}

إياد شاهين وثقافة الشعر والثورة

ميسون شقير ميسون شقير 4 أبريل 2022
سير إياد شاهين وثقافة الشعر والثورة
(نذير نبعة)
الشاعر الراحل إياد شاهين 


لعل العلاقة الجدلية المتبادلة بين روح الثورة في الشعر، وروح الشعر في الثورة، وروحهما معًا في الحب، هي السر الذي يحيا في مفهوم الثورة كثقافة متمردة نابعة من روح الإنسان الوثابة الرافضة للقهر والظلم، وكثقافة ساعية إلى إيجاد عالم أنبل وأجمل، وفي مفهوم الشعر كثقافة التقاط الدهشة والتحدّي والقدرة على الخلق نفسها التي تمتلكها ثقافة الثورة. نذكر كل هذا ونحن نستعيد روح الثورة لدى الشاعر الشهيد، طبيب الأسنان السوري، إياد شاهين، وروح الشعر التي ظلت تسكنه حتى قتل على يدي طاغية لا يمتلك أي روح، طاغية دمشق الذي اعتقله وعذبه وحاول أن يهشم روحه.
وفي شهر الشعر والثورة، لا يزال الشعر ينعي الشاعر إياد شاهين، الذي رحل يوم 10/7/2013، بعد أن كان قد اختفى قبل 48 ساعة من وفاته، في أحد فروع المخابرات السورية، ثم فارق الكون والشعر تحت التعذيب، مثله مثل كثير من الأدباء السوريين الذين حاولوا فقط أن يحموا سماء سورية من التحنيط، وكأن الموت تحت التعذيب منتهى الشعر، ومنتهى الموت نفسه.
وُلد إياد شاهين في دمشق عام 1967، وأنهى دراسة طب الأسنان في عام 1990 في جامعة دمشق. في عام 2003، صدرت مجموعته اليتيمة "كورتاج"، ثم أعيدت طباعتها في عام 2008، بعد أن لقيت المجموعة احتفاء خاصًا لدى الشعراء والنقاد، بسبب كثافة وعمق وبساطة جملته الشعرية القصيرة التي تصيب القلب.
يقول شاهين في مجموعته اليتيمة:
"كلّ شيء خَذَلَكْ
ولاعة التبغ
حجر النرد
مفتاح بابكْ
كل شيء خذلكْ
الباص
موقف الباص
سيور حذائكْ
كل شيء خذلكْ
دواء الصداع
صنبور المياه
كل شيء خذلكْ
والسمّ الذي تناولته سرًّا
وما قتلكْ".

هنا يلتقي الشعر دائمًا مع ثقافة الثورة، بكل ما في الشعر من كسر للنمطيّ من الكلام، ومن قدرة هائلة على الاكتشاف الذي يجدّد نفسه من نفسه، ومن قدرة عالية ومثيرة على الدخول إلى الأعماق، وإلى الكهوف التي تسكنها، بكل ما فيه من جرأة على مواجهة الذات، وجرأة على مواجهة الآخر، الآخر الذي هو في النهاية جزء حقيقي منا، مهما كان غريبًا أو مختلفًا، أو قريبًا حد التشابه القاتل، ومن جرأة على مواجهة الطبيعة التي نسكن فيها وتسكن فينا، من خلال اكتشاف قوة وسحر وأسرار هذه الطبيعة، ومن خلال أنسنتها والدخول إلى روح عناصرها، وبكل ما في الثورة من مواجهة للمستبد، وللخوف، وللعجز، وللنمطي، ورفض لقولبة الإنسان، ولسجنه، وانتصار لتوثب الذات وألقها بنفسها، ولتوهج الأحلام فيها. بكل هذا يلتقي الشعر والثورة.
يقول شاهين:

(1)
شموع ستجهش ناسية أن تضيء
وامرأة لا تجيء
وصمت بطيء
وموت بطيء

(2)
في دمشق
رأيت نهرًا يسحبه النمل
ونهارًا لا يرى
لأن الشمس في عينيه.

كما تلتقي ثقافة الثورة مع الشعر، مع الطفل الذي يسكن دائمًا روح الشعر، ويجعله في حالة رفض دائم للأوامر المعطاة والملقنة، والذي أيضًا يجعله في حالة تمرد عفوية فطرية ترافق كينونته المشاغبة، وتلتصق دائمًا طبيعته المشاكسة اللعوب بأحلام اليقظة التي يعيشها ذاك الطفل الشاعر، وبألعابه التي دائمًا ما يعيد تشكيلها بنبوءة البراءة فيه، وببراءة الصرخة الأولى، صرخة السقوط الأول لهذا العالم، وصرخة الموت والولادة معًا في لحظات العشق والوصول فيها إلى أبعد سماء، وصرخة الحياة في لحظات المواجهة والتحدي، تلك الصرخة العفوية التي تنبع من كل الكهوف التي في داخلنا حين نثور على ظالمنا. بكل هذا، يصبح الشعر، كثقافة، توأمًا حقيقيًا لثقافة الثورة، الثورة الكاملة غير المجزأة، الثورة التي نقيمها على كل سجوننا، وربما يكون الخوف هو أعلى تلك السجون، الثورة التي تبقى هي وحدها السر الكامن في قوة هذا الوجود، حتى وإن أدى هذا السر إلى غضب قد يجعل أشجارنا فينا تحترق.
ولعل الثورة الكاملة غير المجزأة التي علينا أن نقيمها على كل ما يسجن الروح الفطرية فينا، هي أهم الحوافز التي تجعل الذات البشرية تغلي، وتجعل حالتها الحسية تعلو وتتوقد. هذا التوقد هو سيد شعلة الاكتشاف، أو هو سيد الشعر، هي الثورة الكاملة على كل ما يظلم، أو يذل، الذات البشرية الحرة الوعرة، الذات التي تجد نفسها كاملة أيضًا في نقصها، في تناقضاتها، وفي وعورتها وبريتها، وفي حريتها الكاملة بفرد نفسها على كل الكون، ولأن هذا التحليق الممتع المرعب المذهل المخيف هو أغلى ما تشعر به النفس، سيكون من المستحيل عليها أن تقبل بفقدانه.
من هنا، من التصاق الشعر مع ثقافة الثورة، من شهر آذار الذي هو شهر عيد الشعر في العالم، وهو شهر ثورة السوريين العظيمة، ومن زهور نيسان المباغتة، والقصيرة، والمدهشة، من وجع الربيع حين يكون الشاعر تحت التراب، لأنه عشق الشعر والثورة، نكرر لإياد شاهين ما كتبه بنفسه، وكأنه كان يكتبنا بعد فقده:
مشينا كظل الظلام
كصوت اقترابه
دخلنا من المرآة المغلقة
خرجنا من البسمة الضيقة
على دمعة في شرابه
تركنه حيًا وميتًا
مكبًا على صفحة من غيابه.

ونقول للذي قال يومًا: "لقد نجوت من الحياة بأعجوبة"، وكانت آخر جملة نشرها على صفحته في الفيسبوك: "أخاف إذا متُّ أن تقتليني"، نقول له بعد أحد عشر عامًا من قتل الشعر والحب والثورة فينا: كل عام وأنت والشعر والثورة يا إياد بألف خير.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.