}

مشاهد من بلاد العجائب

وداد نبي وداد نبي 12 أبريل 2021
يوميات مشاهد من بلاد العجائب
من مدينة راينسبيرغ الألمانية
منذ الثالث من تموز/ يوليو، وحتى لحظة تحرير هذه اليوميات، التقطتُ مئات الصور بهاتفي المحمول لمدينة راينسبيرغ (ألمانيا)، الشوارع، القوارب، المقاهي، الأحياء المتفرّعة في الأطراف، وتلك المجاورة لغابات الصنوبر، القصر وحديقته، إسطبلات الخيول، الحدائق الأمامية للمنازل، وجوه السياح المتغيّرة كل يوم أمام البحيرة الصافية، السهول والمروج، الغابات، الخيول، الطيور، البط، اليعاسيب، الخنافس المنقطة، العناكب، الفراشات، الأفاعي، زهور الأقحوان، والوحواح، وأنواع أخرى لا مجال لذكر أسمائها الجميلة. كما كانت هنالك صور كثيرة للتوت البري، البحيرات، الأكواخ الخشبية، الدروب الترابية، والفطر البري السحري، أو المسموم، رغم أنني أفضل كلمة سحري أكثر.
حين نشرت مرة صورة من تلك الصور على صفحتي على الإنستغرام، كتبت لي صديقة اسمها شيرين: "كلما رأيت صورك وكتابتك عن هذه المدينة، أشعر أنك أليس في بلاد العجائب". فوجدتني أسأل نفسي السؤال: ألم أكن، حقًا، خلال الشهور الماضية، وأنا أتجول في شوارع هذه المدينة وبراريها وغاباتها سيرًا على القدمين مع زوجي، ولساعات طويلة في أيام العطل، ألم أكن، حقًا "وداد في بلاد العجائب"؟
بعد ذلك، كان السؤال التالي هو ما يؤرقني: هل اختبر الكتاب الواحد والخمسون الذين سبقوني إلى هذه المنحة، منحة الكتابة، هذه المشاهد والتغييرات الطفيفة التي كانت تطرأ على المدينة؟ هل كتبوا عنها كما أكتب أنا اليوم؟ هل انتماؤهم لمدن وثقافات مختلفة جعل رؤيتهم وإحساسهم بهذه المشاهد مختلفًا أيضًا؟ هل سلكوا هذه الدروب الترابية الضيقة التي سلكتها؟ وهل انتبهوا لرائحة بدايات الخريف وهي تهجم على الغابات والمروج وحدائق المنازل الخلفية، تغيّرات الألوان التي تظهر تدريجيًا، المناطق المزروعة بالعلف ورائحته، الرطوبة التي كانت تقود خطواتي في اتجاه أماكن نمو الفطر؟ هل شعروا بوخز رائحة الصنوبر في ذاكرتهم؟ هل شاهدوا سكان المدينة، وانتبهوا إلى زيارات الأحفاد لهم أيام العطل والأعياد؟ هل شعروا بتفاهة عمر الإنسان أمام شجرة سنديان عمرها 500 عام؟
الفضول هو ما قاد خطواتي في اكتشاف المدينة والمناطق الطبيعية المحيطة بها.
تصوّرت أنه لا يمكن للكاتب أن يكتب عن هذه المدينة ويفهمها ما لم يمش لساعات في طبيعتها، ويجلس بجوار قصب البحيرة، ما لم يصادف سكانها وهم يتجولون بين براريها، يقطفون زهورها، ما لم يقضم الملل روحه من هدوء المدينة وسكونها. ربما يحتاج المرء كي يكتب عن راينسبيرغ أن يكتشف بنفسه كل درب وطريق صغير وغير سالك في غاباتها وشوارعها، أن يكتشف نفسه وماضيه مع هذه المدينة، أو القرية الريفية الكبيرة، كما أحب أن أسميها. ألم يقل روبرت فروست: "هنالك طريقان في الغابة، وأنا اخترت الطريق الأقل اختيارًا، وهذا ما صنع كل الفرق".



يوم في محل السيراميك
في الشارع أمام محل السيراميك، كنت واقفة أنظر إلى جمال ألوان السيراميك الراينسبيرغي المصنوع يدويًا. ذكرني اللون الأزرق مع الأبيض على المزهرية الموضوعة في الواجهة بالبيوت اليونانية في الجزيرة التي وصلتها هربًا عبر بحر إيجة. حين رأيت لوني الأزرق والأبيض على الجزيرة شعرت أنني أصبحت بأمان.
دخلت المتجر لألمس بيدي كيف يمكن لمجرد لون أن ينقل مشاعري من زمن إلى زمن آخر. كيف استطاعت قطع سيراميك ملونة أن تمنحني قطعة من زمن منسي؟
اشتريت قطعتين من الرخام، وطلبت من البائعة الألمانية كتابة اسم صديقتي على كوب قهوة، قالت البائعة: كفاح، اسم غريب وجميل.
ابتسمنا لبعضنا، ولاسم صديقتي الغريب بين يدي بائعة المتجر. كان اللون الأزرق الخزفي على تلك القطعة قد استولى على قطعة من قلبي وذاكرتي، حين وضّبت البائعة المبتسمة، القطعتين بمغلف ورقي.



يوم قطف الزهور مع امرأة من المدينة
في درب ينعطف من حديقة القصر، كنت أمشي عائدة إلى البيت ومعي باقة زهور وأعشاب طبيعية قطفتها من البرية. شاهدت امرأة تبدو في الستين، في يدها سلة مصنوعة من الخشب، تمشي وتقطف الأعشاب والزهور، وتصنع منها باقات صغيرة. حين تقاطعت دروبنا ألقت تحية السلام، وبادلتني بضع جمل عن الزهور في راينسبيرغ، عن جمال الطبيعة، وأعطتني ملاحظة بخصوص الزهور التي قطفتها. قالت لي "رائحتها قوية"، ويجب أن أستبدلها بأخرى. ابتسمت، وقلت سأفعل، وودعتها. وحين أدرت ظهري لها، بدأت تدندن بلحن حزين، أغنية لم أستطع التقاط كلماتها، لكنها كانت للغرابة شبيهة جدًا باللحن الحزين الذي كانت تدندنه جارتنا في شرفتها بحلب حين كانت تجلس في الشرفة وتراقب السماء، في انتظار أن يأتيها خبر من ابنها الجندي الذي مات في حرب قاده إليها ديكتاتور البلاد.
ترى ما الذي كانت تبكيه السيدة الألمانية بلحنها الحزين؟



يوم في الغابة مع صديقتي
في غابة بوبرو، توجد شجرة دلب تعانق شجرة كستناء. بدا المشهد غريبًا. سألتني صديقتي التي زارتني في يوم من أيام أيلول/ سبتمبر: ما الذي يجعل شجرتين من جنسين مختلفين تتعانقان بهذه الطريقة، وتنموان معًا كما لو أنهما شجرة واحدة؟ قلت: ربما الحب، فنحن البشر غير قادرين على تفسيره، لكنه يظهر دومًا في الطبيعة، وفي حياتنا، من دون أن نملك إمكانية تفسيره.
إنه يحدث فقط ببساطة.


(مقاطع من كتاب يوميات صدر باللغة الألمانية عام 2020).

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.