الطقس كان ربيعيًا. الزهور ملأت الطبيعة، والأشجار تفتحت أوراقها، وأصبح اللون الأخضر المحبب إلى نفوسنا يملأ الأرض، التي اكتست باللون الأصفر والأحمر والأبيض. الحافلات الخضر جاءت إلى جنوب المدينة لنقل الذين يرغبون في الذهاب خارجها، والنساء وضعن ما غلا ثمنه في البقج قبل الرحيل، والأطفال يبكون حولهن متمسكين بهنّ، والرجال يصرخون على لا شيء، وعلى أكتافهم البواريد يريدون الخروج.
جاءت الحافلات، وأطلقت جعيرها لتقول للناس: إنّ وقت الرحيل قد أزف، ها نحن في انتظاركم. صعدت النساء والأطفال وهن يودِعن أهلهنّ، ويدفعن أمامهن طفلًا، أو اثنين، للركوب في الحافلة، والرجال أيضًا كانوا يقبلون آباءهم وأمهاتهم. العويل والبكاء ما زالا سيد الموقف.
أعلنت الحافلات بزماميرها أنّ الرحيل قد حان، وأغلق السائقون الأبواب، وانطلقت تروم فضاء الله، وعاد المودِعون إلى بيوتهم حزانى على الذين رحلوا، وجلسوا يعدّون الأيام التي لا تنقضي. وحدها زوجة أخي لم يعنها الأمر، وأوصت ابنها الهارب من خدمة الجيش ألّا يخاف، فالعقوبة القصوى التي سوف يقومون بها هي وضعك في الحبس لمدة تسعة شهور، ثمّ يخرجونك لتعود إلينا. والولد، يا عين أمّه، صدق هذا الكلام، ولم يعد يخاف، فهو عند أمِه، وبجانب زوجته يلاطفها، وابنته الصغيرة يداعبها، ووالده سوف يعود من المدينة التي في قلب النظام هذا اليوم.
الحي الذي يسكنونه يقع في منطقة هي بمثابة الرئة لمدينة حلب، والأب، الذي هو أخي، يعمل موظفًا عند الدولة، استأجر بيتًا فيها وراح يداوم على عمله، في انتظار أن تهدأ الأمور كي يعود إلى أهله ويقضي معهم أيامه في ثبات ونبات، أي مسرورين. ولكن العيون لم تترك الولد يبتهج في فرحته. لقد بلّغوا عنه، ومن فعل ذلك، إنّه شريكه الذي يبيع معه الفروج المذبوح، قال للدورية: هنالك شاب هارب من الجيش، وهذا بيته.
شباب الدورية كانوا أربعة، انتظر اثنان منهم أسفل الدرج، واثنان طرقا الباب، وعندما فتحت الأم، قالوا: نريد الشاب، تلجلجت ولم تعرف ماذا تفعل، فما كان من أحدهم إلا أن دفعها ودخل إلى البيت. وفي أثناء التفتيش، عثروا على الشاب مكوّرًا في الزاوية. أوقفوه وطلبوا منه الأوراق، فما هشّ ولا بشّ، وصار يرتجف، ثمّ أنزلوه إلى السيارة مكبلًا. ماذا ستقول للأب إن عاد. ظلّت هكذا إلى أن أطلّ عليها الشاب الذي جاء مع المجموعة، فقال لها: لا تخافي، ابنك صار عندنا وهو في أمان، إن شاء الله سيفرجون عنه اليوم، سوف نعطيهم بعض المال، نسكتهم به، هل عندك شيء نرضيهم به. المخلوقة قالت إنّ عندها شيئًا منه. هاته بسرعة، هكذا قال الشاب. فأخرجت ما لديها وأعطته للشاب، كان يقدر بأربعة ملايين، وهو مبلغ محرز في لغة تلك الأيام. قال الشاب: هل عندك ذهب لنرضيهم به أيضًا؟ فأخرجت ذهبها من يوم الخطبة، وكانت ترفعه إلى يوم كريه، مثل هذا اليوم. الشاب ضبّ النقود والذهب وغادر متمنيًا لها عودة ابنها اليوم.
حين عاد الأب من وظيفته لم تبلغه بما حصل، وصارت تلوب في البيت، وعندما سألها عن الولد، تهرّبت من الإجابة، ولم تدر ماذا تقول، فصرخ بها وطلب أن تخبره أين هو، حين ذلك انهارت وأبلغته عن كل شيء حصل.
ضرب الأب كفيه ببعضهما، ونفخ ثمّ صرخ، وضرب رأسه على الجدار، ثمّ جلس. قالت له زوجته: اليوم سوف يخرجونه، هكذا قال لي الذي أخذه، واعترفت بأنّها دفعت المال والذهب كي يطلقوا سراحه. انتظر الأب مع زوجته وباقي الأسرة من البنات كلّ اليوم. لكن الولد لم يأت. الأب يدخن، والأم لا تعرف ماذا تقول، وانقضى اليوم واليوم الثاني والثالث، ولم يأت الولد، ربما يكملون التحقيق معه، سيفرجون عنه حتمًا، ألم يأخذوا المال والذهب؟
مضى الأسبوع والأب أخذ إجازة من وظيفته وراح يبحث عن ولده. جاءه بعض الذين يستفيدون من هكذا ظروف، وطلبوا منه كثيرًا من النقود. قال: لم يبق معي منها شيء، قالوا: استلف وتوفيها بعد ذلك. اتصالات ومقابلات كلُها لم تؤد إلى نتيجة. وفي النهاية، نصحوه بأن يبحث عنه في الفروع الأمنية، فحمل نفسه وصار يدور عليها فرعًا وراء آخر، هل جاء عندكم معتقل صفاته كذا، فيقابل برفع الأيدي، كنا أعطيناك إياه، ماذا نفعل به. زار الفروع كلّها، ولم يستطع الحصول ولو على معلومة صغيرة. قالوا له ربما في المستشفيات يكون. عمد إليها وأصبح يتردد عليها واحدة بعد أخرى، المستشفيات العامّة ثمّ الخاصة، ولم يجد ابنه. قعد ملومًا محسورًا، لم يدر ماذا يفعل. زار الفروع التي في العاصمة، ولكنه لم يجد خبرًا شافيًا. كان ينظر إلى الزوجة ويهزُ رأسه، وينفجر بين لحظة وأخرى، لم يعد يذهب إلى عمله، وطالت ذقنه، وصار لا يكلم أحدًا. وحين يسأله بعض الناس عن وضعه، كان لا يجيب. لقد أهمل نفسه، كأنه على البركة. لقد شاخ قبل الأوان. ثم اكتشفت أنّه صار يشرب الخمر، وذلك من رائحته التي صارت تنبعث منه. إنّه يضرب زوجته بسبب أو من دون سبب، ويعنف بناته. أخي له عشرة أولاد، ثمان من البنات، واثنان من الذكور، الشاب الذي نتكلّم عنه، والثاني في عمر خمس سنوات. الكبير عندما بلغ سن العسكرية ذهب وسلّم نفسه، وبعد ثلاثة أشهر أخذ إجازة انتهاء المرحلة، واستطاع أن يصل إلى بيتهم بشق الأنفس. بقي يومًا كاملًا حتى وصل إلى بيته. أخفى الهوية، ودفع النقود ليصل إلى أمِه وزوجته وابنته. بقي حتى انتهاء الإجازة، ثمّ مدّدها من عنده، ولأنّه في المنطقة المحررة، كما يسمونها، صار الحمل عليه ثقيلًا، وانقطع عن العسكرية، وقام ببيع الفروج في النهار، وفي الليل يجلس قرب أمه وزوجته، ويداعب ابنته حتى تنام، لم يدر أنّهم سيرحلون خارج المدينة، إلى أن وقع الفأس في الرأس، عندما كان ذلك اليوم، فقد أفاق ووجد المسلحين قد رحلوا مع عائلاتهم وبقي هو، وباعتبار أنّه لم ينتم إلى أي تنظيم، ويحب أمّه كثيرًا، ويسمع نصيحتها، لذلك بقي، وقالت له كلمتها المشهورة: في النهاية يمكن أن يسجنوك، وكلها كم يوم وتخرج، اطمأن الشاب وأقعى بجانبها، إلا أنّ أولاد الحلال، أو الحرام، زكوه ودلوا الدورية على مكان بيته، فاصطادته وأخذته.
أخي الذي أهمل نفسه وصار يشرب الخمر، ولم يعد يذهب إلى وظيفته، ويضرب زوجته، صار وكأنّه الأهبل، كان يجوب الشوارع في الليل وكأنّه قط مذعور، وعندما يصبح الصباح يلتجئ إلى البيت كأنّه ينتظر موته. تداعينا نحن إخوته الذكور والإناث، وقلنا له: "حرام هذا الذي تفعله بنفسك، هذه إرادة الله، هو الذي اختار لنا هذا. تأكد من هذا وكن مع الصابرين". استطاع أخي الأكبر أن يقنعه بأن يمرّ عليه كلّ يوم كي يكونا من القادريين.
وهكذا استطاع الأخ الأكبر أن يجعله يترك شرب الخمرة، وتحوّل إلى فئة المصلين الذين عن صلاتهم لا يخشون لومة أحد. وصار أخي يفتش في دائرة الأحوال المدنية، واستخرج له بيان عائلي ليكتشف جنب اسم ابنه الذي كان هاربًا من الخدمة الإلزامية عبارة مات بتاريخ (....)، وعند ذلك أطلق لحيته ولبس المسوح، ووضع عرقية على رأسه، وصارت له سبحة، وأصبح يصلي في الناس، فكان كالإمام عليهم، ولم يعرف أي فرع اعتقله حتى تاريخه، إنّه يريد جثة ابنه كي يدفنها بطريقة رسمية، ويقيم العزاء له كي تطمئن روحه ويدفنه بسلام.
ابن أخي الذي ضاعت جثته وأصبح في خبر كان
فيصل خرتش
25 نوفمبر 2024
يوميات
(سعد يكن)
مقالات اخرى للكاتب
يوميات
25 نوفمبر 2024
سير
25 أكتوبر 2024
سير
17 يوليه 2024
يوميات
24 يونيو 2024