كحلة القمل
حدثنا زوج خالة والدي وهو من مواليد النصف الثاني من القرن التاسع عشر فقال:
ــ تسلط عليَّ الرمد حتى لم تعد تنفع معه القطرات، ولا غسول البوريك، ولا أملاح التوتياء.
مرت جِمال (عنزة) على ماء الحميرة، وهي قناة صغيرة كانت دائمة الجريان. نشفت القناة لمدة نصف النهار بعد أن ارتوت الجمال.
ــ سألت أحد الرعاة وهو عجوز تبدو عليه علامات السكينة: هل عندك دواء لهذا الرمد؟
قطب عينيه وتفرس في وجهي، وقال: ليس لك سوى أن تكحل عينيك بالقمل المحموس!
عدت إلى دير عطية، وطلبت من الأسرة أن تجمع قملها. ثم توجهت إلى جيراني من آل نصر، وطلبت منهم أن يجمعوا قملهم أيضًا.
جمعت القمل في علبة كبسول فارغة، وأحضرت مسمارًا أمسكت طرفه المدبب بالكماشة، ووضعت قبعه على النار حتى احمر، وأخذت أحمس القمل في العلبة حتى صار ينتفخ ويطقطق.
كررت العملية حتى نضج القمل.
صببته في هاون النحاس، وطحنته حتى صار كحلًا. وبواسطة ميل الكحل صرت أمرره بين جفني بعد غطه بذلك المسحوق السحري. ويشهد الله أني لم أتعرض للرمد بعدها!
اللص
أقام القسيس الدانماركي منزله الفسيح على تلة جنوبي البلدة وما زال اسمها المتداول "رابية القسيس".
شمل نشاطه التبشيري إقامة ندوات للنساء تساعده فيها زوجته التي تتحدث العربية الفصحى، وتوزّع على النساء بعض المساعدات، كالألبسة، والأغطية، وبعض النقود في الأعياد الدينية.
في نهاية حديثها الشائق عن حياة المسيح ونشاطه بين الناس، قالت واحدة من النسوة الحاضرات: الله لا يموتني غير على دين المسيح بجاه نبينا محمد!
مرةً، جاءت واحدة تتسول بطانية، فقالت للقسيسة: غانم يا خالتي تغطى باللحاف وذهب إلى الكروم والمطر نازل من تم قراب! ثقل اللحاف ولم يعد يقدر على حمله فألقاه على الطريق وعاد إلى البيت، ونحن أصبحنا من دون غطاء.
ربما كانت هذه الرواية من اختراعها، أو أنها كانت صحيحة. وعلى أية حال عادت ببطانية؟
كان نشاط القسيس يقابل بريبة من المسيحيين المنتمين في عمومهم للمذهب الأرثوذكسي. رأوا في ذلك تشجيعًا على الخروج على ملة الآباء والأجداد، فاقتصر جمهوره على الجيران من فقراء المسلمين.
والمشكلة العويصة كانت في فرق التوقيت بين الشرقيين المتأخرين أسبوعين عن التوقيت الذي يسير عليه.
في ليلة عيد الميلاد، آوى إلى فراشه متأخرًا بعد أن أنهى مع زوجته ترتيبات الغد. سمعت الزوجة حركة في باحة الدار، فانسلت من فراشها، وأخذت البندقية الفرنسية المعلقة على الجدار إلى جانب مصباح الكيروسين.
قف أيها اللص! قالت بصوت عال وهي تدفع المغلاق خلف الطلقة في البندقية، مما جعل الدم يجمد في عروق (ح .ع). وأكملت: حتى أسأل القس... توقف الرجل في مكانه، وعادت هي إلى الغرفة لتوقظ زوجها وتسأله. أمرها القس بأن تدع الرجل وشأنه. وحين عادت وجدت بطانية صوفية ملفوفة وملقاة على الثلج.