هذا ما يحصل في بلد بلا اسم، يبلغ سكّانه العشرة ملايين. ينتظرون اليوم تلو الآخر، بأن يأتي الموت ويحصد من يختاره إلى جواره ويريح الأحياء. ثمّ أيام وأشهر... حتى تبلغ الفوضى منتهاها، حيث يفيض عدد الشيوخ المرضى الواقفين على أبواب الموت، والذين كان من الطبيعي أن يموتوا.
يُصاب كل من له صلة بالموت بأزمة اقتصاديّة حادّة. وملايين من المواطنين عاطلون عن العمل. هذا غير الأعباء الاقتصاديّة الناجمة عن الأحياء العجزة الذين لا ينتجون، بل يكلّفون الخزينة طبابة وعناية ومأكلا وملبسا وما شابه.
وزير الصحّة يخرج إلى الإعلام بمؤتمر صحافي، ويطمئن الجميع بأن "لا داعي للقلق". فيسأله صحافي بسخرية: "لا داعي للقلق...؟ بالأمس كان الناس يموتون ولم يأتِ ببال أحد القول بأنّ في الأمر ما يقلق". فيفهم الوزير ويجيبه: "الموت لا يقلق إلا في حالات خاصّة مثل الحروب والأوبئة".
لكنّ هذه الكلمات "المسؤولة" لا تستطيع أن تختبئ طويلا خلف إصبعها: المستشفيات أوّلا، حيث يزدحم العجزة أصحاب الحياة الأبديّة، كما لو كانوا في يوم حشر. لا سرير ولا دواء ولا أطباء ولا ممرّضات يكفون للسهر عليهم. وعندما يكون عدد هؤلاء خارج قدرة هذه المستشفيات عن استقبالهم، حتى وهم منتشرون في الممرّات وعلى السلالم... يكون الحلّ بإعادتهم إلى أهلهم، حيث يعتني بهم أبناؤهم الذين قد شاخوا، ويحتاجون بدورهم إلى رعاية.
ومثل المستشفيات كذلك "بيوت التقاعد"، حيث يمضي عادةً كبار السنّ نهاية حياتهم. هؤلاء سيتضاعفون عددا، ويحتشدون الآن في الممرّات، كما لو كانوا لاجئين أو شحّاذين. واحتجاج شديد لموظّفي تلك البيوت: "من سيتولّى أمر هؤلاء الذين يرتفع عددهم يوما بعد آخر.... بعدما نكون نحن قد وصلنا إلى هذا العجز؟ وقتها، أيّ بيوت ستستقبلنا؟ أيّ أطبّاء سيهتمّون بنا؟".
ثمّ طبعا كلّ المشتغلين بكلّ ما يتوجّبه الموت من طقوس معروفة. وقد ذرفوا دموعا حارّة على ضياع مصدر رزقهم. كلّ شيء توقّف عندهم، من التابوت إلى الصلاة، إلى الدفن... هذه الفئة من المتضرّرين وجدت لنفسها مخرجا. بأن يصدر سيادة الوزير مرسوما يفرض قانونا إلزاميا بدفن الحيوانات الأليفة التي قضت بحادث أو مرض، وبمثل الطقوس البشريّة المعتمدة؛ ومن هذه الحيوانات المألوفة، القطّ والعصفور الكناري... وحتى فيل السيرك أو تمساح الأحواض.
وحصل السجال بين المثقّفين والفلاسفة. انقسموا كما يفعلون عادةً: بين متفائلين ومتشائمين بغياب الموت عن الساحة. أمّا الكنيسة فبالعكس: وقف كلّ أفرادها موقف الرجل الواحد. وحّدتهم قوّة عقيدتهم القائلة بأنّ الموت لا يمكن أن يغيب، لا يمكن القبول بغيابه. وإلّا قُضي على انبعاث الروح في السماء، المملكة الأخيرة، وعلى الإيمان بوجود الله.
هذا غير إفلاس شركات التأمين، التي بدورها حاولت أن تجد حلّا لملء خزينتها. فضلا عن علماء الديموغرافيا، الذين تراكمت ملفّاتهم فوق ما يستطيعون أن يسجّلوا ويجمعوا ويفرزوا ويحفظوا.
وبلغت الأزمة حدّا، انوجدت معه حركة جديدة، تحمل كلّ سمات المافيا. أي أنّها سرّيّة غير قانونيّة.
الذين يرزحون تحت عبء أب أو أمّ أو جدّ أو جدّة... غير القادرين على الموت. والذين يعانون من أكلاف العناية بهم تفوق قدراتهم على التحمّل.... يأتي رجل المافيا في الليل، بغفلة من الشرطة، ومقابل مبلغ من المال، يحمل العاجز المرشّح للموت على ظهره، ويمشي نحو أقرب الحدود مع البلد المجاور: "مترا واحدا قبل هذه الحدود يكون العاجز حيّا، ومترا واحدا من بعدها يكون ميتا". ويكونون بذلك قد أنجزوا مرحلة من المهمّة. ليعودوا ويحملوا الجثّة على ظهرهم ويسلّموها إلى أهله. وهؤلاء سعداء بالإنجاز، يدفنون عزيزهم بالسرّ أيضا.
عمليّات المافيا هذه نجحت ولاقت رواجا، ولم تستطع الشرطة القبض على أيّ فرد منها. ولكنّها أيضاً أقلقت الدول المجاورة، التي أرسلت مبعوثين يحتجّون على خرق سيادتها وعلى تحويلها إلى أرض موت حتمي.
هذا هو القسم الأوّل من رواية البرتغالي جوزيه ساراماغو: "تقطّعات الموت".
أمّا القسم الثاني، فلا يقلّ غرابة. ولكنّه يوحي وكأنّه مخرج "عاطفي، رومانسي"، لأديب يسخر من الموت، ولكنّه لا يسخر من الحياة. ويكون الموت في هذا القسم امرأة، قرّرت التوقّف عن لعبة الحياة الخالدة. وأن يكون عملها أكثر "منهجيّة": ترسل إلى كلّ مرشّح للموت رسالة بغلاف ليلكي، تنذره فيها بأنّه سيموت بعد أسبوع. واحدة من الرسالات تعود إليها مرّتين. ما يثير فضولها: من هو هذا الآدمي العاصي على تبلّغ رسالتها؟ فتقرّر أن تتعرّف عليه. ويكون شابّا موسيقيّا هادئا وحيدا. تغرم به على الفور وتتحوّل إلى شابّة جميلة. ويكون الحبّ... للقول ربّما أنّ آلهة الحبّ، تتغلّب دائما على آلهة الموت.
ألّف ساراماغو هذه الرواية بعدما بلغ الثالثة والثمانين. أي في عمر، إمّا يكون المرء ميتا، أو منتظرا الموت، أو متحسّرا على مجد سابق، أو جمال، أو فاقدا لواحدة من ملَكاته، أو محاطا بعائلة تحبّه تشفق عليه، ولكنّها أيضا تنتظر رحيله.
وبأيّة لهجة، بأيّة نبرة يؤلّف ساراماغو هذه الرواية؟ بسخرية عالية، بخيال لا ينبض، لا ينتهي. بل يتعب قرّاءه، لشدّة ما يستثير دواخلهم، ويدفعهم إلى النبش في دهاليزه الخضراء والسوداء، المضحكة والمبكية، والباردة والدافئة. خفّة الروح دون عبثيّتها، جدّيّة العقل دون تفجّعه.
والأرجح أنّ ساراماغو يقدّم في هذا الكتاب، رأيه الخاص عن فرع علمي مزدهر، يرفع من نسبة الحياة، أو طول العمر، ويجد كلّ تقدّم فيه تقدّما للبشريّة. مع أرقام تؤكّد على صحّة تقديراته، من أنّ هذه البشريّة مقبلة على إطالة عمر أفرادها، ومن أنّ نسبتهم ستتجاوز في القرون المقبلة المائة والخمسين... إلى ما هنالك.
وإذا وضعنا جانبًا الفرق الكبير بين مجتمعات غنيّة وأخرى فقيرة مضطربة، أو إذا افترضنا بأنّ حظوظ البشر كلّهم متساوية بالعمر، فإنّ هذا الاتّجاه العلمي خلق قلقًا عند ساراماغو، يكاد يبزغ في الوعي العام. من أنّه إذا كان العيش الأبدي أملاً ورجاءً، فإنّ الحياة الأبديّة خوف وفوضى.
هذا قلق صاغه ساراماغو بعباراته الساخرة المعهودة: هل يكون الموت تحرّرًا من الحياة؟ هل تكون الحياة الخالدة قصاصًا؟ هل تتحوّل الأحلام إلى ديستوبيا؟ هل يجعلنا الموت نقدّر نِعَم الحياة؟ وهل يكون الحبّ بهذا الجبروت؟ بأنّه يستطيع أن يكون منافسًا للموت؟
(*) عاش ساراماغو أربع سنوات أخرى بعد صدور هذه الرواية. وُلد في البرتغال عام 1922. مؤلّفاته عديدة، منها: "الإنجيل حسب يسوع المسيح"، "قايين"، "الكهف"، و"كلّ الكلمات". نال جائزة نوبل عام 1998.