كلُّنا نخاف من التقدُّم في السن، هذا أمر طبيعي، أشاهد أحيانًا شرائط مصوَّرة لسيِّدات تجاوزن الثمانين ثمَّ أبدأ بتخيُّل شكلي لو عشت حتى الثمانين، وأعترف أنَّني أرتعب من الخوف ممَّا سأصبح عليه. ليس فقط من تغيُّر شكلي وترهُّل جسدي وازدياد التجاعيد في وجهي، إنَّما أيضًا من أن أكون عُرضة للتنمُّر في عالم يزداد تنمُّره ضدَّ المسنِّين، وعُرضة للإهمال في عالم تزداد فردانيَّته يومًا بعد يوم، وعُرضة للتجاهل، وعُرضة لأن أكون وحيدة تمامًا أو مُلقاة في دار عجزة أو عاجزة وأحتاج لمن يعتني بي أو ينفق عليَّ. يا إلهي! ما من مصير أشدّ قسوة من الاحتياج، من أن تصبح امرأة، عاشت حياتها كلَّها مستقلَّة، عُرضة للاحتياج. يرعبني هذا جدًّا، يرعبني أن أتقدَّم في السن ولا أتمكَّن من الإنفاق على نفسي ولا أجد بيتًا يؤوي شيخوختي؛ لكنَّ هذا الخوف هو خوف وجودي وكينوني، لن تنفع معه حقن البوتوكس والفيلر ولا مشرط طبيب التجميل. ليس فقط أنَّ العطَّار لا يصلح ما أفسده الدهر، فالدهر لا يفسد الملامح فقط، هو يفسد القدرة على الفعل والإنتاج، وفي حالتي ربَّما يفسد القدرة على الكتابة.
ماذا أفعل بحياتي إن توقَّفت عن الكتابة أنا التي بنيت عالمي كلَّه على الكتابة! كانت الكتابة لي هويَّة، فحين فقدت الوطن وفقدت الانتماء إلى فكرته أو إلى أيَّة فكرة أخرى بعد هزيمة حلم الثورة، لم يُنجدني غير الكتابة التي تحوَّلت سريعًا إلى بيانات شخصيَّة تخصُّني؛ كيف ستكون حالتي من دونها: شجرة تقترب من اليباس في وسط صحراء. قد تقولون أنَّ تلك هي فكرة معنويَّة أو شعريَّة، فعند التقدُّم في السن يصبح كلُّ شيء بلا معنى، حتى البيانات الشخصيَّة للكائن، ذلك أنَّ الموت سوف يكون المرافق الشخصي للمسنّ. ومع الموت سوف ينتهي كلُّ شيء، سوف ينتهي الإدراك، العالم موجود لأنَّنا ندركه وحين نموت ينتهي العالم. نهاية العالم إذًا تحدث كلَّ لحظة، كلَّما مات أحد ما ينتهي العالم له، من يتحدَّثون عن نهاية العالم يومًا ما لا ينتبهون لهذا، ربَّما لأنَّ الكائن يرفض فكرة الموت وحيدًا بينما العالم مستمر، هو يضع نهاية جماعيَّة، يموت فيها كلُّ شيء دفعة واحدة، لكنَّ الموت الفردي هو في حقيقته نهاية كلِّ شيء.
أتذكَّر حين استفقت من تخدير طويل بعد عمليَّة جراحيَّة خطيرة نشر فيها الطبيب عظم صدري بمنشار كهربائي واستخرج قلبي وشقَّ ساقي واستخرج منها شريانًا وضعه مكان آخر عند القلب، حين استيقظت لم أتذكَّر ماذا حدث ولم أعرف كم من الوقت مرَّ عليَّ ولا ماذا حدث خلال ذلك الوقت لا لي ولا للعالم. كان إدراكي مخدَّرًا، كان ميتًا موتًا مؤقَّتًا، كان العالم قد انتهى خلال ثلاثٍ وعشرين ساعة، لو أنَّني لم أستيقظ لما كان شيئًا سيتغيَّر.
أليس غريبًا أن يؤرِّقني توقُّفي عن الكتابة وأنا التي اختبرت توقُّف الحياة؟! لكن ثمَّة ضلع عملي في مثلَّث أفكاري ذي الزوايا الحادَّة والجارحة: الكتابة هي مصدر دخلي الوحيد، من دونها سأفقد شريان العيش في عالم التوحُّش الرأسمالي الذي نعيش فيه. حين أتخيَّل نفسي امرأة مسنَّة عاجزة عن دفع أجرة بيت ومهدَّدة بالتشرُّد إذ لا وطن ولا بيت لها، أُصاب بالرعب وأحاول البحث عن كلِّ ما يمكنه أن يطيل في حياة أعضائي الحيويَّة ومرونتها. أفكِّر عندها بالذهاب إلى عيادة التجميل لوضع رتوش على وجهي وجسدي تجعلني أقتنع أنَّني ما زلت بكامل طاقتي على الحياة وأنا أقابل مرآتي كلَّ ساعة تقريبًا.
لماذا إذًا ألوم الممثِّلات والمغنِّيات ومن في حكمهنَّ على ما يفعلن في وجوههن؟ هنَّ مثلي أيضًا يخشين أنَّ تقدُّمهنَّ في السن سوف ينحِّيهنَّ جانبًا. سوف يجعلهنَّ منبوذات في مهنهنَّ، ما يفعلنه هو محاولات إثبات متواصلة لأنفسهنَّ وللآخرين أنَّهنَّ ما زلن يتمتَّعن بالمواصفات المطلوبة للاستمرار. يا لبؤس حياة النساء، لا يحتاج الرجال لهذا، حتى الرجال الذين يعملون في مهن فنِّية كالتمثيل والغناء وما في حكمهم، لا أحد ينحِّيهم نهائيًّا، قد يصبحون في الصفوف التالية لكنَّهم لا يقلقهم كثيرًا التقدُّم في السن، لن يتنمَّر عليهم أحد، التنمُّر تتعرَّض له النساء فقط، خصوصًا حين يتقدَّمن في السن، أقرأ أحيانًا على وسائل التواصل ما يكتبه معلِّقون على صور ممثِّلات عظيمات كصوفيا لورين مثلًا وأدهش من مقدار التنمُّر عليها من البعض، بينما ممثِّل عظيم مثل آل باتشينو تُنشر صور له وهو عجوز برفقة شابَّة حملت منه مؤخَّرًا، التعليقات كلُّها إعجاب به! لماذا إذًا ألوم نساء عالم الفن على رغبتهنَّ بالبقاء شابَّات وجميلات ومحاولاتهنَّ الحثيثة لذلك؟!
لكنَّ الجمال نسبي، أو هكذا يرى الفلاسفة، فالأحكام الجماليَّة تعتمد على الذوق الشخصي الذي يختلف من شخص لآخر، فما يراه شخص ما جميلًا قد لا يكون كذلك بالنسبة لشخص آخر، هذا ما يراه مثلًا الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، وهو ما أوافقه عليه جدًّا، فالجمال يعتمد على إدراكنا الشخصي له، أمَّا ما يقال عن خصائصه الموضوعيَّة فهذه باتت رهن السوق، رهن ما تريده شركات إنتاج التسليع. أعرف مثلًا أنَّ إحدى القنوات التلفزيونيَّة العربيَّة الشهيرة لديها موظَّفة اختصاصها هو وضع مقاييس للجمال الذي تعتمده تلك القناة المنتجة للممثِّلات اللاتي تتعاون معهنَّ، ثمَّة وزن معيَّن لا يمكن تجاوزه، وثمَّة معايير لشكل الخدود في الوجه ولشكل الشفتين والأنف والذقن ولون عدسات العيون؛ ثمَّة أيضًا درجة معيَّنة من التسطيح يجب أن تحدث للوجوه بحيث تصبح خالية تمامًا من التعبير، هكذا تبدو جميع الممثِّلات متشابهات، لا يمكن تمييز واحدة عن الأخرى. حين أرى تجمُّعًا لممثِّلات ونجمات العرب في مهرجان ما، لا أستطيع تمييزهنَّ بعضهنَّ عن بعض، لديهنَّ جميعًا البروفايل ذاته، هي بروفايلات مثاليَّة بخصائص محدَّدة لكنَّها بلا أي روح أو تمايز، هي نسخ مكرَّرة باختلافات لا تكاد تُلحظ أو تُلمح.
هذا ليس تجميلًا، هو ليس تشويهًا أيضًا، لكنَّ إدراكي الشخصي للجمال يجعلني أراه في الروح التي تظهر في العيون الحيَّة ذات اللون الحقيقي، وفي التعابير وانفعالات الحزن والفرح والدهشة والألم وهو ما تمحوه تمامًا حقن البوتوكس والفيلر، وكأنَّها اختُرعت لجعل النساء يفقدن القدرة على التعبير. حين نغضب يظهر الغضب على ملامح وجوهنا، تمتصُّ خلايا وجوهنا الكثير من شحنات الغضب هذه، مع عدم قدرتنا على إظهاره كانفعال في الملامح سوف تمتصُّه أعضاء الجسد الداخليَّة؛ الغضب المختزن سبب رئيسي للأمراض الخطيرة. لكن هل هذا يمكنه أن يوقف أو يحدَّ قليلًا من هذا السباق الاستهلاكي العبودي؟ تخضع النساء لعبوديَّة الجمال في زمننا الحالي، لكنَّه ليس الجمال الحي، بل الجمال الشمعي الميت الذي يبدو كدمية في سوق الاستهلاك العالمي؛ تخضع النساء في زمننا الحالي لعبوديَّة الموت في سعيهنَّ لحياة تُبعد عنهنَّ شبح الموت. هل من مفارقة تُحدثها مخاوف التقدُّم في السن أكثر من هذه المفارقة التي ابتكرها عالم ما بعد الحداثة الذي زاد في توحُّش رأس المال وتوحُّش نزعة الاستهلاك؟