}

طائر أصفر في غرفتي

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 16 يونيو 2021
سير طائر أصفر في غرفتي
الطائر الأصفر، جورج براك، 1959

 

حينما أدخل عش الأرض
مقرورًا ومسرورًا
ويسترخي جناحاي
وأرخي الجفن كي لا أبصر الأشجار (..)
تنأى مرة أخرى
فلا تبكي عليَّ!
قلت لا تبكي (..) 
بَلغت الشاطئ الآخر
لا تبكي!
فحتى صوت أنفاسي لن يأتي إليَّ.

                              سعدي يوسف

 

قطر الندى

عندما طُلِب مني في مناسبة عائلية أن أعدّد أمام الحاضرين أسماء من أُحب، فوجئت بالسؤال وتردّدت في الإجابة عليه، فما أكثر أحبائي وأحبابي.. إلا أن إلحاح السائل، المسموع منه والصامت، دفعني إلى المغامرة بالجواب، رغم معرفتي بأن جوابي قد لا يروق أحدًا.. قلت لهم بعد صمت وتردّد ونصف ابتسامة، إنني أحب قطر الندى.. وأحب بالذات حَبَّات مَائِه متلألئةً. واصل أحد الحاضرين السؤال قائلًا، لماذا حَبَّات قطر الندى؟ فأجبته مباشرة، أعشقها أولًا لصفاءِ ولَمعانِ قطراتها حين تستقر شفافةً فوق أوراق الورود، وحين تتناثر فوق أديم الحقول في صباحات الربيع المزهرة.. وأعشقها ثانيًا، لقدرتها الفائقة على الاختفاء مُباشرةً بعد الظهور.. ثم خاطبت الحضور بسرعة قائلًا: هل فهمتم سبب عشقي لقطرات الندى؟


إيقاع الشَّجَن

لِلشَّجَن إيقاعٌ خافتٌ يُشبه الأنين، وله أحيانًا إيقاع جنائزي صامت، وأتصوَّر أن للصامت منه وَقْعٌ يفوق المسموع والخافت.. للصامت من الشجن شُحنةٌ تفجر في الذات وَلْوَلاَت يسمعها صاحبه وحده، وترسم في دواخِله وفي مظهره، علامات كَاشِفة في اللَّوْن وفي النظرة، في الحركة وفي الأوجاع الأخرى.. لحظةُ الشجن الصامت مُحاذيةٌ للجنون.. لحظةٌ تعلو أو تنخفض على عَتَبَة التوازن الصانع لبهجة الحياة، لتنفتح على حافة بلا قرار، حافةٍ سوداء مظلمة بلا مُنبسطٍ ولا تلٍّ، حافةٍ مُحاذية لفراغ أسود تتخلله أصوات مبحوحة، وتسمع فيها أصداء إيقاع الهشيم المشتعل بالنار..


 

أحرف الرمل

كم عدد أحرف لغة الرمل وهل يمكن إحصاؤها؟ نحمل حفنة رملٍ في أيدينا تبدأ حبَّاتها أحرفها في الانفلات من بين أصابعنا في رمشة عين، نكتب أحرفًا على أحرف الرمل فيمحوها رذاذ الموج، تتبعثر الأحرف في الموج ويغيب المكتوب.. أَحرفُ لغة الرمل متشابهةٌ وغير متشابهة، إنها أحرف من ملحٍ وماء.. فإننا لا نعرف هل الرمل هو الذي يمحو أحرف الماء؟ أم ماء المد والجزر هو الذي يمحو كلمات الرمل ويُعطِّل إيحاءاتها؟


 

وردة بيضاء

سألني صديق ذات يوم عن لون الورود الأقرب إلى نفسي، أجبته دون أن أمنحه إمكانية الاستماع إلى جوابي.. صَوَّبتُ نظري نحوه، وبدأت الجواب في سريرتي قائلًا: أتصوَّر أن الورود البيضاء أكثر رقَّة ونعومة، إضافة إلى أن هشاشتها تفوق هشاشة باقي ألوان الورود الأخرى.. إنها أولى من غيرها بالاحتضان والضَّم.. نظر إلَيَّ متعجبًا من صمتي، وخاطبني قائلًا لماذا لم تُجب على سؤالي، فسألته دون حرج وأنا أنظر في عينيه، لِماذا لم تسمع جوابي؟


 

طائر أصفر

وأنا أفتح نافذة غرفتي في صباح ربيعي، شعرت أن طائرًا أصفر اللون يدخل الغرفة دون استئذان، استبشرت خيرًا بدخوله، أغلقت النافذة وأحضرت قفصًا كنت قد اقتنيته منذ سنوات، وظل ينتظر الطائر الأصفر الذي زارني اليوم.. انزعجت في البداية من فكرة القفص، إلا أن دخول الطائر الأصفر اليوم إلى غرفتي، جعلني أغامر بوضعه في القفص، مُتطلعًا إلى أن يؤنس وحدتي، ويملأ أذني بأعذب وأَرَقّ أصواته..  وضعته في القفص، فانزوى في ركن منه ولم يتزحزح.. لم يغن في المساء، ظل منزويًا في ركن واحد لا يتحرك.. فانتبهت إلى أنه لم يعد أصفر.. فتحت القفص لأحَرِّره فلم أعثر عليه..


 

أناشيد الليل

يمتلئ الليل بالصمت، تتناقص حركة الأصوات في المساء بالتدريج، وما أن يَعُمّ الظلام حتى تبدأ حركة الكلام والضحك والبكاء في التناقص بالابتعاد.. يتوقف الكلام وتعلو أصوات أناشيد الليل بإيقاعاتها العذبة والهادئة.. أناشيد الليل تمتلك قدرة خاصة على اختراق الليل الذي ينتظر ميلاد الأصوات والضوء، أصوات الطيور وأشعة الشمس وحركة الآدميين في الطرقات..


 

غيمة سوداء

تعبر غيمة سوداء مساحة السماء فوقي، تَعْبُر مسرعةً وكأنها تقصد هدفًا محدَّدًا، تتوقفُ، تكبرُ، تتمدَّدُ وتتسع مساحة سوادها، تتحول إلى غيوم بأحجام وأشكالٍ لا حصر لها، تغطي بعض أشعة الشمس، فتتقلَّص مساحات الضوء، وتغرق أجزاء من الأمكنة أمامي في أجواء تنبئ ببداية سقوط المطر.. ليست كل الغيوم ممطرةً، لكن الغيوم بلون أسود تحمل المطر أكثر من غيرها. بدأت قطرات المطر ترتطم بأديم الأرض، فانتشرت معها روائح التراب الممزوج بالماء، تكاثف السقوط لحظاتٍ ثم توقف.. رفعت رأسي نحو السماء، فانتبهت إلى حركة الغيمة وهي تقصد سماءً أخرى وأرضًا أخرى..


 

الحنين

للحنين طعوم نَستعيدُ ونحن نَستحضرها كثيرًا من المزايا التي يصعب التعبير عنها في كلمات أو إشارات. تمتلك الكثافة التي رُكِّبت بها مفردة حنين، مزايا أكبر من الكلمات وأرقَّ من الصمت والهمس دون كلمات..

يتيح لنا الحنين الإمساك بأشخاصٍ وأمكنةٍ ولحظاتٍ عشناها في فترات متباعدة من عمرنا القصير، نستعيد صوَّر كلماتِ ونظراتِ ولمساتِ من نَحِنّ إليهم، ونشتاق لمجالستهم ومخاطبتهم، العين في العين واليد في اليد، مجالستهم وإخبارهم بمآلاتنا.. كما نريد الاستماع إليهم واحتضان ابتسامتهم وأشواقهم.. يمكن أن نُدرج صوَّر الحنين في دائرة الأحلام.. حيث يتسنى لنا بواسطة الحنين اقتناص لحظاتٍ خاطفة وجارفة، نَنْعَم فيها بمباهج لا تُعَمِّر طويلًا رغم أنها تصنع كثيرًا من مسراتنا.


 

تَسمعُ.. لا شيء

ترى لا شيء، تسمع لا شيء، تلمس لا شيء، الأعينُ والآذانُ ومختلف الحواس ظلت معك لكن بدون رؤيةٍ ولا سماعٍ ولا قدرةٍ على التمييز.. لستَ في حالةِ غيبوبة عارضة، لست في لحظة ذهول مؤقتة، لست خائفًا أو طائرًا أو مختنقًا فأنتَ كما أنتَ وقد انفصلت عن العالم، انفصلت عن المألوف وحلَّقت ورحلت وغادرت، وكثيرٌ ممن يعرفونك ينتظرون عودتك، ينتظرون أن تراهم وتسمعهم، ينتظرون تحيتك وابتسامتك وكلماتك..

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.