}

رسائل إلى صديقي الدمشقي (1)

سمير الزبن سمير الزبن 12 أبريل 2022
يوميات رسائل إلى صديقي الدمشقي (1)
أحمد معلا، سورية

 

الرسالة الأولى

(يحق لنا أن نحلم)

عزيزي

سألتني: "لماذا توقفت عن الكتابة؟ وأضفت أنا أحب كتاباتك يا رجل".

قلت لك: "توقفت بداعي القرف لا غير يا صاحبي، فأنا أشعر بعدم الجدوى، وأنّ ما نشهده أكبر من كل كتابة ممكنة، تبدو الكلمات عاجزة عن اللحاق بالأحداث اللاهثة".

في زماننا نشاهد عرضًا مباشرًا كيف تقتل الأحداث الكلمات. ولكني مثل كل المرات السابقة، أتراجع اليوم عن قراري لأكتب لك، فأنا أصلًا لا أملك سوى الكلمات. هي أسلحتي للسخط والحب والحرب، وللكتابة لك. أنت تعرف جيدًا كم أعاني من التردّد، وليس من الغريب أن تصفني بالمتردّد، فأنا كذلك حتى عندما أبدو بمظهر الحاسم والحازم، هي صورة خارجية أصطنعها، أحاول من خلالها إخفاء هشاشتي الداخلية. فأنت أكثر من يعرفني يا صاحب عمري.

اشتقت لك يا صاحبي، واشتقت إلى حياتي هناك حيث أنت، لا أصدق أنني منذ أربع سنوات لم أرك، ولا أصدق، ولا أريد أن أصدق أنني ممكن أن لا أراك أبدًا. هو الحلم ذهبنا وراءه، فكان أن شردتنا القذائف، و"نعفتنا" في كل مكان، لم أجد تعبيرًا أفضل منه عن حالة شتاتنا المستمر والمتبدل يوميًا. هل كان علينا أن نقبر الحلم ونكتفي بالكابوس؟! ألا يحق لنا أن نحلم، بأن نعيش كما يعيش باقي البشر، حياة طبيعية عادية ومملة؟! هل كان علينا أنّ نعيش الخوف من المهد إلى اللحد؟! أليس من حقنا أن نختار الأغاني والوجوه التي نراها معلقة على جدران المدينة؟! كل هذا الدم كان من أجل أن نعيش مثل الآخرين؟!

كم كان الحلم بسيطًا؟ كم كان مكلفًا؟

أعرف يا صديقي أن الصمت يقتلك، فأنت لا تملك حتى ترف الكلام أو الصراخ في وجه الجلاد، هذا الترف الذي نملكه نحن المنفيين، لنحتج دون جدوى على الدماء المحيطة بك وعلى قتل ودمار ذهبا بعيدًا، ليخطفا الأجمل بيننا. كم هي الحياة ظالمة يا صاحبي، وكم هي مُفاجِئة!

أريد أن أخبرك كل شيء، كما جلساتنا الحميمية، عندما كنا نحكي عن الحب والشعر والموت والله والديكتاتور والأدب الرديء... كم أحب تجليك في الكلام الصادر عن القلب مباشرة في ليل دمشق الذي يخفي قذارتها النهارية. كم كنت أحب إيقاع أقدامنا على أحجار المدينة في نهاية ليلها/ ليلنا الجميل، قبل أن نصحو في نهار آخر لنصطدم بقذارة المدينة من جديد.

لن أطيل عليك، سأكتب لك دائمًا، ولا أنتظر جوابًا منك..

اعتن بنفسك. وعليك أن تعرف كم أحبك..

بكل محبة.

نيبرو ـ السويد 6/2/2016

سمير

*****

الرسالة الثانية

(الغربة)

عزيزي

أعرف عمّا تتحدث، الغربة، إنها الكلمة المفتاح هنا وهناك. أفهم شعورك بالغربة بعد مغادرة الأصدقاء، وأعرف كم من الصعب الصمود وحيدًا هناك وسط مخاطر لا تنتهي. تنتظر عبثًا في نهاية النفق الذي طال بما يفوق الاحتمال، ضوءًا لا يريد أن يأتي.

أعرف أن طعم الغربة عندك مختلف عن طعم الغربة هنا، لكل غربة وجعها، هناك تجارب في الحياة لا تستطيع معرفتها دون عيشها، مهما عرفتها نظريًا، تختلف في المعايشة. الغربة واحدة من التجارب التي تُعرف بعيشها، تتوقع آلامها، لكن الواقع يأتيك دائما بكل ما لا تتوقع. الغربة بنت الغرابة، الدهشة أولها وآخرها العمى، لا شيء لك في المنافي، أنت ورقة في مهب الريح القاسية، منزوعًا من حياة، حياتك، وملقى في المجهول. من اللاشيء عليك أن تبدأ، لا تعرف الخارطة ولا تعرف الطريق، ولا أصدقاء يقودون عماك إلى طريق خاطئ أو صحيح، ليس مهما، المهم أنك تسير.

أعرف انك تعيش في بلد لم أعد أعرفه، أحاول تصور ما وصلت إليه الحال عندك، لكني أفشل، لأني أقيس على ما أعرف، وما أعرف بات ماضيًا سحيقًا، ذهبت البلد بعيدًا، وتفوق الواقع على الخيال بمسافة لا يمكن ردمها. كم الألم والحزن والحكايات أكبر من القدرة على التصور والتدوين والاستيعاب. وللقصص هناك صدى هنا، ويضيف أمثالنا الفارون من الحرب قصصًا أخرى حزينة ومضحكة إلى جبل القصص السوري.

تهتز الأرض تحتك هناك، وتهتز الأرض تحتي هنا، ويريدون منا أن نكون ثابتين ونرى بوضوح في عتمة حالكة. لا أنت نبي ولا أنا قديس، صحيح أننا نحاول أن نسند بعضنا، لكن الارتجاج أكبر من قدرتنا على الثبات. نرغب بأن نحيا كما يحيا البشر العاديون، لكنا قُذفنا إلى درب الآلام الذي طال، حيث اختبرنا في سنوات قليلة ما لا يمكن مشاهدته خلال قرن. في أتون التجربة لم نعد نحن نحن، ولم تعد البلاد هي البلاد.

أعدُّ نفسي بسهرة سويًا، لا أعرف أرضها، نحتسي فيها بعض العرق، ونروي بعض النكات، نضحك ونبكي، ونتحسر على عمر فاتنا دون أن نعيشه مثل كل البشر.

أعرف أن هذه السهرة ستحدث بقوة المأساة، لا بقوة التفاؤل.

اعتن بنفسك يا صديقي، لا أريد أن أخسرك بقذيفة طائشة.

بكل محبة.

نيبرو ـ السويد 17/2/2016

سمير

*****

الرسالة الثالثة

(محاولة إطفاء الضوء)

عزيزي

كيف أنت؟ كيف تعيش تجربة الهدنة؟ هل تتفقد سماء دمشق لتعرف أنها خالية من القذائف، أم تبحث في حواريها لترى معالم الحرب على الوجوه المتعبة؟

أنت تعرف، كما أعرف، أنها هدنة بين موتين، لكن، لينتظر الموت المعمم قليلًا، ولتتأجل قرابين الدم بعض الوقت، لعل الضحايا اللاحقة تجد فسحة من سعادة بين الموتين، أو على الأقل أن يسنح لها الوقت بسماع بعض النكات لتضحك بكل قوة الحياة قبل موتها.

لا شيء في هذا العالم يستحق قتل إنسان. كل هذا القتل المتواصل منذ سنوات، والذي سيستأنف عمله بعد قليل، لم يُحول القتل إلى فعل عادي بالنسبة لي ولك، ولكل من يحمل قيمًا ما عن مركزية البشر في الحياة والسياسة والبلد، لا شيء يمكن أن يهز قناعتي وقناعتك بمركزية البشري في مواجهة الهمجية.

نعم، الحرب أدمتنا جميعًا، دون أن تطهرنا تمامًا، ودون أن تفتح ثغرة جدية في جدار الظلام، من الصحيح أن الجدار قد اهتز لكنه للأسف لم يسقط، فقد وجد من الحوامل الخارجية ما يكفي لمواجهة الضوء الداخلي الذي ولد من صرخات المظلومين في مواجهة الظلام، ويستخدم كل أدوات القتل لإطفاء هذا الضوء.

في دمنا المسال علنا، لكل منا حكايته وآلامه في هذه الحرب. يا إلهي كم طالت!؟ أشعر أن هوة واسعة تفصلني عن حياتي السابقة، الحرب نصل شطر حياتنا بحدة، وجعل جزأها السابق نافلًا، لقد سرقت الحرب المعاني كلها، وجعلت من حكاياتنا تفاصيل في لوحتها القاسية. أشعر أحيانًا أني فقدت ذاكرتي التي كانت قبل الحرب، وأسال نفسي، هل كان عندي ذاكرة فعلا قبل هذا الجحيم؟! نعم، قبل هذا الجحيم. ذاكرتنا اليوم مصنوعة من الجحيم المشتعل في بلاد كل ما سعت إليه القليل من الحق في العيش الكريم، فاستحقت عقابها بالموت لأنها تجرأت على قول لا للمزيد من حياة الذل.

أتمنى أن تدوم الهدنة أكثر، لأنها على الأقل توفر دم الضحايا، فلا شيء يَعد بنهاية الحرب المجنونة، ولا بنهاية الطاغية، طالما العالم لا يريد أن يرى الجريمة المدوية هناك.

كنت أريد أن أحدثك عن نفسي، لكن أخباري لا معنى لها، وسط هذا البحر من الألم، إنها ترف فائض لرجل لا يعجبه شيء في هذه الدنيا. لذلك سأكتب لك لاحقا عن أخباري.

تحياتي يا صاحبي.

نيبرو 29/2/2016

سمير

 

مقالات اخرى للكاتب

شعر
5 أبريل 2024
شعر
29 يناير 2024
يوميات
13 سبتمبر 2023
شعر
7 أغسطس 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.