يحدث أن ننظر (صديقي تيسير وأنا) إلى دونالد ترامب من زاوية مختلفة بعض الشيء، عن كونه نصف مجنون، ومناوئًا شرسًا للاجئين والمهاجرين على خلفية عنصرية، وجانحًا إلى شخصنة موقعه في البيت الأبيض. فالرجل رغم هوسه الظاهر بالسلطة والمجد السياسي، وفجوره في الخصومة مع معارضيه ومنافسيه، إلا أنه يتوافر على مزايا خفيّة قد لا يدركها هو نفسه، فإذ يحرص على الظهور بمظهر مُخلّص للأمة وللبلاد وصاحب رسالة مزعومة يعمل على تحقيقها بكل السبل، إلا أنه ينجح في كسر الهالة السميكة عن الساسة والسياسيين في بلده ممّن يسمّيهم النخبة الفاسدة في واشنطن، كما في كل مكان، وهو ما يثير مشاعر الارتياح لدى كثرة كاثرة في عالمنا من ضحايا الساسة وأنانياتهم وغرورهم، وتلاعبهم بالوقائع والعقول والكلمات، وتعسّفهم في ممارسة السلطة، وكل ذلك تحت أقنعة من الوقار والجدّية المفرطة.
حقًا إن المرء يصادف فوضويين هنا وهناك لدى التيارات السياسية والفكرية، ممن يختارون الهامش متراسًا لهم، غير أن ترامب ينجح في منح نفسه حق التصرف بفوضوية وحرمان الغير من توقع تصرفاته، فيما هو يتسنّم الموقع الأعلى في الدولة العظمى مع ازدراء للهامش، وهناك بطبيعة الحال مستويات من بنُية الدولة غير مسموح له التعامل معها بمزاجية، غير أن ترامب يسعى إلى اهتبال كل فرصة وكل سانحة متاحة لممارسة فوضيته، ومن ذلك، فهو يقوم باقالة المسؤولين بمنشورات له على منصة التواصل، وليس عبر الأقنية البيروقراطية المعهودة، ولا يكتفي بهذا، بل قد يوبّخ المسؤول المُقال علنًا. ليس ذلك السلوك مثارًا للإعجاب بالضرورة إذ ينطوي على قسوة غير لائقة، بيد أنه يكسر هيبة الساسة والسياسة، ويجعلها حتى في حلقاتها العليا موضوعًا للتندّر، من غير أن يتعلق الأمر بمسرح كوميدي أو كتابات ساخرة، بل بممارسات سلطوية من طرف الرئيس في البلد الأكثر تقدّمًا.
لا يسعى ترامب في واقع حاله إلى انتزاع احترام الآخرين له، من الطبيعي أن يشعر بالرضى حين يحظى بالاحترام، بيد أن غايته تقع في مكان آخر... وتتمثل في نيل محبة الآخرين سواء اتفقوا معه أم اختلفوا، وهو في ذلك يناظر نجوم الرياضة والغناء والسينما، الرئيس المحبوب من طرف مؤيديه ومعارضيه، خلافًا للرئيس الراحل كيم إيل سونغ الذي أجمع الشعب على محبته، كما كانت تصفه أدبيات كوريا الشمالية. ولدى الرجل ترامب فكرة بسيطة، وهي أنه في عالم السياسة سوف تجد مؤيدين ومعارضين لك، غير أن المهم هو أن تفوز بقبولهم لك وأن تكون مركز جاذبية لهم. وها هو قد فاز بأصوات سائر الشرائح الاجتماعية والعرقية والدينية، باستثناء أصوات النخب في واشنطن ونيويورك ومدن أخرى. هذا، رغم أن الرجل ليس له سجل في العمل الإنساني والخيري. ويروي تيسير أنه شاهد فيديو يظهر فيه ترامب متوجّهًا إلى مناسبة يتم فيها تقديم تبرعات لكنيسة، وقد عمد قبل وصوله إلى المكان إلى التوقف لهنيهات، أخرج خلالها أوراقًا نقدية من جيوبه، وقام بفرزها على عجل، مُعيدًا إلى جيبه الأوراق الأعلى قيمة، ومحتفظًا بقبضة يده بالأوراق الأقل قيمة كي يتبرع بها، وقد فعل. وقد رويتُ له من جانبي أنه بعد جلسة تحقيق قصيرة معه لم يجد المحقّقون فيها سببًا قضائيًا للتحفظ عليه، فقد انتقل إثر خروجه للاحتفال بهذه المناسبة، وتوجّه إلى مشرب ومطعم عادي يغُصّ بالزبائن، وقد شرب واقفًا مع حاشيته نخب براءته وسط تصفيق الحاضرين، فما كان منه إلا أن ردّ التحية لجميع الزبائن بإعلانه تحمّل فواتير مأكولاتهم ومشروباتهم، وغادر إثر ذلك، فيما أفاد مدير المطعم بعد مغادرة الزبون المُميّز بأن ترامب قد سدّد حسابه فقط... مكتفيًا كما هو بادٍ بتمتيعهم بحُلم من يدفع عنهم فواتيرهم، وأنه قد أضفى الأنس والأهمية على المكان.
أجل هو هذا، إذ ليست له خلفية فنية كأن يكون عمل في حقل فني أو عرف عنه تعلّقه بالفنون، وإذا كان يميل إلى المرح فإنه مرح مشوب في الغالب بالقسوة والفجاجة، مما يرضي صاحبه ولا يؤنس سواه، ولا يتمتع بصفة العصامية فقد بدأ حياته ثريًا بالوراثة، وليس له من تعلّق بالرياضة سوى برياضة الغولف التي ترتبط بالأثرياء وليس بعامّة الناس، إلا أنه مع كل ذلك، وكما أظهرت نتائج الانتخابات، نال قبولًا من طرف أزيد من 72 مليون ناخب متفوقًا على منافسته كامالا هاريس بستة ملايين صوت. فهو نموذج الأميركي الذي يشم الثروات في الهواء وينهض لالتقاطها، ويشقّ طريقه إلى النجاح غير عابئ بشيء سوى الحدّ الأدنى من القواعد والقوانين، واضعًا تركيزه كله وعلى مدار الساعة على بلوغ هدفه، مع طرح كل سموّ إنساني جانبًا، فليس في سيرة الرجل ما ينبئ عن أدنى إحساس بالغيرية: بالانشغال بالآخرين والاهتمام بهم ومدّ يد العون لهم، حتى للأقربين إليه. وبالنسبة له فإن الفشل مثله مثل النجاح شأن فردي خالص ولا دخل للظروف العامة أو البيئة الاجتماعية في النتيجة. وبذلك فإنه يشاطر الرأسماليين التقليديين قناعاتهم مع لمساته الشخصية.
والغرض مما تقدّم الخلوص إلى أن دونالد ترامب شخص عادي، على درجة من الثراء في بلاد تعجّ بالأثرياء وبعضهم فاحش الثراء، كما بالمعوزين ومنهم من لا يجد قوت يومه، مفرط في عاديّته. وإذا كان هناك من سحر في شخصه فهو كونه طمح إلى المنصب الأعلى رغم افتقاره إلى كفاءات عقلية وخبرات إدارية وإلى التماسك النفسي وإلى عائلة سياسية. لقد جرؤ على الطموح إلى المنصب الأعلى مردّدًا على الدوم "أنا الأفضل، أنا الأجمل". حتى أنه وصف نفسه بأنه أجمل من كامالا هاريس. فيما امتنع عن هذا الطموح كثيرون من نظرائه تهيّبًا أو انصرافًا إلى مراكمة الثروات. علمًا أن عشقه للسلطة جاء متأخرًا بعد أن بلغ عتبة السبعينات من عمره... وحين اكتشف أن حزبه الجمهوري لم يعد يتوافر على شخصيات قيادية وكانت النسخة الأخيرة من هؤلاء جورج دبليو بوش الأكثر عادية، والفاقد للكاريزما، فقد تقدّم للمنافسة ولم يجد من ينافسه على هذه الحلبة. وانتقل بعدئذ للمنافسة الأكبر فصادف هيلاري كلينتون وكامالا هاريس في مجتمع ما زال رغم كل تقدّمه ينحاز للذكورة. ووجد بايدن الضعيف المتردّد من جهة، والمتصلب في صهيونيته وعنصريته من جهة ثانية.
وعليه، لكم يبدو هذا الرجل الذي سوف يُلازم البشرية لأربعة أعوام إذا امتد به الأجل... كم يبدو كمن خرج من إحدى الروايات المنسية، أو يستعد لدخوله بطلًا على إحداها... ولو حدث ذلك، فلن يبدي أي استعداد لقراءتها، إذ ينفر أشد النفور من الفن المكتوب والمقروء، وينجذب فحسب إلى ما هو مرئي ومسموع.