}

العيِّنة

المصطفى نجار 4 أكتوبر 2024
قص العيِّنة
(فاطمة عرارجي)
السماء تحدِّق بعينها الصفراء والزهور تنفث غبارها في الهواء. أنفي يسيل وعيناي تدمعان ووجهي يصارع العطاس. أتأكد من وجود العيِّنة في جيبي. ترددتُ في جمعها إلى أن أقنعتُ نفسي بفعل ذلك في المنزل لا في المشفى تحت أعين الممرضات. ما إن أتيقن من ملامستها حتى أسحب يدي. أخشى أن تنتقل حرارة جسدي إليها فتفسد. أفرُك يمناي بيسراي كي لا تعاود الانسلال إلى الجيب كأفعى تتفقد بيضها. أشعر بحبات العرق تنزلق فوق راحتيَّ رغم اعتدال شهر آذار. أواصل فركهما وأرسم في رأسي مخططًا للوصول إلى المشفى قبل فساد العيِّنة.
***

طلبتِ الممرضةُ - من دون أن ترفع عينيها عن استمارتي- أن أختار عبوةً من سلَّة أمامها وأن أتجه إلى «الغرفة الخاصة». ثم تنحنحتْ ونظرتْ إليَّ قائلةً: «ثمة مجلات... خذ وقتك». وذكَّرتني بأن أدوِّن اسمي الكامل وتاريخ ميلادي على العلبة قبل إعادتها «وإلا مصيرها الإتلاف».
***

يخرجني من أفكاري صوت اقتراب الحافلة من موقف الباصات. أمامي سيدة تدفع عربة أطفال. أعرضُ عليها المساعدة فتبتسم ممتنةً. أُتَمْتِمُ بما معناه «العفو» وأصعدُ وراءها. تتحرك الحافلة بعنف وأكاد أسقط. أستعيد توازني وأتلمَّس جيبي للاطمئنان على العيِّنة. أترك السيدة تختار مقعدًا لها في الطبقة السفلية بينما أصعد إلى الطبقة العلوية لأبتعد عن الضوضاء التي يحدثها بكاء الطفل. في الأعلى أكتشف أن المقاعد مشغولة والضجيج يُصمُّ الآذان. أطفال في رحلة مدرسية على ما يبدو. أهبط إلى الطبقة السفلية وأختار مقعدًا بجانب سيدة عجوز تجلس بموازاة صاحبة العربة. تحاول لفت انتباه الطفل. تطقطق لسانها وتخفي وجهها بكفيها وتكشف عنه والطفل يضحك.
***

في عطلة نهاية الأسبوع تشاجرنا.
«كلهم لديهم أطفال إلا نحن».
لطالما افترضتُ أنها راضية بحياتنا. صحيح أنها تتأثر حين رؤية أطفال أصدقائنا، لكنني لم أتصوّر قطّ أن الأمومة من أولوياتها.
انتهى الشجار بأن غادرتِ الشقة وصفعتِ الباب وراءها. كان الوقت وقت مَغِيبٍ والشمس تحزِّم حقائبها. جلستُ أراقب تبدُّل لون الجدران من البرتقالي إلى الأحمر فالقرمزي.
عادت والكحل يلطخ وجنتيها. نظرتْ إليَّ وخاطبتني بنبرة حازمة: «غدًا صباحًا تُجري كل التحاليل المطلوبة».
سمعتُ بكاءها تلك الليلة.
***        

أنزل من الباص على مقربة من المشفى. أرفع رأسي نحو الطبقة العلوية فيمدُّ لي أحد الأطفال لسانه مشاكسًا. أتذكر العبوة فأتلمَّس جيبي. أسيرُ نحو وجهتي على عجل. أعطِس وألعن الأزهار التي قررت أن تتكاثر في هذا اليوم بالذات.
أعبر الباب الرئيسي للمشفى ثم أتَّبِع لوحة الاتجاهات نحو مختبر التحاليل. لا أرى الممرضة عند طاولة الاستقبال. لكني أجد صندوقًا كُتِبَ عليه «ضَعِ العيِّنة هنا». أُقلِّبُ العبوة بين يديَّ لأتأكد أنها لم تفسد. «لكن أنَّى لي معرفة ذلك؟!» أضعها في الصندوق وأعود من حيث أتيت.
يأتي الباص في موعده. أصعد إلى الطبقة العلوية. هذه المرة هادئة وشبه خالية. أشعر أن أعراض الحساسية قد بدأت تهدأ. أهنئ نفسي على نجاحي في إيصال العينة. ثم أغمض عينيَّ وأجلس مسترخيًا لولا إدراكي أنني قد تركت العيِّنة بلا اسم وتاريخ ميلاد…

مقالات اخرى للكاتب

قص
4 أكتوبر 2024
قص
7 يوليه 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.