}

الحب الطفوليّ

حميد عقبي 22 نوفمبر 2024
قص الحب الطفوليّ
(هاشم علي)
[فصل من رواية "خمسة/خمسة"]

الحبُّ الطفولي لا يعترفُ بالفوارقِ بين بنت الشيخ وولد الرعوي

تدور أشياءُ كثيرةٌ في ذهنِ سعيدٍ، يدهُ تمسكُ يدَ ملاكٍ، يشعرُ بنعومةِ هذه اليدِ، يلفحُه عطرُ "لانكوم" الذي تحرصُ ملاك على اختيارهِ ووضعهِ، لا تعجبُها العطورُ الفوضويةُ العاصفةُ، الهدوءُ في هذا العطرِ لا يعني ضعفهُ بالنسبةِ لها، بل يدلُ على قوتهِ، يصمدُ لفترةٍ أطولَ ويناسبُ رقتها، تشعرُ كأنها فراشةٌ ملكيةٌ وياسمينةٌ لا تذبلُ، خاصةً في مثلِ هذه اللحظاتِ عندما يمسكُ سعيدٌ بيدِها وهما على الرصيفِ، ينتظرانِ إشارةَ المرورِ للإنتقال إلى الجهةِ الأخرى.
شارعُ الشانزليزيه ليس كأيِّ شارعٍ آخرَ في العالمِ، هنا في هذه اللحظةِ تنظرُ ملاك إلى ما حولَها، تقبضُ بيدِها على يدِ سعيدٍ عندما تشعرُ بأن قبضتَه على يدِها تضعفُ، كأنها تتمنى ألا تنتهي أيامُها القليلةُ المتبقيةُ في باريسَ، مرت خمسُ سنواتٍ ولم تفترقْ عن سعيدٍ ولو ليومٍ واحدٍ، رفضت عائلتُها أن تمددَ إقامتَها لعدةِ أشهرٍ بعد نيلِها شهادةَ الماجستيرِ في هندسةِ الديكورِ الداخلي، للتو أتمت تعميدَ شهاداتِ التخرجِ وعليها العودةُ إلى القاهرةِ حيث يقيمُ والدها منذ بداية الحرب في اليمنِ.
يمضي بعضُ الوقتِ والإشارةُ لا تزالُ حمراءَ، يلتفتُ سعيدٌ إلى ملاكٍ، يتبادلانِ نظراتِ القلقِ بسببِ استمرارِ الإشارةِ الحمراءِ وأسبابٍ أخرى كثيرةٍ، تحدقُ ملاكٌ بالإشارةِ، كذلك يشتركانِ في القلقِ وما يخفيه القدرُ عنهما وما يخفيه أيضًا لهما ولهذه العلاقةِ، يمضي المزيدُ من الوقتِ والإشارةُ لا تزالُ بنفسِ اللونِ الأحمرِ.
تشعرُ بهزةٍ خفيفةٍ، إنها يدُ سعيدٍ تناديها للتحركِ، فتحت الإشارةُ باللونِ الأخضرِ، تحركتْ مبتسمةً، التفتتْ إليه تتأملُ وجههُ الأسمرَ المتوردَ بالحلمِ، هي بيضاءُ كالثلجِ وكجسدِ دزدمونةَ كما وصفها عطيلُ ليلةَ موتِها، بيضاءُ كالثلجِ، عذبةٌ كالماءِ، أنيقةٌ كالندى، فواحةٌ بعطرِ الياسمينِ، هذه العباراتُ الأربعُ يكررُها أيضًا سعيدٌ لها ويزيدُ عباراتٍ كثيرةً فيها من المدحِ والتغزلِ العفيفِ.
أخيرًا، ينجحانِ في عبورِ الشارعِ والوصولِ بسلامٍ إلى الضفةِ الثانيةِ، يتابعانِ سيرَهما من أجلِ الوصولِ إلى مكانٍ هادئٍ، كأنهما قاما بتأخيرِ الحديثِ المهمِّ حولَ هذه العلاقةِ والتي محكومٌ عليها أن تنتهي، الخياراتُ قليلةٌ جدًا وموجعةٌ، ملاكٌ شابةٌ من أسرةٍ ثريةٍ ذاتِ حسبٍ ونسبٍ وتجارةٍ وسلطةٍ، بينما هو ابنُ فلاحٍ بسيطٍ، توفي والدهُ التهاميُّ قبلَ سنواتٍ بحسرتِه لأن أحدَ المتنفذين سرقهُ واعتدى على أرضِه الصغيرةِ التي تبلغُ خمسَة فدادين، ثم طلبَ المغتصبُ منهُ أن يعملَ كعاملٍ أجيرٍ بأجرةٍ يوميةٍ.
هناكَ اليمنُ، بلدُ القوانينِ المقلوبةِ واللامنطقيةِ، تعيشُ صراعاتٍ لا تنتهي، هذه العواصفُ السياسيةُ والاقتصاديةُ جعلت الكثيرَ من الناسِ ينسونَ معنى الحياةِ، يسألونَ عن ساعةِ الفرجِ التي طالَ انتظارُها ولا تأتي، وحدهُ الموتُ الذي يأتي مع أحصنتِه وعرباتِه ليدوسَ البسطاءَ المساكينَ، يحرمُهم السندَ والمعيلَ ويأخذُ زهرةَ الشبابِ، قرى وبلداتٌ كاملةٌ فقدت رجالَها وشبابَها في هذه الحروبِ والصراعاتِ التي لا يعرفُ أحدٌ نهايتَها.
يظلُّ سعيد ممسكًا بيدِ ملاكٍ وفي رأسِ كلِّ واحدٍ منهما شريطٌ لا ينتهي من صورٍ ومشاهدَ الخمسِ السنواتِ الأخيرةِ، يصلانِ إلى ركنِ حديقةٍ هادئةٍ كأنها خارجُ هذا الكونِ المتصدعِ والصاخبِ بضجيجِ الحروبِ، هنا الخضرةُ والألوانُ وزقزقةُ العصافيرِ التي تمتزجُ بتغريدِ الحمامِ وصراخٍ يأتي من البركةِ الصغيرةِ، إنه صراخُ بطةٍ بريةٍ تنادي صغارَها ليكونوا بجانبِها، يهبطُ بجانبهما سربٌ من الحمامِ الأبيضِ والأسودِ، يتأملُ سعيدٌ هذه الطيورَ وعناقاتِها لا يفرقُهم اللونُ، بعضُ الذكورِ بريشٍ لونُهُ أسودٌ وإناثُهم بريشٍ أبيضُ، وبعضُ الذكورِ بلونٍ أبيضٌ وإناثُهم يفتخرنَ بلونِها الأسودِ.
تبتسمُ له، أرخى يدَهُ ثم رفعَها ليشمَّ عطرها الساحرَ.
ينظرُ إليها ويفاجئها بكلامه:
أنا لستُ خادمًا مع كلِّ احترامي إلى فئةِ الأخدامِ، أنا هكذا بلوني الأسمرِ، تعلمينَ أني من عائلةٍ أصيلةٍ وشريفةٍ أيضًا، كان لنا أرضٌ وبيتٌ وعائلةٌ كبيرةٌ، جاءت الحربُ فدمَّرتْ بيتَنا ومعظمَ بيوتِ القريةِ، وجاء أحدُ المتنفذينَ ليغتصبَ أرضَنا ويقتلَ أبي الطيبَ، مات أبي حزينًا وهو يرى أرضَه يتمُّ تجريفُها، كلُّ حبَّةِ ترابٍ سقاها من عرقِه ودمِه وقبلَه جدي وقبلُهما جدُّ أبي، أنا أعترضُ على التصنيفاتِ الطبقيةِ المهينةِ لبعضِ الفئاتِ بسببِ لونِ بشرتِها أو نوعيةِ عملِها وحرفتِها، أن تكونَ حلاقًا أو جزارًا أو صانعَ أحذيةٍ أو أيَّ مهنةٍ فهذا لا يجعلكَ ناقصًا، من يعملُ خيرٌ من الذي لا يعملُ واليدُ البطالةُ نجسةٌ وكذلك اليدُ التي تسرقُ أو تقتلُ.
كأنها لم تقبلْ منه أن يُحدِّثها بهذا الشكل، فتردُّ عليه بنبرةٍ جادَّةٍ:
سعيد، نحن في الألفيّة الثالثة، ونحن عشنا في باريس، مدينةِ الأنوارِ والفنِّ والفكرِ. هل تعتقد أني فخورةٌ لأني بنتُ الشريفِ المتنفذِ والسياسيِّ، الشيخِ الذي لا يعترفُ إلا بنفسِه ومصالحِه ومكاسبِه؟ أنا أيضًا لا أرى فرقًا بين الناس، حتى لو كنتَ أنتَ من فئةِ الأخدامِ، وليس مجردَ رجلٍ ببشرةٍ سمراءَ قمحيةٍ فاتحةٍ. أنتَ جميلٌ في عيني وأميرٌ، ملككَ قلبي وحللتَ في روحي، خمسُ سنواتٍ من الحبِّ والعشقِ والسعادةِ. صحيحٌ أننا لم نفعلْ كما يفعلُ العشاقُ هنا، الآن أكررُ اقتراحي أن نتزوجَ هنا ونعيشَ بعيدًا عن كلِّ تلك الفوضى، أنتَ فنانٌ وستصلُ يومًا للمجدِ والشهرةِ وأنا سوف أدعمُك بكلِّ قوتي.

يتجمدُ سعيدٌ صامتًا لبعضِ الوقتِ، أحسَّت أن صمتَه طالَ لساعاتٍ وأيامٍ، كأن عصافيرَ هذه الحديقةِ فهمتْ ما يدورُ من حديثٍ، علتْ زغردتُها لتعيدَ تذكيرَهما بجمالِ هذا المكانِ وما حولَهما من شجرٍ وزهورٍ، في هذه اللحظةِ تهبُّ ريحٌ لطيفةٌ وتداهمُ أغصانَ الأشجارِ لتخلق رقصاتِ وتحركُ أوراقِها لخلقِ أهزوجةِ تبدأ تخففُ من حدَّةِ التوترِ.
تحسُ ملاك أنَّ الطبيعةَ حولهما تهمسُ إليهما بشيءٍ ما، تفكُ غطاءَ الرأس لتتركَ أيادي الريح تعبثُ بخصلاتِ شعرِها كما تشاء، يظلُّ سعيد مُشاهدًا للمشهدِ وكأنه يوحي إليه بلوحةٍ تشكيليةٍ لم يرسمْها أيُّ فنان، ملاك والريحُ والعصافيرُ، رقصاتُ الأغصان، يزدادُ المشهدُ دهشةً بتحليقِ بعضِ الفراشاتِ الكبريتياتِ والبيضاواتِ، أضفتِ الفراشاتُ الكثيرَ من البهجةِ بلونِها الأصفرِ الفاقعِ والبرتقاليِّ.
أحبَّ سعيدٌ ألا يُعكِّرَ صفوَ جمالِ المنظرِ وفرحةِ ملاك التي بدأتْ تتقدمُ إليه بخطواتٍ هادئةٍ، أهي نسماتُ الريحِ تجعلُ خطواتِها أشبهَ برقصاتٍ، يتخيَّلها في هذه اللحظةِ أنها فينوسُ ترقصُ، تتقدمُ نحوهُ وبيدِها التفاحةُ الذهبيةُ، بدتْ حركتها تشبهُ لوحةَ ميلادِ فينوسَ لساندرو بوتيشيلي. والفرقُ أنها ليست عاريةً، تضعُ ملاك يدَها اليمنى على صدرِها، تتراقصُ حولَها الفراشاتُ، يعبثُ النسيمُ بخصلاتِ شعرِها وفستانِها الحريريِّ الشفافِ الذي يُظهرُ مفاتنَ جسدِها المغري وما يحتويه المكان من ضجيجِ الألوانِ البهيجةِ، ينتهي المشهدُ الحالمُ ليدخلَ في مشهدٍ أكثرَ سحرًا، يراها الملكةَ بلقيسَ بفستانٍ طويلٍ يسحبُ على الأرضِ، لكنَّ لونَ الأرضِ لم يعد ذلك الأخضرَ والمفروشَ بأوراقٍ صفراءَ، يتغيرُ تركيبُ محتوياتِ المكانِ والألوانُ كلها تتحولُ إلى اللونِ الأزرقِ، وحدهُ وجهُ ملاك لا يتغيرُ، يبتسمُ سعيدٌ ويعيشُ هذا المشهدَ الجديدَ، بلقيسُ تمشي بخطواتٍ هادئةٍ على زجاجٍ ممردٍ كأنه لجةُ ماءٍ شديدِ الصفاءِ، ترفعُ أطرافَ فستانِها.
تصلُ مقابلةً له، تهزهُ وتهمسُ بصوتٍ ناعمٍ:
سعيد، سعيد، سلامات، إلى أين ذهبتَ؟
يستعيدُ نفسَه وعقلَه ويعودُ إلى الواقعِ، ملاك تناديه، كأنه يشعرُ بوخزةِ ضميرٍ، هو يحلمُ بها كلَّ ليلةٍ ولحظةٍ ولكنها المرةُ الأولى التي يُثيرهُ جسدُها ويرى صدرَها شبهَ عارٍ،  للحظاتٍ يُحدِّق في نهديها، تنتبه له، تتراجعُ خطوةً إلى الوراءِ، تعيدُ غطاءَ الرأسِ وتنظر إليه تلومُه لهذه النظراتِ وكأنها شعرتْ أنَّ نظراتِه لها شهوانية. يَتلعثمُ وهو يبحثُ عن عبارةِ اعتذارٍ، يُخفضُ بصرَه ويرد:
أعتذر يا ملاك، هذا المكانُ غريبٌ، لأولِ مرةٍ نأتي إليه، أُصارحكِ بالحقيقة أنني حلمتُ بأحلامٍ ساحرةٍ، رأيتكِ وكأنكِ فينوسُ ربَّةُ الجمالِ والعشقِ، وأنتِ ترقصينَ وبيدِكِ تفاحةٌ ذهبيةٌ، وتتقدَّمينَ نحوي ثم تغيَّرَ المشهدُ وتغيَّرت تفاصيلُه وملبسُكِ لتظهري بملابسَ ملكيةٍ ساحرةٍ، إذا أنتِ بلقيسُ ملكةُ سبأ تسيرينَ على الصَّرحِ المُمردِ، ثم تعالت سحبُ دخانِ البخورِ، أعتذرُ لكِ أنني حدقتُ في نهديكِ... عشقُنا ليسَ شهوانيًا، هذا المكانُ له رهبةٌ وسحرٌ خلَّاقٌ، ما رأيُكِ نغادرُ أم نُكمِلُ حديثَنا هنا؟
تتوقَّفُ للحظاتٍ، تتأمَّلُ وجهه والذي ينتظرُ أن تقبلَ اعتذارَه لتلك النَّظراتِ،
تبتسمُ وتتقدَّمُ نحوَه بخطوةٍ وتقول:
المكانُ جيدٌ ويُعجبني، تُعجبني خيالاتُك اللامعقولة، أنا ملاك، حبيبتُك، مرت السنواتُ بسرعة... تأكدتُ منذ زمنٍ بعيدٍ أني أحبُّك وحياتي لم ولن تكونَ بدونك، علينا أن نفعل شيئًا هنا، تعلم أننا إذا رجعت إلى أهلي سيكونُ بيننا ألفُ جدارٍ وجدارٍ، هم أقوى منا هناك، لكننا هنا نملك أنفسنا وخياراتِنا، يحمينا القانون، حُبُّنا وُلد هنا في باريس، وهو حُبٌّ بين ملاكٍ وسعيد، هناك سأكون ملاكَ بنتَ الشيخِ التي لن تستطيعَ فعلَ خطوةٍ واحدةٍ إلا بإذن، وسيكون حولي الحرسُ و... و... وستكون أنت هناك ابنَ الرَّعويِّ الذي لم يعد يملك شيئًا، لن يسمحوا لك بلمس يدي، وربما سيُطاردون أحلامك، وقد يقتلونها ويقتلونك بسهولة، ويقتلوني أيضًا، كما تعلم لستُ الأميرةَ المدللة، أسمعُ أبي كثيرًا ما يُردد ويقول: لديَّ عشرون بنتًا، أي عشرون مصيبةً وعارًا، قام بتزويجِ معظمِ أخواتي زيجاتِ مصلحةٍ، يُصاهر هذا الشيخَ أو ذاك التاجرَ... أنت تعرف كل شيء.
يبتسم ثم يرفع رأسه إلى السماء يتأمل زرقتها الصافية، يتقدّم نحوها خطوة، تُسرع وتمسك يده اليمنى، يسحبها منها بلطف ويقول:
تعلمين بحبي لك ومنذ طفولتي وأنا أعشقك، أشترى أبوكِ بيتًا أنيقًا عالي البنيان، مع ذلك لم يكن بيننا حدود ولا فواصل، الحب الطفوليّ لا يعترف بالفوارق بين بنت الشيخ وولد الرعوي، ثم غادرتم المدينة وأخذتكِ صنعاء ولم أصدق نفسي عندما جمعتنا بباريس وهدمت الفوارق بيننا لنعود إلى عشقنا الطفولي نتحدّث ونضحك وأمسك بيدكِ وتمسكين بيدي... أعلم أن الأمر ليس سهلًا إذا عدنا... المجتمع فيه الكثير من التعقيدات... سرقنا هنا اللحظات والأيام بعيدًا عن الأعين والعادات والتقاليد... الآن خلصنا الدراسة سنرجع إلى ذلك المجتمع... هل تعتقدين أنه سيفهمنا؟
تناديه مترجية:
خلينا هنا... نكمل دراستنا ونتزوج ونعيش حبنّا... هنا القانون يحمينا وأنا معك مستعدة لكل شيء.
يبتسم، تتدحرج من عينيه دمعة، تسرعُ لتلتصق به وتمسح دمعته وكأنها تحضّه أن يرد بكلمة (نعم)، لكنه يعلم أن "نعم" هنا ستكلفه الكثير وقد تمتد إليهما يد الشيخ إلى هنا، يرد بصوت يملأه الحزن:
حبيبتي لا... لا يمكنني أن أقول نعم، نعم قد تحصد أرواحًا بريئةً هناك، سيفتك الشيخ بمن بقي من عائلتي، علينا... مواجهة المعركة هناك مثل غيرنا، أعرف أصدقاء منهم السني الذي تزوج شيعيةً أو الشيعي الذي تزوج سنيةً وحتى صار تزاوجٌ بين مسلمٍ ومسيحيةٍ... كل المجتمعات تتغير، سأذهب وأطرق البيوت من أبوابها وربما يحنُّ قلبُ أبيك الشيخ ويقدّر شجاعتي، لا أريدكِ أن تندمي يومًا على خياركِ ولا أرى نظرة أسفٍ ولا يقول عليكِ أحدٌ أنكِ تخليتِ عن عائلتكِ من أجلي.
تصمت للحظات، تشعر وكأنها ضائعةٌ في صحراء قاحلةٍ لا ماء فيها ولا شجر، ضائعةٌ بدون بوصلةٍ ولا خريطةٍ، وحدها في جوٍّ عاصفٍ بريحٍ تمحو معالم الطرق وآثار الخطوات، تزيد عطش الضائع وترسم له أبواب الخوف.
تلتصق به أكثر وللمرة الأولى يفعلان مثل هذا التلامس الجسدي الشجاع، تنظر إليه وتهمس له بصوتٍ خافتٍ:
وضعنا أكثر تعقيدًا، مذاهب أهلنا أيضًا مختلفةٌ، أنسيتَ أن مذهب الشيخ هو المذهب الزيدي ومذهبكم المذهب الشافعي؟ موضوع اختلاف المذاهب كما قلت يمكن أن نتجاوزه... أنا متأكدةٌ إذا وصلنا... لن نستطيع أن نلتقي... أنا خائفة... خلينا نتشجع هنا، ممكن نعيش حياتنا، ربما الشيخ وإخوتي قد اختاروا لي زوجًا يناسبهم ويتوافق مع مصالحهم، نحن بعودتنا نجازف بسعادتنا، لن تكون لي حياةً بعيدًا عنك، قد يقسو الشيخ على أهلك ولكنني لا أعتقد أنه سيقتل أحدًا، أبي يحب مصالحه ولكنه ليس بقاتل.
يصمت سعيد، يظلُّ جامدًا، تسحبُ ملاك نفسها برفق، تظلُّ المسافة بينهما صفرًا، ظنَّت أنه سيمسكُ بيدها ويدعوها لعناقٍ أطول، لكنه تراجعَ خطوةً إلى الخلف، ثم أكدَ على تراجعه بخطوةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ إلى الخلف، تشعرُ الآن أنها وحيدةٌ في هذا العالم، هذا العالم الذي يزدادُ قسوةً وعنفًا ولا يحمي العشاق، لا يحمي الأحلام الصغيرة والبريئة.
تبدأ ملاك في البكاءِ، الدموعُ تُغرقُ وجهها الجميل، لم يمدَّ سعيد يده إليها، تجولُ بدواخلها الكثيرُ من الاحتمالات المتضاربة، ويسألُ نفسه والشجرَ والعصافير: هل هو جبانٌ أم يخافُ من موتِ أرواحٍ بريئة؟
نعم، بوسعِ الشيخِ أن يتمنى موتهم وينتقم، وسيجدُ ألفَ يدٍ ويدٍ تنفذُ أيَّ جريمةٍ يريدها، لا يهمُّ نوعها، سواءً كانت حرقًا أو قتلًا أو سحلًا أو مصادرة أراضٍ أو هدمَ بيوتٍ.
في زمنِ الحربِ لا حرمةَ لدماءِ البسطاء، تأكلُ الحربُ أرواحهم وأمانيهم وتزجُّ بهم في جحيمٍ وعذاباتٍ مؤلمة، فتصبحُ الحياةُ بلا حياةٍ.
كأنَّ سعيدًا يخافُ أن يضعفَ أمام عرضِ ملاك، لم يكتفِ بتراجعه خطواتٍ إلى الخلف، تراه الآن وهو يغادرُ دون وعدٍ، دون كلمةٍ نعم، دون أن يتقدمَ لترتمي هي في أحضانه، أحستْ أن مغادرته تعني أنه يطوي سنواتٍ وسنواتٍ من الحبِّ والعشق، تعاودها الأسئلة عن الأحلامِ الكبيرةِ وقصائده التي كتبها وتلاها صلاةً وتقديسًا لهذا الحبِّ الذي اعتقدته سيحيا ويكبرُ ويعلو ليكونَ نموذجًا وقصةً تُحكى إلى الأبد.
ظلتْ ملاكٌ متجمدةً في هذا المكان، مسحتْ دموعها، يعودُ بصرُها ليتجوّلَ في هذا المكان، كأنَّ العصافيرَ والحمامَ والفراشاتِ حزنتْ لحزنها، لقد شاهدوها وهي تدخلُ المكانَ مع حبيبها، وكانت يداهما متشابكتيان، روحهما ترفرفانِ في ملكوتِ الحبِّ، كأنَّ كلَّ شيءٍ هنا حالِمٌ، تمنتْ هذه الكائناتُ الموجودةُ في هذا المكانِ أن يقولَ سعيدٌ نعم، ألا أنه يتراجعُ خطواتٍ إلى الخلفِ ويتسببُ بجرحِ هذا القلبِ الملائكيِّ الذي يحلمُ بسلامٍ يعمُّ الكونَ من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، وسلامٍ خاصٍ تحتاجه لنفسها ولبلدها تلك البلادِ، تلك الأرضِ الطيبةِ التي زُجَّ بها إلى جحيمِ الحروبِ والعزلةِ.
تراقصت الفراشاتُ حولها وأبدت دعمها وكأنها ملكتهن المبجلة وينتظرن أمرها، شعرت ملاك بهذه الكائنات الأنيقة حولها وتمنَّت أن تحلِّق معهن إلى البعيد، للحظة رأت سرب الفراشات يحملها ويرتفع بها إلى الأعلى ثم رأت نفسها تتحوَّل إلى فراشة ملكية تحلِّق مع هذا السرب إلى بوابة السماء، أغمضت ملاك عينيها ثم أعادت فتحها، تعود إلى هذا الواقع.
ها هي تسمعُ الآن، تغريد الحمام وزقزقة العصافير وهم يغنون بحزن وصوت خافت، تسحبُ الريح نسائمها اللطيفة، تتوقَّفَ الأشجار عن الرقص، تتوارى الشمس في أعلى السماء، تخطو خطواتها إلى الخلف تاركة فضاء السماء لسحب رمادية باهتة.
بينما تهمّ  بمغادرة هذا المكان، الذي لا يبعد كثيرًا عن شارع الشانزليزيه، بعد أن تركها سعيد ولم يقبل اقتراحها، هنا تتلقى اتصالًا من والدها يُخبرها أنه حجز لها على رحلة باريس ـ القاهرة، وأن مفاجأة سارة تنتظرها في القاهرة.
وتلقت منه الأمر بأن مغادرتها ستكون بعد ثلاثة أيام، وعليها ألا تؤجل الرحلة لأي سبب.
تعلم أن والدها وعائلتها يعرفون جيدًا قصتها مع سعيد، لم يوافق أحدٌ، ولم تجد دعمًا من أمها، حذرتها أمها من أي فعل متهور، وذكرتها أن غضب الشيخ لا حدود له، وأن العواقب واللعنات ستحل على أشقائها وشقيقاتها.
بكت الأم في إحدى المكالمات وقالت لها:
سيقتلك الشيخ ويقتلني، منذ هذه القصة والشؤم يحل بيّ، كلما دخل أبوك عليه يلعنني ويتهمني أني فشلت في تربيتك، زواجك من سعيد الرعوي الفقير الأسمر سيجلب علينا الكوارث واللعنات.
بخطوات ثقيلة وجسد مثقل بالهموم، تخطو ببطء لتغادر المكان، ترسلُ إلى سعيد رسالة تخبره بموعد مغادرتها وأنهت كلامها بعبارة:
"قل نعم، أرجوك... قلها".
مضت الثلاثة الأيام الأخيرة لملاك في باريس ببطءٍ وثقل، قضتها باكية وتنتظر كلمة "نعم" التي لم تأتِ.
أنهت أمورَ مغادرتها وسلمتْ غرفتها في المدينةِ الجامعيةِ، لم تخبرْ أحدًا من صديقاتها ومعارفها. بالنسبةِ لها، باريسُ هي سعيدٌ وسعيدٌ وحده، الصديقُ والرفيقُ والحبيبُ، شاعرُها وربما تكونُ هي المتلقيةُ المهمةُ والقارئة المعجبة بما يكتبه، فهذا الحبّ مركزُ كلِّ قصائده وهذيانه.
لم تودعْ باريسَ كأماكنَ، أتاها الإحساسُ الآنَ وهي تغادرُ إلى المطارِ أن باريسَ بكلِّ أماكنها الشهيرةِ وحدائقها وتماثيلها وأزقةِ شوارعها القديمةِ، كلُّ شيءٍ يسكنُ قلبَها ويركضُ في عروقها.
وفي هذه اللحظةِ، تتذكرُ مدينةَ صنعاءَ القديمةَ وتأملُ بأن تراها، فهي القادرةُ أن تعالجَ جراحها، ولكن هل سوف يسمحونَ لها أن تتحركَ بحريةٍ أم سيفرضونَ عليها إقامةً جبريةً؟
لم تفكرْ في المفاجأةِ التي تنتظرُها في القاهرةِ، لا تريدُ منهم شيئًا، تريدُ أن يتركوها في سلامٍ.
عند دخول ملاكُ الطائرةَ، تشير إليها المضيفةُ أن تتوجهَ إلى مقصورةِ الدرجةِ الأولى، تتوجه إلى مقعدها بخطواتٍ بطيئةٍ وهي تمسكُ هاتفها، ربما تصلها كلمةٌ "نعم" من سعيدٍ. وتصلُ إلى كرسيها، ترمي بجسدها ولم تشعرْ بفخامةِ المقعدِ وليونته، تمضي الدقائقُ الأخيرةُ لها في باريس، تأتيها تلك المشاهدُ اللطيفةُ مع حبيبها، تهطلُ كمطرٍ ناعمٍ، وإلى قبلَ دقيقةٍ من الإقلاعِ وهي تنتظرُ كلمةً منه، لكنه ظلَّ صامتًا ولم يكلفْ نفسه أن يطمئنها عن نفسه.
تحلقُ الطائرةُ، تبكي ملاكٌ بكاءً صامتًا ولم تعد تفهمُ حبيبها، بعد نصفِ ساعةٍ من تحليقِ الطائرةِ في الجوِّ، يأتيها إحساس كأنه هاتفٌ يدعوها أن تتجولَ في ممرِّ مقصورةِ الدرجةِ الثانية، تلبي النداءَ، تتتحركُ وتمشي بخطواتٍ هادئة إلى نهايةِ الممرِّ، المفاجأةُ، تجدهُ، سعيدٌ يجلسُ وحده، لا جارَ له ولا رفيقٌ.
تقترب ُمنه بينما يكون يسبحُ في عالمه الخيالي كعادته، ترتمي بين ذراعيه، يفيقُ من حلمه، لا تدري ما تقوله له، تتعثرُ عباراتها وهي تهزه إليها وتبكي:
سعيدٌ، ثلاثةُ أيامٍ وأنا أتجرعُ كؤوسَ الحزنِ والضياعِ، أجئتَ لتقولَ نعمَ؟ قلها الآنَ وأنا سأذهبُ إلى كابتنِ الطائرةِ، سوف أترجاهُ أن يهبطَ بنا في أقربِ مطارٍ، سأحكي له كلَّ شيءٍ وأنَّ وصولي القاهرةَ حكمٌ ظلمٌ بالإعدامِ، قلها أرجوكَ وسأفعلُ المستحيلَ، سأحكي للركابِ وللعالمِ كلهِ أنَّ قبرًا باردًا موحشًا ينتظرني... سيوافقون جميعًا أن نهبطَ بأيِّ مطارٍ، لا أحدَ يقبلُ أن تموتَ فتاةٌ جميلةٌ مثلي، أنتَ تصفني بالزهرةِ والوردةِ، أتقبلُ أن تذبلَ وردتكَ وتفقدَ رائحتها العطرةَ؟ قلها يا رجلُ!
يبكي سعيدٌ كطفلٍ صغيرٍ ضائعٍ لا يتذكر اسمهُ ولا من أين جاءَ وإلى أين سيذهبُ، تحدثَ أخيرًا وهو يشمُّ عطرَ ملاكٍ وكأنَّ روحهُ عادت إليهِ، يقول لها:
أنتِ الحبُّ الأولُ والأخيرُ، سأذهبُ إلى أهلكَ وأطلبكِ زوجةً إلى الأبدِ.
تقاطعهُ وهي غيرُ راضيةٍ عن قرارهِ وتعاود تهزهُ كي يفيقَ:
أنتَ حبيبي وزوجي، وهبتكِ قلبي وروحي وكنتُ مستعدةً أن أهبكِ جسدي، كلُّ العشاقِ في باريسَ والكونِ يفعلونَ الحبَّ، فعلُ الحبِّ ليسَ خطيئةً للعشاقِ، أنا ندمتُ لأني طلبتُ منك أن يكونَ عشقنا عقلانيًا، ليتنا كنا مجانينَ وفعلناها، أعلمُ أنَّ أعينَ والدي كانت ترصدني وكنا نهزمهم ونلتقي، هزمنا الجواسيسَ وكلَّ الصعوباتِ، قلها الآنَ.
هنا، في هذه اللحظة، تحدثُ مفاجأةٌ غير متوقعةٍ، ينوّهُ كابتنُ الطائرةِ بضرورةِ ربطِ الأحزمةِ والمكوثِ بالمقاعدِ وعدمِ التحركِ بسببِ مطباتٍ هوائيةٍ تجتازها الطائرةُ، تشعرُ ملاكٌ أن السماءَ تسمعُ آهاتها وحزنها وتعلمُ مصيرها، وها هي ستفعلُ شيئًا كي لا تصلَ الطائرةُ إلى القاهرةِ، تعمُ الفوضى لمدةٍ أكثرَ من ربعِ ساعةٍ ثم يسودُ الهدوءُ لبعضِ الوقتِ ثم يعودُ الضجيجُ.
تتحولُ الطائرةُ كسفينةٍ تتجاذبها أيادي الريحِ وتركلها أرجلُ الموجِ الصاخبِ، في هذه اللحظةِ المرتبكةِ، يتخيلُ سعيدٌ وكأنه على متنِ سفينةٍ صغيرةٍ في بحرٍ هائجٍ، تعصفُ بها الأمطارُ والريحُ والموجُ، هنا يرى نفسه يتشبثُ بأحدِ الحبالِ، يسمعُ الركابَ يصرخونَ ويقولونَ بيننا شخصٌ منحوسٌ ويجبُ أن نخففَ من ركابِ السفينةِ ونعملُ قرعةً وسنعرفُ من هذا المنحوس الذي سيتسببُ في هلاكنا، يسارعونَ بعملِ قرعةٍ وتكونُ النتيجةُ اسمه، هنا يمسكونَ به ويقيدونه مع قالبٍ حديديٍ ثقيلِ الوزنِ ويرمونَ به، فإذا بالسفينةِ تنجو من الغرقِ، يشعرُ أن جسده يهبطُ ويهبطُ إلى القاعِ، لم يأتِ الحوتُ ليبتلعه ويحبسه في بطنه ثم يقذفه بجزيرةٍ تحتَ شجرةِ اليقطينِ، يشعرُ أنه سيظلُّ يهبطُ ولا يصلُ إلى قاعِ البحرِ، يرى نفسه مستسلمًا لقدرهِ
ربما ملاكٌ هي الوحيدةُ المبتسمةَ، بدت متلهفةً لإعلانِ الكابتنِ الهبوطِ في أيِّ مطارٍ ولو لبعضِ الوقتِ، تتمنى من كل قلبها أن يحدثَ ذلكَ.
يظلُّ سعيدٌ صامتًا، يحاولُ أن يحمي ملاكَ ويبدأ قلبه يخفقُ بكلمةِ "نعم"، يراجعُ نداءَ حبيبتهِ، تكادُ شفتيه أن تقولُها، هنا يسمعُ إعلانَ كابتنِ الطائرةِ يطمئنُ الركابَ على تجاوزِ المطباتِ الهوائيةِ وأن الوصولَ سيكونُ بعدَ نصفِ ساعةٍ.
تتجمَّدُ ملاك لهذا الخبرِ، تنهضُ، تمشي ببطءٍ إلى مقعدها، تُخرجُ من حقيبتها البالطو وتلبسهُ وتضعُ البرقعَ، تسلِّمُ نفسها إلى قدرها. في لحظةِ هبوطِ الطائرةِ وخروجِ الركابِ يُشرقُ وجهُ ملاكٍ وقلبُها بنورٍ ساحرٍ كأنه نورُ الشهيداتِ.

*****

(*) تصدر "خمسة/خمسة" قريبًا وهي الرواية العاشرة التي يصدرها حميد عقبي وأطول أعماله الروائية حيث تتكون من 52 ألف كلمة. وأصدر عقبي هذا العام تسع روايات في سبعة كتب. كما نشط عقبي في النشر خلال عام 2023 و2024 بإصدار 25 كتابًا بمجالات متعددة (الشعر، القصة القصيرة، النص المسرحي، السيناريو). وكتب باللغة الفرنسية وصدر له ديوان مترجمًا إلى الألمانية ونص مسرحي مترجمًا إلى الإيطالية وثلاثة كتب باللغة الفرنسية.
لعقبي 29 كتابًا سابقًا في مجال القصة القصيرة والنص المسرحي والنقد السينمائي نشرها في الفترة بين 2012 و2016 وهي متوفرة إلكترونيًا.
أسس عقبي ويدير المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح منذ نهاية 2018 ولا يزال هذا المنتدى ينشط بندوات وملتقيات نقدية إفتراضية إلى الآن.
دخل عقبي مغامرة الفن التشكيلي منذ 2020 وأقام عشرة معارض فنية في فرنسا، كما أخرج وأنتج عشرة أفلام سينمائية قصيرة منها ثلاثية تحت مسمى "سينمائية القصيدة الشعرية".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.