاع ــ سلبي من حيث المشاركة الفعالة.

.. الضجيج وزحارُ اللغة، سلبيٌّ أيضًاـ من حيث المشاركة الفعالة.

وتلتقي الحالتان في نتائجهما:

أيّهما الأكثرُ تأثيرًا؟!

وأيها الأنقى مساهمةً في صياغةِ الرؤيا والاستلهام؟

جميعنا يعرف، وللتذكير بالبدَهيات، نقول: أَنْ لا قوامَ لشيء من دون نقيضه! فلا جلبة الأقلام تُكوِّنُ معنى من دون صمتِ ينبوع الحبر والتجلي والامتلاء.

وهكذا يأخذ البعض على عاتقهم استكمال لوحة لم يرتضِ أحد أن يساهم إلا في إضافة ألوان مزيفة.. ضَجِرةٍ لها، من دون حسابات لمساحة الفراغ التي لا بدّ منها لاكتمال اللوحة ــ الفعل.

مساحاتُ الفراغ هذه هي جسد اللوحة الأصيل، ولأنها ــ في الغالب ــ مساحات ضيقة فهي الإضاءة الأُسّ، واللغةُ الأنقى، التي يجب الركونَ إليها لقراءة اللوحة التي تمّ إنقاذها من مستنقع الصخب والألوان والتجليات المريبة، فعلى المدجّجينَ بالاحتمالات ــ كما أحدِسُ ــ وَقعَ اختيارُ الصمت، لأن الصمت كفاعل يحتاج من مريدِه ــ ولا نستطيع الجمع هنا ــ أن يكون على قدر هذه المشاغبة التي ترمّمُ كل ما يحيطها من تناغماتٍ محكمة الصنع، ضمن المقاييس المستحدَثةِ السائدة، إلا أنها توضع ضمن أفق توهُّمِ الفعل من دون البحث عن نقيضها ليتمَّ اكتمالها ــ وهذا ما يتلقاه الكسالى والبعيدون عن الترنحات المبدعة للفعل المؤسس ــ وكان على المدجّجينَ حلمًا أن يكونوا المُعادِلَ المشترك لكل التهويمات.

نحن شعوبٌ لا تعرف التقاعد والاعتزال، لا شيخ العشيرة يعترف بخرفنتهِ، ولا شيخ الدولة يكتشف إجهاضه، ولا حاكم بلاد القيظ والزمهرير، ولا حارس المرمى العربي العتيد، الذي لا يعترف بالأهداف، ويأسف لضربات الجزية المتتالية "على طريقة أحد الشعراء ــ مجازًا ــ الذين يثيرون الغبار الكثيف محاولينَ عبثًا معاشرة كرة القدم!!"، مُحمِّلًا عبءَ الهزيمةِ خط الدفاع الأول!.. لأن الهجوم العربي يصنعُ جولةً جديدة لوضع الخطط المتينةِ والمُنتقاة.

نحن قوم لا نتقاعد، لا يصيبنا العقم، لا نعرف متعة المراقبة لمن تحتدم دماؤه على التصدي لمهمات الفعل.

لذلك، كان الجذر الأصيل للهامشيّ استثناءً غيرَ مقروءِ النوايا، والكل يفسر ويحوقل ويلملم ويلوم ويُشهِرُ سؤاله الطيب "لماذا كل هذا الصمت"؟

ويصمت الهامشي الأصيل وابتساماته طافية تجاه الفقاعات الرسمية وغير الرسمية، ولا يقول لهم أصمت كي تجربوا وتخربوا، فقد خبِرتُ الكلام، وروّضتُ اللغةَ فُتيا... والآن أحاول الموقع الآخر لاكتشاف الجذر ولاكتشاف خفايا الذات البعيدة عن الورطة السائدة.

ولا أحد يُموّلُ الصمت غير الدم والغصّةِ والحزن الساكن في كل الملامح المتوثبة التي تُحجِمُ عند افتراق الذاهبينَ إلى اللّغوِ.. والذاهبين إلى ذهول السخرية وفسحاتها الهادئة.

لقد كان "الهامشي الأصيل"، أو "س"، مُحاوِلًا عدم الإشارة لاسم "محدد" هنا أشبه بمسيحٍ صلَبَ نفسه على نار الكلام، ولم يتناثر، ولم يتشظّ إلا مرةً، وغسلَ عارَ المبادرةِ عن جبيننا الموشومُ بالمبادرة الدائمة من دون جدوى.. وخلَدَ إلى جوهر العدم ــ الخلق ــ النقيض، فكانت مدارسَ وعرائشَ في مداجن تُفرّخُ الكتّابَ من كل الأشكال والأحجام والاتجاهات، وكان "صديقُنا" يَرقبُ ويغصّ ويدرِكُ دوره المحدّدَ بِسمْتِ الحكيم العارف.... فكان خلقه أجلّ "وأبقى"، وكان اللّغوَ سُبّحةً سقطت فوق رخام!

وما يثير الحرقة أن كل اللغو، أو معظمه، والشواهد لا تحصى وبالأسماء، تتحدث عبر السنوات الطويلة المنقرضة عن العزلة، ونيتشه، واكتشاف الذات بعيدًا من الآخر واللغو.. ومتعة التفرّدِ والإصغاء لحديث الروح والجسد بعيدًا أيضًا من الكائنات، فكان قطار الثقافةِ حافلًا بالرواية والشعر والقصص، وما يمكن أن نسميه مقالات وتأملات، فيضًا هائلًا من ترهّلاتٍ تبحثُ عن صمتها وهي تُصوّتُ عاليًا بعيدًا عبر أبواقٍ مخرومةٍ متكئة إلى عكاكيزَ لا تعرف نسغها.

وكان الصمت الجليل "لصديقنا، لحفيدنا" هو الفعل الأوضح، هو الفعالية الأقصى.

وما زال الكلام قائمًا، والصمت مُغيَّبًا، وكأنه جِنّيٌّ أخرس نتلو عليه تمائم الكلام كي يعود إلى رشده، وينضم ثانية إلى قافلة الكسالى العاطلين عن الهدأة المؤسسة.

الكسالى الذين لا يَطربون ولا يُطربون.

 

روفشان عبدولوف / أذربيجان



2      ـ الكارثة:

عندما تختلط الأحوال، ويُقتنَصُ الصمت المقدّس لِيلوِّنَ وجهًا باجِرَ الرؤى والاحتمالات، فإن اللعثمة تأخذ تضاريسَ غرائبية ليتمَّ بعدها عجنُ وتلويثِ كل الألوان النظيفة العصيّةِ على السقوط في تشابهاتها.

إن اللغة الاستيلائية، المزاجية المُخرّبةِ، والباحثةِ عن أقنِعتها التي تتمترسُ خلفها ــ لِجُبنٍ إبداعي أصيل ــ نرى إلى "لعبة" الصمت المُرتَجلِ وغيرِ المُؤسّسِ، ثمارها الطازجة لتعتيمٍ كبيرٍ على قَسَماتها التي تنغرزُ بعيدًا في الخراب والاستعراض المجاني المقيم.

فالصامت "عرفًا؛ مزيفًا" صاحبُ عمقٍ "رؤيوي" لا يُسبَرُ، وهو غيرُ مبرمجٍ لطرحِ هذه الرؤى في كل المحافل والأحوال، ومن هنا يصنعُ العاجِزُ والخاوي، المهلهلُ الرؤى مُتكئًا على قدرةِ عدم التحدُّثِ والتّورطِ التي "يربح" من خلالها، ويقوم بتأليفٍ جديدٍ لشخصهِ على أنه معانقٌ لآفاقَ أكثرُ عُلُوًا أو غيبوبة، وأكثر إمكانية على طرح المشاريع المُحكَمةِ لما يعترضُ الروح والشمس.

وعلى مشارف هذا الصمت ــ المستورد ــ تُبنى وتُطرَحُ شخصية "شايلوك" الجديدة، والتي تصبو لطروحات خاصة متجاوزة لنمط الشايلوكية المعروف، ولن يكون امتحانُ السقوط سهلًا للآخرِ المأخوذِ دهشةً وعجبًا بتلك الشخصية، إلا أن مفتاح الكشف عن الحُجُبِ الأولى التي تتستّرُ وراءها هذه الشايلوكية كفيلةً بصنعِ تفرقةً أولى بين الأصيل والمزيف، وعلى مختلف الصُّعدِ التجريديةِ والتطبيقية، وليس لنا، أيضًا، انتظارَ زلاّتٍ قاتلةٍ للّغوِ الحريصِ على عدم التهاوي أمام حالاتِ الروح والدّم، إلا أن السؤال عن جدوى الصمت تجاه صخبٍ مُحيطٍ ليكشفَ لنا بدءًا، بأن الصمت الأصيل بعيد عن هلوسات العصر والضجيج، غائصٌ في أسئلته المؤسسة التي لا تتوانى رفضًا للألعاب والاستعراضات الصغيرة، متجهٌ صوبَ دمائهِ التي لا تتعثرُ باليافطات. والشايلوكي، هنا، لا يستطيع إلا انتظارَ إعجابِ الآخر ودهشتهِ من صمتهِ الذي يريدُ له ــ عبثًا ــ أن يكون بديلَ خواءاتهِ جميعًا، وبهذا يكون المفتاحُ قريبًا وكفيلًا بفضيحةٍ لا تَمسُّ الصامتينَ المؤسّسينَ المنعزلينَ عن دوائرِ العصرِ الموبوءة والبهرجات المُتخثرةِ الأولى.

وأن يكونَ الصمتُ ملجأ، وهدفًا أخيرًا، يختلفُ عن رؤية الهامشي الحكيم والمؤسس للصمت ومناراتهِ، الصمتُ المندلِعُ المُضيءُ حين هبوب احتياجاتنا لمبادراته الوثّابة.. المُترعَةِ كشفًا.

إن المتعةَ المعرفية مكثّفة فيما يطرحه الصمت من رؤى واحتمالات.

وإن متعة الشايلوكي الأحادية الاجتماعية المتخثرة في ما يطرحه استيرادُ الصمتِ من إعجابٍ ودهشة مُرتجلة لا تروي إلا الجحورَ وقاطنيها.

إنها التناقضات الكبيرة والكشف.

إنها الحُجُبُ الأولى التي توقظُ السائد ــ إن كان يحمل إمكانياته؟ ويحمل! ــ من سُباتِهِ ويباسهِ المُعرّش.

 

*شاعر سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.