}

القانون والقلب

دارين حوماني دارين حوماني 18 أغسطس 2022
قص القانون والقلب
ماري بالازو، فرنسا

 

إلى كل طفل من الطائفة الشيعية في لبنان حُرم من أمه عند طلاقها (*)

 

لكل إنسان طريقة للوصول إلى السماء، أما أنا فلم أصل بعد على الرغم من أنني غادرت ما هو فوق الأرض، حتى أنني غادرت بيت أمي التي لم أرغب فراقها يومًا. أذكر جيدًا أن أبي قرّر أخذنا إلى بلد ناءٍ بعيدًا عن أمي، وهو يردّد "القانون معي". وفي طريقنا لم يغب عن بالي صدر أمي، كانت تقف حافية أمام الدار وتصرخ باكية بأسمائنا أنا وأخويّ. أذكر أنني رأيتُ يومها فوهة في وسط صدرها، إلى اليسار قليلًا. كنتُ طوال الطريق ممسكًا، بقوة، بقلب أمي، صدّقوا أن قلبها لم يفلت مني أبدًا على طول الطريق. فكرتُ: أبي معه "القانون" وأنا معي "القلب"، لكن هل هذا جيد؟ وتذكرتُ لعبة كنا نلعبها اسمها "الصنم"، خبأتُ قلب أمي تحت سترتي ومثّلتُ أنني الصنم، اعتقد الجميع، حين وصلنا إلى قرية أبي، أنني دمية حتى أنني سمعت أحدهم يقول: وجه هذه الدمية كئيب جدًا، ما أبشعها.. أذكر أنني سمعتُ صراخًا شديدًا يومها ثم رُميتُ في الخارج قرب أكياس نتنة. عندها فكرتُ أن أعود إلى الحركة ولكن بشكل سريع جدًا لعل ذلك يخفّف من تفكيري المتواصل، فوجدتُهم قد أخذوني إلى حديقة الحيوان، سمعتُ أحدهم يقول لأبي: هذا القرد يجب أن يكون بين أمثاله. لكنني لم أكن أريد شيئًا من الحياة سوى أن أعود إلى أمي، فلماذا كانوا يفعلون بي كل ذلك!؟

في حديقة الحيوان كان يمكن لي أن أرى كل الحيوانات الصغار ينامون في أحضان أمهاتهم فيما الآباء ينامون جانبًا، وهذا ما لم يحصل في حديقة الإنسان، تمنيتُ لو خُلقتُ مثلهم، حيوانًا لا يفارق حضن أمه. تذكرتُ قطتنا كيف كانت تحمي أطفالها من والدهم كي لا يؤذيهم. تمنيتُ لو كانت أمي قطة وكنا أطفالها، أليس هذا أفضل من أن أكون بشرًا وأُحرم منها.. كان القانون لا يزال مع أبي، وقلب أمي كان لا يزال تحت سترتي، رائحته كانت لا تزال كما هي، رائحة صدر أمي حين تضمّني، لكن لونه كان قد بدأ يتغير قليلًا، تَغَيُّر اللون هذا أرعبني، وهذا يعني أن الوقت قد بدأ ينفد، وأنه عليّ أن أعود إلى أمي قبل أن تصل إلى السماء. كان التحدّي بالنسبة لي أن أحافظ على لون القلب الذي تحت سترتي. تسلقتُ الجدار وقفزت على إمدادات الكهرباء التي لا تخيفني، فلا حرارة ولا كهرباء فيهاـ وطِرتُ في السماء باحثًا عن صدر أمي الفارغ لأملأه من جديد..

يقرّر البعض الوصول سريعًا إلى السماء فينهون حياتهم بأنفسهم، وبعضهم يقرّر انتظار مشيئة القدر عندما يقرّر القدر التخلص منهم، وبعضهم يتعذّب حتى يصل إلى السماء ويتنقل من سرير مستشفى لسرير آخر، كما حصل مع أمي، فقد قرّر القدر إنهاء حياتها بضربات متقطعة من حين لآخر، وبعد معاناة شديدة قرّرت إنهاء حياتها بنفسها. لكن ثمة ما يؤرقني دومًا وهو ما أظن به ومؤمنٌ به، سؤالي هو: لماذا يموت الطيبون سريعًا ويعيش الأشرار حياة طويلة؟ هل لأنهم أقوى من أن يموتوا بسهولة؟ هل ينتصر الموت سريعًا على القلوب الرقيقة؟ أفكر في أمي الطيبة التي لم تقوَ على فراقنا، أخبرتني فيما بعد أنها استغلت في غيابي كل قماش في البيت لتخيط دمى وكانت تخيط على قلب كل دمية جزءًا من جلدها حتى لا تنام الدمى وحيدة بلا حنان أم. طرتُ فوق الأرض، تمكنتُ من رؤية الكثير من البشر من فوق، كان يمكنني أن أرى جيّدًا أن ثمة فجوات في صدورهم، فراغ يشبه فراغ أمي، آه، كانوا حقًا بلا قلوب! هل فارقوا أطفالهم كما حدث مع أمي أم أنهم ولدوا بلا قلب؟ وهل لهذا علاقة بالحب والبغض، بالحنان والقسوة؟

وبينما أنا أطير سمعتُ صوتًا يقول لي: هناك صنفان من البشر. صنف يخلعون قلوبهم بأيديهم، وصنف آخر سيجد دومًا في الحياة من يقتلع له قلبه. كان أبي من الصنف الأول، والدليل على ذلك أنني رأيته مليًا، من فوق، ممسكًا بالقانون على عتبة بيته مع أخويّ وامرأة وأطفال آخرين، فيما كانت أمي من الصنف الثاني رغم أني أعدتُ لها قلبها حيث التقينا في المكان نفسه عند أولئك الذين يقرّرون الوصول سريعًا إلى السماء.


*ينص القضاء اللبناني على أن يتبع الشعب المحاكم الشرعية في قضايا الأحوال الشخصية (زواج وطلاق)، ولكل طائفة ومذهب محكمتهما الخاصة. تنص المحكمة الشرعية الجعفرية على أنه عند حدوث الطلاق تكون حضانة الأولاد للأب، للصبي من عمر سنتين وللبنت من عمر 7 سنين، على أنه يحق للأم أن ترى أولادها 24 ساعة في الأسبوع فقط.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.