}

ذكريات الفصل القادم

زهرة أحمد 14 مارس 2022
قص ذكريات الفصل القادم
(نهاد الترك)



إنها طفولتي.
هكذا كان جوابه على نظرات صديقه الغارقة في اللوحة المعلقة في مكتبه.
أدرك المحامي زارا من ملامح صديقه، ومن استمرار التيه في نظراته، بأن تلك الجملة لم تكن كافية لاستفساره الصامت، لإنقاذ نظراته من غرقها، لذلك بدأ ينسج ما بين ثنايا اللوحة، ساردًا قصة لوحة طفولته: قد تبدو لك لوحة جميلة فحسب، أما بالنسبة لي فهي لوحة الطفولة وإشراقة الحياة. تفوح بعبق المراعي، أشم رائحة أبي، أمي، إنها عشق الكوردي لمراعي زوزانا. تمدني بقوة لا حدود لها، تربطني بمهد طفولتي، بتاريخي.
إنه الحنين إلى المكان، تشرق في روحي ألقًا واستمرارية.
أستحضرُ تلك المرحلة بكل تفاصيلها المفرحة والمحزنة، كما أشيائي الصغيرة وأحلامي الصغيرة، أيضًا، وأشياء أخرى لا تُحكى، المقدر لك رؤيتها، وما أكثرها.
إنها قصص ما وراء الألوان. وهذه اللوحة صورة حقيقية لمراعي قريتنا، كان ذلك في ربيع السنة الماضية، صورتها في آخر زيارة لقبريْ والديّ، وكالعادة أزور المراعي أيضًا. هنا تكمن طفولتي، هنا كانت علاقتي الأولى بالطبيعة، بكل تفاصيلها. بدأ المحامي زارا يسرد تفاصيل الحياة في اللوحة لصديقه وهما يرتشفان القهوة الممزوجة بعبق الذكريات: قريتي، شقيقة الربيع، وتوأم روحي، تبدو كعروس تجر ثوبها المزركش بشقائق النعمان، وكل ألوان الأزهار، تتربع في حضن دجلة، تحيط بها تلك التلال الخضراء، فتبدو أنيقة أبدًا. قالها والشوق يلمع في عينيه الغارقتين كما صديقه، في تفاصيل اللوحة: هنا كنت أقضي كل يومي، وأجمل لحظاتي مع صغار الغنم، كنت الراعي، زارا راعي الحمل.
كنت أحب الحمل كثيرًا، وما زلت. تبدو كندف الثلج التي بعثرها الهواء، لتتوزع بين خضرة المراعي في حضن تلك التلال. ألعب معها ومع نفسي، لم أشعر بالتعب رغم كل التعب، شعرت دومًا بخيوط من الفرح تنسج نبض الفرح.
أستمتع بثغائها وأقلدها، حتى كدت أصدق نفسي بأنني أتقنت أصواتها، بل لغتها كما كنت أقول في نفسي. نتسكع على سفوح التلال بأحلامنا الصغيرة، أقمت معها صداقات، ما زلت محافظًا عليها. أحيانًا، كنت أعتقد بأنها تقرأ حزن ملامحي، فتصدر صوتًا لمواساتي، أو تدعوني إلى مسرحية المرح. لو كنت شاعرًا لكتبت مئات القصائد في هذه اللوحة الشعرية: حمل يتقافز، خضرة تبهج الروح في أبهى صورة، غير مبالية بفصول السقوط، أحجار مغروسة في مكانها، لا تبالي بالمتغيرات ما دامت في مملكتها، سماء تمطر زرقة ممزوجة ببياض الفرح، تمطر كل الندى، تستحم بها تلك الأزهار الصفراء والحمراء.
يلمع الندى على فروة الحمل الناصع كما اللؤلؤ، لم يكن قد التصقت به الأشواك بعد. أما التلال، بالرغم من صمتها، فلا تتوانى عن البوح بأسرار جمالها، إنها المراعي بكل تراتيل الجمال. كان الظلام لا يزال يوشح أكتاف قريتنا، عندما كنت أجهز نفسي للرعي، لتبدأ الشمس بمداعبة الطبيعة، بعد أن تغسل وجهها بقطرات الندى بعد ليل شتائي غارق في العتمة.
أحمل الصُّرة، صُرتي القماشية، خيطتها أمي من فستانها القديم، مما كان يفرح قلبي أكثر مما تحوي بداخلها. أحيانًا، أضع دفتري وقلمي في صُرتي، أكتب وأرسم أيضًا، وعصاي إلى جانبي، عين على حروفي المكتوبة، وأخرى على الحمل، تتراقص أحلامي مع الحمل، وعلى دفتري، ثم تزهر في روحي سعادة لا توصف. تتقافز الحملان الصغيرة في مرح غامر، فأقفز معها، كانت ابتسامتي تحوي كل الحملان.
كثيرًا ما كنت أتابع مسير النمل، أتحرك مع سيرها، أزيل الحجارة الصغيرة من طريقها، مع أنها كانت قادرة على اجتياز أصعب الطرق وهي تحمل حبتها على كتفها، تعلمت منها كثيرًا. العلكة الوحيدة التي كنت أستمتع بها كانت تسمى علكة الراعي، تلك العشبة الخضراء ما زلت أتلذذ بطعمها.
بالرغم من عناوين الجمال وكل المرح، أحيانًا كنت أحس أن اللحظات كانت عرجاء الخطى، تمر ببطء، وذلك عندما أشتاق إلى أمي. من شدة التعب، وقلة النوم، كنت أنام قليلًا في المراعي، لأستفيق على ثغاء الحملان وقد اجتمعت حولي، ترعى وتركض، كأنها تريدني أن ألعب معها، كانت تشبهني في أمور كثيرة، فهي مثلي بعيدة عن أمهاتها، وواثق بأنها أيضًا مشتاقة لها. يبقى نظري معلقًا في السماء، أنتظر أن تخطو الشمس خطواتها نحو الغروب لألملم صرتي وحملاتي.
وعند الغروب، يتبدّد كل تعبي، وكأنني ألوّن بعصاي تلك اللوحة الساحرة. رغم كل الصعاب، كان في عيني طفل قوي، أو رجل في هيئة طفل لا يعرف اليأس.
هذا ما تعلمته من الطبيعة.!! حذائي القديم الذي صارعت به كل الطين في قريتنا، وفي المراعي، كانت خطواتي به كبيرة، يخفي في داخل فردتيه أصابعي الصغيرة، كان الحذاء لأبي، وهذا ما كان يسند خطواتي، يمدني بكل تلك القوة التي صارعت بها طرقًا متعرجة، مزروعة بالحصى والأشواك. كثيرًا ما كنت أمشي حافيًا، وخاصة في الصيف، فيغير الغبار لون قدمي.
كبيرة كانت فرحتي عندما اشترت لي أمي حذاءً جديدًا يناسب مقاس قدمي، كانت قد باعت البيض لمدة أسبوع، وجمعت بثمنه ما يلزم لشراء الحذاء، لتبدأ رحلة التحدي والتباهي.
كنت أرتديه فقط في المدرسة، أقنعت أمي أن ألبسه مرة واحدة فقط في المراعي، كانت هنالك رغبة في داخلي أن ترى الحملان حذائي الجميل. نادرًا ما كنت ألبس ملابس جديدة، ملابس ابن خالي الذي كان يكبرني بسنتين تضيقها لي أمي بفرح، لألبسها في المدرسة، أما ملابس الرعي فما تزال تعبق برائحة المكان، برائحة الطبيعة في كل فصولها.
فيما كانت العتمة تفك آخر خيوط الضوء، معلنة عن ليل غارق في السواد، كانت أمي تعد لي العشاء، وتنتظرني في الخارج، تحكي حكايات كل ليلة، تغزل الكلمات على شفتيها خيوط الفرح، لتفرش به خطواتي، امرأة من سمات الخريف، سقط ربيع عمرها لتزهر كل الفصول ربيعًا في حياتي، تورق مواسم الفرح في مهب ابتسامتها.
هكذا كانت امرأة شامخة، إنها أمي، أسندت وقوفي حتى تخلصت قدماي الموحلتان من السقوط، علمتني كيف أهجي حروف الثبات، فأتقنت أبجدية النجاح. لأجلها أحببت ليالي الشتاء، لم أشعر بالبرد وحضنها يدفئ روحي.
كل ليلة، قبل أن أنام، كانت تلقنني، كما أبي، حب الوطن، وطني المجزأ، وتتحدث عن شعبي المظلوم، وتلك الحكايات اللا منتهية، لا أزال أحتفظ بنبضها في ذاكرتي.
ولا تزال سماؤها تهطل في روحي أمطارًا أبدية من الحب لوطني، للحرية، للسلام. أبي، مَثَلي الأعلى، كل عناويني لتحدي الصعاب، وعنوان مشرق للعيش بكرامة. كنت أجهل سبب اعتقاله المتكرر بعد اجتماعه مع رفاقه في بداية كل شهر في بيتنا، أو في بيوت رفاقه. لكنني كنت أرى فيه تحديًّا جميلًا، وتلك الإرادة التي ما زلت أستمد منها خطواتي. كان يكرر دائمًا لرفاقه، عندما يكبر زارا سيصبح محاميًا، سيدافع عنا وعن حقوقنا. هذا ما دفعني إلى النجاح.
رحيله المبكر أنهك روحي، التعذيب القاسي الذي تلقاه في السجن في المرة الرابعة لاعتقاله كان سببًا لمرضه الصامت الذي غير مسار حياتنا ليرحل هكذا مبكرًا.  بالرغم من صغر سني، كنت أدرك كم كان أبي مناضلًا.
كم أنا فخور به. بعد وفاة أبي، بقينا وحيدين، لتختصر أمي كل العالم في شخصيتها، إنها الأم الكوردية. كانت تعمل في الأرض، تحصد العدس، وتجني القطن، لم نعد نملك أرضًا، القوانين الاستثنائية حرمتنا من أرضنا كما جنسيتنا، لترحل هي أيضًا بعد أن أكملت رسالتها.
بمساعدة خالي، تمكنت من إكمال دراستي، ونفذت وصية والدي. ما زلت أكمل رسالته. ما زلت أحتفظ بعصا الرعي، وما أزال أراني ذاك الطفل الراعي. قالها وعبق الابتسامة يملأ سماء روحه، ليختم بها فصلًا واحدًا من فصول راعي الحملان.
ما يزال يزور قريته، قبر والديه والمراعي، ما تبقى من نبض الروح، لا يزال يقضي أجمل أوقاته وهو يراقب الأغنام فوق تلك التلة المشرفة على المراعي، يستمع إلى موسيقى تنبش الفرح في روحه، يجمع وثائقه الطفولية في عالم ينبض بالنقاء، ما يزال يستمد منها إكسير حياته.

مقالات اخرى للكاتب

قص
22 أغسطس 2022
قص
5 أغسطس 2022
قص
12 يوليه 2022
قص
14 مارس 2022

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.